مقالات مختارة

ملامح الاختلاف في التجربة التفسيرية بالمشرق والمغرب

بقلم د. زيد الشريف

إن الحديث عن التفسير بالغرب الإسلامي، وأَوْجه التشابه بينه وبين التفسير بالمشرق – في رأيي -: حديثٌ عن أخوينِ توءمينِ لا يوجد بينهما فرق كبير، إلا من حيث لَمسة كل مفسر، والتخصصُ الذي برع فيه، وفي طريقة الترتيب والصياغة.

أما من حيث الجوهر، فإن كل المفسرين خضعوا للعملية التفسيرية على ضوء ما اتُّفِق عليه من ضوابطَ وقوانين ينبغي الالتزام بها في التفسير، ومَن حاد عنها أو فسَّر بهواه، فهو مما ينبغي أن يُردَّ تفسيره ولا يُعمل به أصالة.

واقع الأمر هو أن التنوع في المشرق أو المغرب كان من باب التنوع في التأليف في التفسير من حيث مناهج التفسير المعروفة؛ فمِن العلماء مَن كان تأليفُه على منوال التفسير بالمأثور المنضبط بالأسانيد وتقصي أقوال السلف، كما هو الشأن بالنسبة للطبريِّ وبَقِيِّ بن مَخْلَد في تفسيريهما.

ومنهم مَن عمد إلى حذف هذه الأسانيد واختصار الأقوال، مع الالتزام بالتفسير بالمأثور؛ كما هو الحال مع ابن كثير وابن عطية.

ومن العلماء مَن ألَّف في التفسير على طريقة التفسير بالرأي المحمود؛ فمنهم مَن اختص بالتفسير الفقهي المتعلِّق بأحكام القرآن؛ كابن العربي، والقاضي إسماعيل البغدادي، وابن الفرس.

ومنهم مَن اهتم بالتفسير اللُّغوي البياني، وعُنِي باللغة والإعجاز البياني؛ كالزمخشري في الكشاف، وأبي حيان الأندلسيِّ في البحر المحيط.

ومنهم مَن اهتم في تفسيره بمعاني القرآن ومفرداته؛ كمفردات الراغب الأصفهاني، ومعاني القرآن للفراء، ومفردات القرآن لابن الدقاق الإشبيلي 605[1]، ومنهم أبو حيان الغرناطي محمد بن يوسف الأندلسي ت 745 هـ، الذي ألف “تحفة الأريب بما في القرآن من الغريب”[2].

ومنهم مَن سلَّط الضوء في تفسير القرآن الكريم على علمٍ معيَّن كعلم المناسبة، ونجد من هؤلاء تفسير “نظم الدرر في تناسب الآيات والسور” لبدر الدين البقاعي، وابن البناء المراكشي أحمد بن محمد بن عثمان ت 723هـ، صنف كتابًا في مناسبات الآي[3].

ومنهم مَن عمد إلى تأليف تفاسير هي بمثابة مختصرات لتفاسيرَ مطولة؛ مثل: تفسير ابن أبي زَمَنِينَ ت 399هـ، الذي اختصر فيه تفسير يحيى بن سلام ت 200هـ، قال: “فإني قرأت كتاب يحيى بن سلام في تفسير القرآن، فوجدت فيه تكرارًا كثيرًا، وأحاديثَ ذكَرَها يقوم عِلمُ التفسير دونها، فطال بذلك الكتاب، فاختصرتُ فيه مكرَّرَه وبعض أحاديثه، وزدت فيه من غير كتابِ يحيى تفسيرَ ما لم يفسِّره يحيى”[4].

ومن العلماء مَن صنف في إعجاز القرآن؛ كابن عصفور الإشبيلي ت 669هـ، ألف “إيجاز البرهان في بيان إعجاز القرآن”، وكتاب “التنبيه على ما زخرف من التمويه في علم البيان المطلع على إعجاز القرآن”[5].

إلا أن الملحظ الذي ينبغي التنبيه عليه هو أن مفسِّري الغرب الإسلامي نجدهم بشكل خاص واستثنائي يَميلون إلى العناية باللغة والبيان والقراءات القرآنية زيادةً على المشارقة.

وتفاسير المغاربة شاهدة على هذا؛ كابن جزي الغرناطي في التسهيل، وأبي حيان في البحر المحيط، وابن عطية في المحرر الوجيز، ومكي بن أبي طالب القيسي في الهداية، وابن ظفر الصقلي في الينبوع.

أما القراءات القرآنية، فاهتم بها المغاربة واعتبروها مدخلًا أساسيًّا لقراءة القرآن وفهمه، واستنباط معانيه وأسراره، ومِن هؤلاء الأعلام: أبو طاهر إسماعيل بن خلف بن سعيد بن عمران الصقلي ت 455هـ، صنَّف كتاب “العنوان في القراءات”، وقد تصدَّر للتدريس وإقراء الناس بجامع عمرو بن العاص بمصر[6].

ومِن أشهر علماء الغرب الإسلامي في هذا الجانب ابن الفحام الصقلي ت 516هـ، كان من كبار القراء، وممن رحل من المغرب إلى المشرق في طلب القراءة على الشيوخ، فأدرك بمصر ابن هاشم وابن نفيس، وتتلمذ على طاهر بن بابشاذ في النحو.

