مقالاتمقالات المنتدى

ملاحظات أولية حول الطريق الجديد نحو نفي الاستبداد

ملاحظات أولية حول

الطريق الجديد نحو نفي الاستبداد

 

بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)

لا توجد ثمة قيم وأخلاق اجتماعية وسياسية سائدة ومتفق عليها في اجتماعنا السياسي المصري اليوم، فقد تسبب الشرخين الاجتماعي والسياسي في العقود الخمس الماضية؛ خاصة العقد الأخير، في إحداث شرخ كبير في قواعد اجتماعنا السياسي أثمر استبداداً مقيماً في النفوس قبل القصور، فالاستبداد الذي تعاني منه مجتمعنا يوجد في نوى الأخلاق الاجتماعية والسياسية أولاً، ويخضع المؤسسات كما يخضع الأفراد، ثم يخضع هو لهما في دائرية سوداء لا تنتهي.

هل أخلاقنا الاجتماعية ونظام الاستبداد في اجتماعنا السياسي المصري اليوم في أزمة ؟ نعم، هل دخلنا عهد الثورة المفاهيمية على تصوراتنا الرائجة عنهما؟ لا أعتقد ذلك، ما زال أمامنا أشواط كبيرة نقطعها لتحقيق ذلك.

يلزمنا أولاً إصلاح متسلسل لفهم مجتمعنا المصري وما حل به من نكبات وخصوصا في العقد الأخير، فلا يمكن تصور سؤال الأخلاق الاجتماعية في علاقتها بنظم الاستبداد دون فكر قادر على الاعتراف بالأخطاء التي وقعنا فيها جميعا يجنبا السقوط صرعى لإمبريالية المقولات المهيمنة التي نقبلها باعتبارها حقائق كلية نهائية ولا نخضعها للتمحيص مثل: طبيعة شعب ونفسية مواطن وسلطة، فنحن ما زلنا ندرك الاستبداد كما يشاء أهله أن ندركه, بل إننا ننظر لأنفسنا من خلال مقولات الاستبداد ونماذجه

وقد آن الأوان لنبتعد عن هذه النماذج الاختزالية القابلة للتوظيف ببساطة في أي اتجاه, والتي يمكن فرض أي معنى عليها وتمرير أي تحيزات من خلالها واستخلاص أية نتائج منها, حتى يمكننا تبيان الكيفية التي يستطيع بها الإنسان المصري اكتساب الأهلية للتصرف أخلاقياً في ممارسته السياسية على الهيئة التي تنفي عنه وعن مجتمعه ومؤسساته، ثنائية العبد/المستبد.

وعلى الرغم من أن ثورة يناير قد انتزعت الشعب المصري من الحدود الضيقة والسموات التي تحرسها الحكومات، إلى فضاء الحرية الواسع وحلمها الممكن بعد امتناع طويل، إلا أنها علمتناعلى الرغم من إخفاقها الجزئي، أن الاستبداد يقبع في عقول المواطنين وليس فقط في قصور المستبدين، وأن العبودية التي يئن منها المواطن يعاني الحاكم من شكلها ألوان.

وعلمتنا الثورة، أيضاً، أن تجليات الاستبداد سواء باسم: الدين، أو الوطن، أو القومية أو حتى الاستقرار لا تكون مؤثرة فقط في أوقات الأزمات وغياب البدائل، لكنها تشق طريقها واثقة كلما ترسخ الجهل وعم الظلام وانعدم الوعي بين طبقات المجتمع المختلفة، ووجدت الغنيمة التي يمكن أن يتقاسمها الحكام مع المحكومين.

وعلمتنا الثورات كذلك أنه إذا كان الشارع يعيش في رعب، فالقصر؛ أيضاً، في خوف دائم، وأن فعل الإذلال واقع على الجميع، وأن النظام السياسي العربي المستبد كما منظومة الأخلاق الاجتماعية المستبدة كلاهما قد فقد مكانته وهيبته بين عموم الحكام والمحكومين.

وعلمتنا الثورة أن دور الثقافة العالمة في تشكيل الوجدان الشعبي في تراجع، مع تراجع مهمة الكتب في زمن التويتة والبوست، وانتقلت السيطرة من الثقافة العالمة إلى الثقافة اليومية الجاهزة على الفضائيات وأمام شاشات الكمبيوتر في العالم الافتراضي. فالمفارقة الغريبة التي تواجهنا اليوم أن معظم الكتابات بما فيها الكتابات السلطانية والدساتير والقوانين السلطانية أو داخل اي مؤسسة حكومية أو اهلية تتميز بمناهضة الاستبداد واحتكار الرأي وتدعو للجماعة والشورى وتعلي من قيم الحرية والديموقراطية تعيش في واد والواقع الاستبدادي في كل تفاصيله في واد آخر.

وقد رأينا بأم أعيننا كيف ينمو المستبدين الصغار داخل أحزابنا ومؤسساتنا في السلطة والبعيدة عن السلطة على حد سواء بسبب الطامعين في مناصب أو منافع حول قيادات هذه الفئات التي أصيبت سريعا بداء السلطة وانكشف مكنون ما بداخلها من عبيد مرضى يطمحون في لعب دور المستبدين في أول بادرة استبداد لاحت لهم، فالاستبداد يولد في النفوس؛ بسبب التربية في البيت والمدرسة والمؤسسة قبل أن يستبيح المجال العام.

ورأينا بأم أعيننا كم هو فقير البناء الأخلاقي والسياسي للإنسان والمواطن المسحوق في مصر، والذي تعوقه ظروفه الذاتية والموضوعيةالتي هي من صنع المستبدينعن تشكيل وعيه السياسي، وكيف يتخذه  ذوو الثراء والسلطة بكافة أشكالها في الحكم والمعارضة مطية لكل هدف مشروع أو غير مشروع لهم.

ورأينا جميعاً أنه عندما انتقل المعارضون إلى قصور الحكم، ورجع الحكام إلى مقاعد المعارضين كيف ظهر قصور الجميع ورسبوا في اختبار الحرية، وهو درس غني لأي سؤال أخلاقي يبحث عن علم اجتماع سياسي جديد ينقذنا من استبداد مقيم.

لذلك فإن المطلوب اليوم خطاب أخلاقي جديد في السياسة والاجتماع يمكننا من الانتقال إلى إعلاء قيم العدل والحرية والإحسان ورفع الاستبداد بدلاً من الاستمرار في وصف طبائع الاستبداد وأخلاقه الملازمة أو المنتجة له وآثارها، والتي هي السمة الطاغية على كثير من مقارباتنا اليوم.

نحو خطاب سياسي اجتماعي جديد

أي خطاب سياسي اجتماعي جديد في مدينة الجبارين المصرية لابد له أن ينطلق من مقاربة مقاصدية لمصالح الإنسان المصري هدفها البحث عن إجابات لإشكالية الاستبداد والأخلاق الاجتماعية. مقاربة مقاصدية تنطلق من مفاهيم: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الفطرة، والبراءة الأصلية، والاستقامة السياسية، والتقوى، والعمل الصالح، الإحسان، والعدل، وتستند لمقاصد الشريعة لتغني مساهمتنا في فهم الاستبداد وأثره في منظومة الأخلاق الاجتماعية في مجتمعاتنا، وتسهم في بناء منظومة أخلاق اجتماعية تنفي الاستبداد عن أبناء الأمة.

ولن يكون لهذه المقاربة الأخلاقية جدوى حقيقية إذا لم تنطلق في خطابها من جموع الشباب والناشئة التي ولدت في خضم الثورات العربية، ذلك الجيل الذي ثار على الاستبداد وأخلاقه.

أسئلة تحتاج إلى إجابات

وحتى يمكن تحقيق تلك المقاربة لا بد من أن تكون قادرة على الإجابة على أسئلة أبناء الأمة الملحة والقلقة المذعورة التي تعيش في ظل أنواع من الاستبداد والقمع السياسي للحريات والتضييق الاجتماعي عليها، فتخير هذه المجتمعات بين الفوضى والاستبداد، أو بين استبداد علماني واستبداد بأيديولوجيا دينية، بين حياة لاهية وسجون ومنافي قاسية.

وكيف تجيب عن علاقة طلائع الاستعمار الاقتصادي المتمثل في وكلاء الشركات متعدية الجنسيات وأدوارهم في نهب الاقتصادات المحلية، كما تتجلى اليوم في زمن البزنس الذي لوث جميع مؤسسات الدولة.

وكيف يمكن لهذه المقاربة؛ في زمن التحول نحو القيم الفردية وعولمة الأفراد بعد عولمة الثقافات، أن تنتج لنا أخلاقاً اجتماعية سياسية تجذب هؤلاء الفرديون القابعون وراء شاشات الكمبيوتر، أو في منتجعات السياحة، أو في متاهات اليأس وكهوف الحاجة ليعودوا إلى ساحات السياسة.

وكيف يمكن أن تقوض أركان خطاب الاستبداد الديني أو العلماني أو البيروقراطي والأمني، الذي يماهي بين المستبد والحاكم النموذج، والذي يؤكد على أن الرعايا ليس لهم الحق في أن يحكموا على ما هو عادل وحق، لأن ذلك يقع في نطاق مسئولية الحاكم وحده، كما الله في الدين والمعتقد، والمثقف العالم في السياسة والاقتصاد والثقافة، والخبير التقني في إدارة مؤسسات الدولة، والجنرال حامي الحمى وفيلسوف الحكمة وراعي الاستقرار في المؤسسات كلها.

وكيف يمكن لتلك المقاربة أن تنتج إجابات تنفي من شعور المواطن العربي اليومالمهدي المنتظر” “والقائد الضرورةوالرجل الوحيدوالحل الوحيدوالجماعة الربانيةوالمؤسسة العمود، الذين يصلحون الكون، ويرسخون لوعي أسطوري مريض يرسخ الاستبداد. وأن تطرح حلاً يلغي خطابالرعيةليحل محله خطابالمواطن المستخلف المؤتمن، فنتحل عرى القدرية والجبرية المسيطرة على حياة الناس، التي تحكم سلوكهم، وتقودهم إلى الرضا بالعبودية والتبعية والظلم، في سبيل الاستقرار ولقمة العيش أو من أجل الشهادة والجنة والطاعة للقيادات الربانية المعصومة.

وكيف يمكن لتلك المقاربة أن تدرس العملية السياسية في علاقتها بالأخلاق الاجتماعية، وتبين  كيفية استبطان هذه الأخلاق السياسية لدى مختلف طبقات المجتمع الإسلامي عبر التاريخ وإلى اليوم؟ وماهي المكانة التي ينبغي أن نوليها للعوامل الاجتماعية والتاريخية في تشكيل الأخلاق الاجتماعية، منذ لحظة ميلاد المجتمع المسلم الأوّل إلى يومنا هذا؟ ومدى مناسبة آليات العملية الديموقراطية من أحزاب وانتخابات وغيرها لواقعنا العربي؟ وكيف يمكن لتلك المقاربة أن تلهمنا أجوبة مقنعة للأجيال الجديدة، تجعل تجربة الحكم الإسلامي الأول، يتموضع داخل نطاق التاريخ لا خارجه، ويتحول من مثال مقدّس ينبغي استعادته إلى نموذج قدوة يمكن استلهامه.

وماذا عن قدرتها على الإجابة على أسئلة أخرى كثيرة من عينة: الانقلابات، أو غياب أدب الحوار والخلاف، أو الرشوة الانتخابية والزبائنية السائدة بين كل فصيل سياسي ومؤيديه، وحالة الاحتراب السياسي بين فرقاء العمل السياسي، وغيرها، هل هي سلوكيات دخيلة على المجتمع فعلاً، أم أنها صارت جزءاً من مرجعيته الكامنة منذ زمن بعيد.

إن الإجابة على الأسئلة أعلاه وغيرها الكثير، قادرة على تقويض أسس خطاب الاستبداد، لأنها لا تتوجه لشخوص المستبدين ولكن لأنها تصوب مدفعيتها الثقيلة على بذور الاستبداد في نفوس أبناء المجتمع وفي مؤسساته فتمنع عنها أسباب الحياة وتقتلها في مهدها.. ولأنها عبر خطابها المتصل بالشعور الجمعي بالمجتمع  تستطيع جذب كل القابعين في الظلام وكل المتطلعين للنور وكل المترددين الخائفين من المجهول ليكسروا حاجز الصمت ويلجوا إلى ساحات السياسة حيث يصنعون التغيير، فيزهق الاستبداد ويزول.

والإجابة على هذه الأسئلة وغيرها مما لم نطرحه، تمهد للمقاربة السياسية الاجتماعية الجديدة للدخول إلى ساحات التنافس مع المقاربة السلطانية الفاسدة المستبدة التي حكمت تاريخنا السياسي من صفين حتى اليوم، وتمكننا من المشاركة في تأسيسعلم اجتماع سياسيحقيقي يدرس أسباب الاستبداد وطبيعة نظم القيم المهيمنة اليوم على اجتماعنا السياسي المصري، وكيف نرسي معالم أخلاقنا الاجتماعية السياسية الجديدة المنافية للاستبداد.

وتبقى كلمة أخيرة

أصحبت مراجعة المفاهيم والأفكار والمعتقدات الدينية والقيم الأخلاقية في تجلياتها السياسية ضرورة ماسة في زمن طوفان الأقصى، وبات من الضروري أن نعيد النظر في جزء كبير منإن لم يكن غالبالفكر السياسي العربي الحديث عامة، وفي علاقة الاستبداد بمنظومة الأخلاق الاجتماعية خاصة. وتبدو إمكانية إعادة انتخاب دونالد ترامب وانكشاف الخطاب الغربي عن حقوق الإنسان ومنظومة القيم الليبرالية في الحرب المسعورة على غزة، وما نراه من تصرفات وأخلاقيات حكامنا وشعوبنا في الحكم والمعارضة على ما يحدث خير محفز على ذلك في ضوء ما ينتظر اجتماعنا السياسي المصري من زلازل يتم التجهيز لها لاستيعاب آثار غزوة طوفان الأقصى الإيجابية من ناحية والتمهيد لتمرير كل صنوف التفريط في التاريخ والجغرافيا والاقتصاد والمعتقد من ناحية ثانية.

إن التحدي، اليوم، أمام صاحب كل قلم، ورائد كل كفاح سياسي هو: كيف نحول الكرامة إلى خطاب يتملك العقول والقلوب  ليتحول إلى سلوك ونظام قيم ؟ وكيف ننهي ما استقر في ضمير الناس من أن الاستبداد لا يتورع عن عمل شيء ولا يحجم عن أمر، وأنه سرمدي أبدي لا يقاوم؟ وكيف نصل بهذا الخطاب إلى وجدان وعقول وممارسات شبابنا وناشئتنا من خلال خطاب شعبي عقلاني بسيط يخترق الفهم الديني والسياسي السائد والراسخ، ونشره وخروجه من الدوائر الأكاديمية الضيقة إلى الشارع السياسي الواسع  للأغلبية الساحقة من أبناء المصريين الذين يتلقون تعليمهم في: المنزل والمسجد والكنيسة، وأحزاب السياسة، وجماعات التصوف والتسلف، والزعماء الدينيين والقبليين والعائليين ونجوم الإعلام والنخب الحديثة.

إن الإجابة على ما سبق تحتاج رجال بمهام مزدوجة: تعليم من يتولون الدعوة والتربية للأجيال الجديدة، ومن يربون في الآن أنفسهم ويتخلصون من ثنائية العبد/المستبد القابعة داخل كل واحد منا، وما أشقها وأجلها من مهمة.

لو استطعنا إنجاز ذلك الخطاب وتعميمه لتغير مجرى البحث والعمل فيما يتعلق بالسؤال السياسي الاجتماعي في علاقته بالاستبداد المقيم في نفوسنا وساحات السياسة في مجتمعاتنا، ولانفتحت أبواب جديدة للفكر السياسي العربي الاسلامي يستطيع أن يبدأ منها بناؤه الجديد بأخلاق اجتماعية فاضلة وحريات سابغة مودعاً عهد الاستبداد كذكرى بغيضة من زمن مضى وفات يحكيها الآباء للابناء وترويها كتب التاريخ وفنون الأداء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى