مكانة العلم والعلماء في الفكر الإسلامي.. الماوردي نموذجا | قراءة في كتاب “الفكر التربوي عند الماوردي” 1-2
الكتاب: “الفكر التربوي عند الماوردي”
الكاتب: الدكتور فاضل عباس علي النجادي
الناشر: تموز ـ ديموزي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى 2021،
(287 صفحة من القطع الكبير)
كان للتربية مكان بارز في التراث العربي الإسلامي نتيجة لتأكيد القرآن الكريم على العلم والعلماء، منذ نزول أول آية منه، إذ قال تعالى: {أقرأ باسم ربك الذين خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق1 ـ 5]. هذا وقد وضع القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة العلماء بمنزلة رفيعة في الدنيا والآخرة. كما أكّد النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأحاديثه الشريفة على طلب العلم وأهميته وفضله.
ولمّا كانت الأمة العربية تمتلك تراثاً تربوياً وثقافياً ضخماً في المجالات كافة، وهذا ناتج عن جهود أجدادنا العظام الذين شيدوا حضارةً شامخة من خلال معاناتهم الطويلة وملاحظاتهم الدقيقة لمجتمعاتهم التي عاشوا فيها، وفي هذا العصر عندما تطالعنا الحضارة الغربية بمفردات وأفكار أجنبية اعتبرت أنها من إنجازات الغرب وخاصة في مجال التربية والتعليم والحقيقة، فإنَّ السبق في ذلك كان للعلماء العرب والمسلمين، لاسيما أن لهم آراء واضحة في هذا المجال كانت قبل غيرهم بمئات السنين.
مهمتنا ونحن نكتب عن تاريخ أمتنا أن نتحدث بشكل متوازن عن قادة تراثنا الروحي وقيادة عبقريتنا العربية الإسلامية الذين قدموا خدمة جليلة للإنسانية والعالم كله بالإضافة لماضينا المجيد من خلال إنجازاتهم العظيمة في مجال تخصصهم، وعليه يُسلط الدكتور فاضل عباس علي النجادي أستاذ الفلسفة في التراث الفكري والعلمي العربي الإسلامي بجامعة بغداد، في كتابه الجديد، الذي يحمل العنوان التالي: “الفكر التربوي عند الماوردي”، الصادر حديثًا عن دار تموز ـ ديموزي للطباعة والنشر والتوزيع بدمشق في كانون الثاني (يناير) 2021، الضوء على آراء أحد العلماء العرب الذي أسهم إسهاماً كبيراً في مجالات عديدة ومنها التربية والتعليم، ألا وهو الماوردي (ت 450 هـ ـ 1058م)، وإزالة الغبار الذي علق بما قدمه هذا المربي الجليل..
ويشتمل الكتاب على مقدمة وخمسة فصول وخاتمة، اشتملت المقدمة على نبذة مختصرة عن اهتمام العرب المسلمين بالعلوم والعلماء، وجهودهم في تطوير العلم والمعرفة وما خلّفوه من تراث علمي، وتصدر بغداد المدن الأخرى، وما تعرضت له من خراب ودمار على يد التتار.
وتناول الفصل الأول عصر الماوردي من الناحية السياسية والاجتماعية والثقافية، ثم سيرة الماوردي: مولده، السياسي، ومؤلفاته، ثم عرض كتابه (أدب الدنيا والدين) موضوع الدراسة من حيث: تاريخه، محتواه، مصادره، منهجه، والفصل الثاني: يشتمل على العلم والمتعلم وفضله، وأهدافه، وشروط التعلم، وبعض أفكار الماوردي التربوية. والفصل الثالث، ويشمل آداب العالم، والفصل الرابع يشمل آداب المتعلم. والفصل الخامس: يتناول أسباب التقصير في التعلم بضوء المتغيرات. والخاتمة تتضمن خلاصة آراء وأفكار الماوردي التربوية وبعض المقترحات.
وجاء اختيار الدكتور فاضل النجاد لموضوع الكتاب (الفكر التربوي عند الماوردي) تلبية لما يعتقده: “أن أفكار الماوري التربوية لم تحظ باهتمام الباحثين كما حظيت كتبه الأخرى، ولم تُدرس دراسة مستفيضة تُبرز دوره في مجال التربية والتعليم، حيث عرف عنه رجل سياسة وقضاء، والسبب في ذلك أن أفكاره وآراءه في مجال التربية والعليم لم تحظ باهتمام الماوردي شخصياً، لأنه لم يؤلف فيها كتاباً مستقلاً كما فعل في مجال السياسة والفقه والقضاء، وإنما جاءت موزعة في كتبه، وقد تضمن كتابه (أدب الدنيا والدين) أغلب وأهم آرائه وأفكاره التربوية وخاصة في التعليم، وإنه يعول على التربية في إصلاح الدنيا والدين لتحقيق السعادة في الدنيا والتقوى وحسن العبادة، (ص15).
نشأة الماوردي وتطوره في ظروف تراجع الدولة العباسية
هو أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي، ولد في البصرة، وامتدت حياته من سنة (364 هـ /945م ـ 450 هـ /1058م) وبلغ من العمر ستاً وثمانين سنة. وارتحل الماوردي من البصرة إلى بغداد وسكن فيها في منطقة درب الزعفران. وقد تنقل بين بغداد والبصرة، واستقر به المقام في بغداد وقضى فيها معظم حياته. أما حياته الخاصة: زواجه وأولاده وعائلته، فلم يُكتب عنه سوى أن والده كان يبيع ماء الورد ويعمله، وأن له ولداً اسمه أبو الفائز عبد الوهاب (ت 440 هـ ـ 1048م)، قبلت شهادته عند قاضي القضاة سنة إحدى وثلاثون وأربع مئة.
وقد أشار الماوردي إلى أخيه الذي كتب إليه شعراً شوقاً لرؤيته، إلا أن سيرته تدل على أنه من منبع طيب وأسرة كريمة تحب العلم والمعرفة، ولذا اهتمت بتربيته وأرسلته غلى بغداد لإكمال تعلمه.
وتوفي الماوردي في بغداد يوم الثلاثاء شهر ربيع الأول سنة (450 هـ ـ 1058م) ، ودفن في مقبرة باب حرب وقد صلى عليه تلميذه الخطيب البغدادي في جامع المدنية، وقد حضر جنازته بعض العلماء والرؤساء وأرباب الدولة، وأجمع المؤرخون على أنه بلغ من العمر ستاً وثمانين سنة.
لقد عاش الماوردي في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، والنصف الأول من القرن الخامس الهجري، وقد شهدت هذه الفترة أحداثاً سياسيةً وتغيرات إدارية وتحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية تفاعل كل ذلك مبلوراً سمات وميزات انعكست على وضع الدولة العباسية من النواحي السياسية والاجتماعية والثقافية، وكان لهذا كله صدى كبيراً عند عموم الناس وخصوصاً العلماء منهم، مما جعلهم يعبرون عن ردود فعلهم بما صنفوه من كتب.
تميزت هذه الفترة بسمتين بارزتين:
أولهما: تفكك أوصال الدولة العباسية إلى دويلات متناثرة في الشرق والغرب، بعضها دان للخلافة العباسية إسمًا والبعض الآخر انفصل عنها.
وثانيهما: سيطرة العناصر الأجنبية على المسرح السياسي والإداري في بغداد عاصمة الدولة العباسية، وقد أدى ذلك إلى ضعف الخلافة وفقدان هيبتها، وكان سبباً في انحلالها وسقوطها لاحقاً.
كان النفوذ العسكري التركي يمثل بداية السيطرة الأجنبية، وامتد من سنة (247هـ / 861 م إلى 334هـ / 945م) ، والذي كان فيه أمير الأمراء التركي ذا نفوذ واسع في الدولة، أما النفوذ البويهي الذي أنهى نفوذ الأتراك، فقد امتد مابين سنة (334 هـ /954 ـ 447هـ/1055م). وقد جاء البويهيون على رأس جيش أجنبي وأنشؤوا إمارةً وراثية، وكانوا لا يعترفون بحق العباسيين في حكم العالم الإسلامي.
وبعد توليهم السلطة جعلوا الخليفة شبحاً، وساد الاتجاه العسكري في مؤسسات الدولة، وكان وضع الخلافة ينتقل من سيئ إلى أسوأ، لم يبق البويهيون للخلفاء العباسيين، إلا الاعتبارات السياسية. وقد شاركوا الخلفاء في شارات الخلافة ومميزاتها، كذكر أسمائهم في الخطب وطبعها على العملة، وقرع الطبول على أبوابهم والدعاء لهم في المساجد وعقد الألوية. وقد كان البويهيون يتدخلون بشكل سافر في شؤون الخليفة، فيعينون ويخلعون من شاءوا ومتى أرادوا تحقيقاً لمصالحهم. ومن الخلفاء من سملت عيونهم بعد خلعهم، لكي لا يعودوا للخلافة مرة أخرى.
إن الأحداث السياسية التي وقعت خلال الفترة التي عاشها الماوردي تستحق وقفة تأمل وتبصر في تلك الأوضاع الفوضوية والشاذة وأثرها وانعكاسها على أحوال الناس وكيفية تعاملهم معها بشكل عام، وعلى المفكرين والعلماء الذين يهمهم إصلاح الناس والمجتمع وسعادته بشكل خاص،
وأما السلاجقة الذين أعقبوا البويهيين فقد امتد نفوذهم من سنة (447هـ/1055م ـ 590هـ/1193م) وهم على مذهب أهل السنة والجماعة. ولا يختلفون عن سابقيهم، فقد عمدوا إلى إضعاف السلطة المركزية للدولة العباسية، فالسلطة في الظاهر بيد الخليفة، وفي حقيقة الأمر في يد الأمراء والسلاطين والملوك فعلياً، وقد تدخل ذوو النفوذ كثيراً في شؤون الدولة والخلافة، وسخروها لمصالحهم الشخصية وخاصة في ظل خلفاء ضعفاء. وقد وصل الأمر إلى تعيين الخليفة، وخلعه أو سجنه، وفي بعض الأحيان قتله.
وقد أدى ذك إلى منافسات ونزاعات وصراعات دامية بين الخلفاء الأقوياء والسلاطين والملوك، وبين السلاطين والأمراء أنفسهم، وكانت الحرب سجالاً بين الطرفين، انتصر الروم ببعض المواقع وكبدوا المسلمين خسائر كبيرة.
وقد عاصر الماوردي أيضاً العديد من السلاطين والأمراء البويهيين، وكانت له منزلة طيبة لدى السلطان جلال الدولة. ومن ملوك السلاجقة الذين عاصرهم الماوردي مؤسس دولتهم طغول بك الذي كان الماوردي يتردد عليه بصفته سفيراً للخليفة القائم بأمر الله في بداية ظهور نفوذهم.
إن الأحداث السياسية التي وقعت خلال الفترة التي عاشها الماوردي تستحق وقفة تأمل وتبصر في تلك الأوضاع الفوضوية والشاذة وأثرها وانعكاسها على أحوال الناس وكيفية تعاملهم معها بشكل عام، وعلى المفكرين والعلماء الذين يهمهم إصلاح الناس والمجتمع وسعادته بشكل خاص، لما يتمتعوا به من علم ومعرفة وحكمة، ولا بد أن يكون لهم دور هام وواضح يسجله التاريخ لهم وسط هذه الأحداث الجسام، في عصر مشحون بالصراع السياسي الدامي والطموحات غير المشروعة لبعض الطامعين.
وانعكس نشاطه السياسي والدبلوماسي الفعلي والعملي وتجربته الطويلة خلال هذه الفترة على الواقع النظري، حيث ألف العديد من الكتب السياسية والفقهية التي أراد من خلالها تثبيت أركان الدولة وحفظ الاستقرار السياسي من خلال وضع نظم وقوانين يمكن تطبيقها والسير بهداها لتدعيم مركز الخلافة والدفاع عنها وتقديم النصائح، ووضع صيغ التعامل من خلال العديد من مؤلفاته. وبذلك استحق الثناء والتقدير وترك في عصره بصمات سياسية معروفة شهدت له بحسن السياسة والتدبير.
وكان كتابه (الأحكام السلطانية والولايات الدينية) بحق يعد أول دستور عملي لنظام حكم ينسجم والوضع السياسي الذي كان سائداً في عصره، حيث حاول فيه أن يوفق بين الخلافة والسلاطين، فكان مخلصاً للخلافة مدافعاً عنها مؤكداً على هيبتها ووجوب طاعة الخليفة، بموجب الدين والشرع، وأضفى عليها ما تستحق من إجلال وتقدير واحترام التي أمدت بعمرها، وكان مراعياً للظرف السياسي الحرج الذي تمر به الدولة من جراء السيطرة الأجنبية فبرر وجودها، وبذلك فإنه رسم موازنة عملية لما هو قائم بغطاء قانوني وشرعي، وبذلك يكون قد أسس قوانين للدولة في عصره لكافة نواحي الحياة، وأوجد مخرجاً سياسياً يرضي جميع الأطراف.
الماوردي شخصية علمية متعددة الجوانب، فقد ألفَ العديد من الكتب في مختلف العلوم والفنون، ويعد بحق موسوعة علمية في ذلك العصر لمعارف زمانه، لغزارة علمه وتنوع إنتاجه الفكري، وقد كانت هذه الصفة ملازمة للعلماء في ذلك الزمان. ومن الواضح أنه كان ملماً إلماماً كافياً بعلوم عصره، قادراً على الإبداع والابتكار في التصنيف والتأليف في كافة جوانب المعرفة، الدينية، والسياسية، والأدبية، والاجتماعية، والتربوية ، وهذا يشهد له بالسبق والتفوق على غيره، ويدل على معرفة شاملة وواسعة لم تأتِ من فراغ، وإنما جاءت نتيجة تعلم وجه ومعاناة وتجربة وخبرة.
وقد شهد له الكثير من المؤرخين والأدباء بهذه المعرفة والموهبة القادرة على الكتابة والإبداع في كل فن، وقد ذكرت كتب التاريخ والتراجم والطبقات عدداً من كتبه، وقد بلغت عشرين كتاباً بين مطبوع ومخطوط ومفقود، ومن الملفت للانتباه أن تلميذه الخطيب البغدادي لم يذكر أياً من كتبه في ترجمته له في تاريخه، وإنما اكتفى بقوله : (له تصانيف عدة في أصول الفقه وفروعه، وفي غير ذلك)، وهو من معاصريه ومن المقربين له وكتب عنه.
يقول الدكتور فاضل النجادي: “وقد ارتأيتُ أن أعرض مؤلفاته “رحمه الله” باختصار، كما يأتي:
أ ـ كتاب (الأحكام السلطانية والولايات الدينية): ذكره معظم من ترجم للماوردي أو كتب عنه بعنوان (الأحكام السلطانية). وهو يتكون من عشرين باباً ويقع في (264) صفحة من الحجم المتوسط وقد طبع عدة طبعات في بون سنة (1271هـ ـ 1853م) وقد ترجم إلى عدة لغات وحظي باهتمام المستشرقين.
اعتمدت في كتابي : (الفكر التربوي عند الماوردي) على كتاب (أدب الدنيا والدين) الذي حققه الأستاذ مصطفى السقا سنة (1375 هـ ـ 1955م)، وقد تم إعادة طبع الكتاب طبعة ثانية وثالثة وكانت أنيقة ومضبوطة ومشروحة ومرقمة بناءً على طلب شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، سنة (1407 هـ ـ 1986م)، وقد أعادت طبعه المكتبة الثقافية ببيروت ـ لبنان، بالأوفسيت. وهي النسخة التي اعتمدت كمصدر للكتاب.
يشير الأستاذ رضوان السيد إلى أن الكتاب صنفه الماوردي لأحد أصدقائه سنة (420هـ ـ 1029م)، وقد ذكرته المصادر والمراجع القديمة والحديثة باسم (أدب الدنيا والدين)، ولأهميته وبيان فوائده للمربين فقد طبع في أوروبا عدة طبعات، وطبع في أماكن أخرى ومن أقدمها طبعة الجوائب سنة (1299 هـ ـ 1881م) في القسطنطينية في 262 صفحة، وأيضاً في الأستانة في نفس السنة في 286 صفحة، وفي مصر بمطبعة الميمنية سنة (1305 هـ ـ 1887م) على هامش (الكشكول) للعاملي في ثلاثة أجزاء بمجلد واحد”(54).
(المصدر: عربي21)