وله تأليفٌ حسنٌ سماه “التجريد في بغية المريد”، واعتبر هذا الكتاب مرجعًا في القراءات بالغرب الإسلامي، وسار به الركبان، وعكف عليه العلماء بالتدريس والشرح، كما فعل ابن الجزري في كتابه التقييد في الخلف بين الشاطبية والتجريد[7].

إذًا فمُفسِّرو الغرب والشرق الإسلامي متَّفِقون على منهجية واحدة في تفسير القرآن الكريم، مُتجلِّيةٍ في الانضباط بقوانين التأويل وقواعد التفسير التي تكلم عنها العلماء، وعلى رأسهم ابن تيمية رحمه الله في مقدمة التفسير، وكتاب “مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزَّل” للحرالي ت 638هـ، وهو كما قال الأستاذ المحمادي: “وضع فيه قوانين لفهم القرآن، لا بتفسيره ولا بتأويله”[8].

وهذه القواعد والقوانين ذكرها المفسرون وأكَّدوا عليها في مقدمات تفاسيرهم، وهي زاخرة بالتنبيه على المنهج الذي ينبغي اتباعه في العملية التفسيرية.

وعلى سبيل المثال لا الحصر نجد مقدمة ابن ظفر الصقلي في تفسيره “ينبوع الحياة” مليئةً ببعض تلك القواعد؛ كالتنبيه على المنهج المتبَع في التعامل مع الأحاديث، قال: “وليس قَبول الأحاديث النبوية مشروطًا بكونِها في هذه الكتب الأربعة، وما يتلوها في الصحة، لكنه مشروطٌ بأحد أمور ثلاثة، بعضها آكد من بعض:

أحدها: أن يكون معنى الحديث موجودًا في القرآن، فإذا وُجد هذا الشرط ثبت حكم قَبوله.

والثاني: أن يكون معناه موجودًا في الأحاديث المتفق على صحتها.

والثالث: أن يكون لِما ضمنه الحديث أصلٌ موجود في كتاب الله، أو في المتفق على صحته من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فيهما ما يؤدي مثل معناه، ولا ما يصد عن العمل به، فهذا قد يُقبل، ولكن القضاء بقَبوله.. موكول إلى العلماء بالآثار المنقولة عن فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، فإن انتهى إليهم موافقة الصحابة له، أفتَوْا بقَبوله، وإلا فلا.

وهذا بيان واضح من ابن ظفر لمنهجه في الاستدلال بالأحاديث النبوية.

ومن الأمثلة كذلك مقدِّمة مكي بن أبي طالب القيسي الذي قال فيها: “هذا كتاب جمعتُه فيما وصل إليَّ من علوم كتاب الله جل ذكرُه، وتقصَّيت ذكر ما وصل إليَّ من مشهور تأويل الصحابة والتابعين ومَن بعدهم في التفسير دون الشاذ على حسب مقدرتي، وذكرتُ المأثور من ذلك عن النبي عليه السلام ما وجدت إليه سبيلًا، لا من روايتي أو ما صح عندي من رواية غيري، وأضربتُ عن الأسانيد؛ ليخفَّ حفظه على مَن أراده”؛ المقدمة.

إذًا فالمنهج واحد، إلا أن الاستمدادات مختلفةٌ ومتنوعة؛ لأن القرآن الكريم كلَّه برَكة وخيرات وهدايات، وإنما جاءت إبداعات العلماء المشارقة والمغاربة في خدمتِهم للقرآن من باب اختلاف التنوُّع الذي يعودُ بالنفع على الأمة الإسلامية، وليس من باب اختلاف التضاد المذموم الذي فرَّق الأمة الإسلامية وشتَّت جهودها.

فلما كان الالتزام بالمنهج الصحيح السليم للاستمداد من الوحي، أدَّى ذلك إلى الثراء المعرفي، وتحقيق المكتسبات الدعوية والهدايات الربانية، وإصلاح المشاكل النفسية والاجتماعية.

ولما اختلَّ هذا الاستمداد من الوحي، وأضاع البعضُ طريقَه بأن دخل في الدرس التفسيري مَن ينطلق من عقيدة فاسدة، وهوًى متبع، ومقاصد فاسدة – فسَد بذلك الدرسُ التفسيري في بعض المصنفات التفسيرية التي انتصرت للعقائد الضالة والأهواء المغرضة؛ مثل تفسير النعمان بن حيون التميمي المغربي ت 363هـ، الذي ألف “أساس التأويل” وشحذه بتأويلات الإسماعيلية الباطنية[9].

وفي رأيي أن المشكل العويص الذي يعترض سبيل تحقيق فكر سليم لدى المسلمين وتصور صحيح لكتاب ربهم، هو الاهتداء إلى صياغة جديدة يعمل بها المتخصصون في الدرس القرآني، ويستفيد منها عامةُ المسلمين في تعاملهم مع القرآن الكريم، بتمكينهم من آليات الاستمداد من الوحي والاستفادة من كلام رب العالمين؛ حتى يصيرَ المسلمون كما وصفهم الله تعالى في كتابه: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴾ [الأنفال: 2].

لائحة المصادر والمراجع:

– البرهان في علوم القرآن؛ الزركشي، تحقيق زكي محمد أبو سريع، دار الحضارة، الطبعة الثانية 2009.

– الإتقان في علوم القرآن؛ السيوطي، اعتنى به مصطفى شيخ مصطفى، الطبعة الأولى 2013.

– مجالس القرآن؛ فريد الأنصاري، دار السلام، الطبعة الرابعة 2015.

– قانون التأويل؛ أبو بكر بن العربي، تحقيق محمد السليماني، الطبعة الثانية، بيروت، دار الغرب الإسلامية 1990.

– الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين؛ أبو الحسن القابسي، تحقيق أحمد خالد، الشركة التونسية للتوزيع، الطبعة الأولى 1986.

– وفَيَات الأعيان؛ لابن خلكان، القاهرة 1948.

– ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك؛ القاضي عياض، طبع وزارة الأوقاف.

– معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان؛ عبدالرحمن بن محمد الأنصاري الدباغ، المطبعة العربية التونسية 1320.

– طبقات المفسرين؛ السيوطي، الطبعة الأولى بيروت، دار الكتب العلمية 1983.

– طبقات النَّحْويين واللُّغويين الزبيدي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف القاهرة.

– نفح الطيب؛ المقري، تحقيق إحسان عباس، بيروت، دار صادر 1968.

– الصلة؛ لابن بشكوال، اعتناء عزت الحسيني، مكتبة الخانجي القاهرة.

– إنباه الرواة على أنباه النحاة؛ جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف القفطي، دار الكتب المصرية، 1950.

– الديباج المذهب؛ ابن فرحون، مطبعة شقرون 1351.

– شجرة النور الزكية؛ ابن مخلوف، دار الفكر.

– النبوغ المغربي في الأدب المغربي؛ عبدالله كنون، الطبعة الثانية، بيروت، دار الكتاب العربي 1961.

– النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة؛ ابن تغري بردي، دار الكتب المصرية 1375.

– غاية النهاية في طبقات القراء؛ ابن الجزري، الطبعة الثالثة بيروت، دار الكتب العلمية 1982.

– التفسير والمفسرون بالمغرب الأقصى؛ سعاد أشقر، دار السلام، الطبعة الأولى 2010.

– المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب؛ الونشريسي، عناية محمد حجي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية 1981.

– الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي؛ الحجوي الثعالبي، تعليق عبدالعزيز بن عبدالفتاح القارئ، الطبعة الأولى، المدينة المنورة، المكتبة العلمية 1396.

– اتجاهات التفسير بالغرب الإسلامي في القرن الرابع عشر هجري؛ عبدالله عوينة، الطبعة الأولى 2012، مركز الدراسات القرآنية الرابطة المحمدية للعلماء.

– تفسير سور المفصل؛ عبدالله كنون، الطبعة الأولى 1981، دار الثقافة، المغرب.

– التيسير في أحاديث التفسير؛ المكي الناصري، الطبعة الأولى 1985، دار الغرب الإسلامي، لبنان.

– هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين؛ إسماعيل باشا البغدادي، وكالة المعارف الجليلة في المطبعة البهية، إستنبول 1900، منشورات مكتبة المثنى، بغداد.

– كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون؛ حاجي خليفة، مكتبة المثنى، بيروت.

– كفاية المحتاج لمعرفة من ليس في الديباج؛ أحمد بابا، تحقيق محمد مطيع، وزارة الأوقاف 2000.

– ندوة: الأندلس قرون من التقلبات والعطاءات، التفسير وعلوم القرآن بالغرب الإسلامي؛ الدكتور إبراهيم أحمد الوافي، مكتبة الملك عبدالعزيز العامة بالرياض، الطبعة الأولى 1996.

– تراث أبي الحسن الحرالي المراكشي؛ محمادي بن عبدالسلام الخياطي، مطابع النجاح الجديدة، 1997.

– ينبوع الحياة في تفسير القرآن العظيم؛ ابن ظفر الصقلي، دار الكتب المصرية نسخة د.

– مجلة الإحياء ص83 رقم 29، الموضوع: العلوم الإسلامية الاستيعاب والتجديد، حوار مع الدكتور أحمد العبادي.

————————————

[1] هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين؛ إسماعيل باشا البغدادي 1/ 704.

[2] كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون؛ حاجي خليفة 1/ 362.

[3] كفاية المحتاج؛ لأحمد بابا 2/ 204، 205.

[4] مقدمة التفسير ص 2.

[5] ندوة: الأندلس قرون من التقلبات والعطاءات، التفسير وعلوم القرآن بالغرب الإسلامي؛ الدكتور إبراهيم أحمد الوافي ص 49.

[6] الصلة؛ لابن بشكوال 1/ 34.

[7] غاية النهاية 1/ 165.

[8] تراث أبي الحسن الحرالي المراكشي؛ محمادي بن عبدالسلام الخياطي ص8.

[9] هدية العارفين 2/ 495.

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى