مقالاتمقالات المنتدى

مقتطفات من كتاب (الإسلام ثوابت ومحكمات) للدكتور محمد يسري إبراهيم | (15) حقوق غير المسلمين في المجتمع المسلم

مقتطفات من كتاب (الإسلام ثوابت ومحكمات) للدكتور محمد يسري إبراهيم | (15) حقوق غير المسلمين في المجتمع المسلم

 

بقلم د. محمد يسري إبراهيم (خاص بالمنتدى)

 

حقوق الأقليات بين الإسلام والنظم الوضعية

تمتع غير المسلمين الذين عاشوا في ديار الإسلام بحقوق وحريات، استُمدَّت من القرآن والسنة وسيرة النبي ﷺ والخلفاء الراشدين، ومن سار على دربهم طيلة قرون حكم الإسلام وفي ظلال دولته.

وفرق واسع بين أحكام الشريعة بخصوص أهل الذمة، وبين إعلانات لا تملك الدول تنفيذها إلا بعد تعديل دساتيرها وتغيير قوانينها والتزام سلطاتها التنفيذية، وهو ما لا يحدث إلا قليلًا.

إن الشريعة لم تعرف في أبوابها مصطلح «حقوق الأقليات»؛ لأنه لم يعرف في العالم إلا  إثر حروب البروتستانت والكاثوليك منتصف القرن التاسع عشر!

كما أن النظم الوضعية والإعلانات العالمية لحقوق الإنسان لم تعرف أحكام أهل الذمة في الإسلام!

وعليه فإن محاكمة الفقه الإسلامي إلى الإعلانات العالمية والعكس يحتاج إلى تنبه ومراعاةٍ للخصوصيات.

وأعظم الفوارق: انطلاق حقوق أهل الذمة في الدولة الإسلامية من الوحي، وانطلاق حقوق الأقليات في الدولة المعاصرة من ممارسات ضلّت سبيلها في أوروبا، فظلمت وجارت، فاتخذت في النهاية العلمانية دينًا، وهذا لا يوجد في الشرق المسلم ما يُسوِّغه بحال! ولا يتحمل الإسلام خطيئة الأنظمة العلمانية التي ظلمت الأقلية؛ سواء أكانت في الشرق أم في الغرب!

قال الله تعالى:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًۭا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓا۟ ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌۭ
(49 : 13)
[الحجرات: 13].

 

ضمان الإسلام لحقوق غير المسلمين

جاء الإسلام فصحَّح الأخطاء السابقة عليه في مسيرة الحياة، ولهذا كانت شريعته مهيمنة ناسخة لما قبلها من الشرائع، وضمن استمرار مسيرة الحياة بما قنَّنه من القواعد الضابطة للتعامل مع المخالفين في الدين من المساكنين للأوطان في دار الإسلام.

وإذا وقعت قضايا آحاد ومسائل أعيان انتقدت فيها ممارسة منسوبة لمسلمين فهذا لا يقاوم ولا يقابل بشهادات مستفيضة من غير المسلمين بفئاتهم كافة، منذ فجر تاريخ الإسلام وإلى اليوم تفيض تسامحًا وعدلًا وبرًّا وإحسانًا.

وعليه، فليس لدى الأمة الإسلامية الواحدة مجال – من جهة دينها – لاستعلاء عرقي أو لغوي أو ثقافي، حيث تحول غير العرب من المسلمين إلى علماء وقادة وأمراء، ولم تعرف الأمة المسلمة حدودًا مصطنعة بين القوميات أو الجنسيات المختلفة، وإنما عرفت الأمة قول الله تعالى:

إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌۭ فَأَصْلِحُوا۟ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
(49 : 10)
[الحجرات: 10]، وقوله تعالى:
إِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمْ أُمَّةًۭ وَٰحِدَةًۭ وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ
(21 : 92)
[الأنبياء: 92].

 

من أحكام أهل الذمة ما هو ثابت ومنها ما  هو متغير

ومما هو معلوم أن في حقوق أهل الذمة وأحكامهم الشرعية ما هو ثابت لا يتغير، وما هو قابل للاجتهاد والتغير، والأمر مردُّه إلى أهل الاجتهاد الذين تمرسوا على استنطاق النصوص وتمهروا باستنباط الأحكام.

والمطالبة بحقوق للأقليات تخالف الشريعة الإسلامية أمر لا يتأتى بحال؛ لأنه يتناقض مع أهم القواعد الحاكمة للعيش المشترك، على أن هذا المعنى مقرر قانونًا في الدولة المعاصرة فيما يسمى بالقواعد الدولية الآمرة.

وعليه، فكل ما عارض نصًّا صريحًا أو إجماعًا قطعيًّا فلا يمكن لمسلم قبوله تحت أي مسوغ!

وقد أشار القرآن إلى مراعاة التغاير الثقافي والديني والحضاري بين المدنيات والشرائع المختلفة، بحيث يصح أن يقال: إن آخر ما أمّلته الإنسانية من حقوق الإنسان عبر المواثيق الدولية هو من أبجديات الإسلام وبدهياته!

قال الله تعالى:

سَمَّٰعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّٰلُونَ لِلسُّحْتِ ۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْـًۭٔا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِٱلْقِسْطِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ
(5 : 42)
[المائدة: 42].

 

أمثلة على قاعدة العدل في معاملة أهل الذمة

والتشريع في الإسلام يقوم على قاعدة العدل، فالشريعة لا تجمع بين مختلفين، ولا تمايز بين متساويين، بل تقيم العدل الذي يعطي كل ذي حق حقه؛ بلا جور على أقلية، ولا انحياز لأكثرية.

فلا يؤخذ أهل الذمة بما يؤخذ به المسلمون من أحكام، ويسمح لهم بالتقاضي فيما بينهم إلى شرائعهم، ضمن أحكام الإسلام العامة وحدوده.

فإن قيل: أين العدل في الجزية؟!

فالجواب: هي في مقابل عدم إلزامهم بالحرب والجهاد، مع حمايتهم والدفاع عنهم، وفكاك الأسرى منهم، ومن كان عاجزًا عن القتال منهم لم تفرض عليه، فلا تفرض على صبي ولا امرأة ولا معوّق ونحو ذلك.

«إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا»([1]).

فإن قيل: فمن لا يدفعها اليوم يكون محاربًا؟

فالجواب: لا يكون كذلك حيث لم تطلب، ولم يلزم أحد بها اليوم، والوصف الصحيح للأقليات غير المسلمة في الدول الوطنية أنهم مستأمنون، فلا يجوز اعتداء عليهم في أنفسهم، ولا في أموالهم، ولا في دور عبادتهم.

فإن اعتدى مسلم على ذمي أو مستأمن فقتله، فقد قال الحنفية بقتل المسلم قصاصًا، وقال المالكية: يقتل به إن قتله غيلة أو حرابة، وقال الشافعية والحنابلة بوجوب الدية.

قال الله تعالى:

وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلْأَنفَ بِٱلْأَنفِ وَٱلْأُذُنَ بِٱلْأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌۭ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٌۭ لَّهُۥ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ
(5 : 45)
[المائدة: 45].

 

من حقوق أهل الذمة في الإسلام

وبناءً على ما سبق فقد كفلت الشريعة المطهرة لأهل الأديان الأخرى المقيمين في ديار الإسلام أن تحفظ كرامتهم الإنسانية، ويقام فيهم العدل الذي جاء به الوحي المعصوم، فتحمى دماؤهم وتصان أموالهم، ولا يتعرض لهم وما يدينون، ولا يجبرون على ما يخالف عقيدتهم أو شريعتهم، فلا يلزم القاضي يهوديًّا أن يحضر إلى مجلسه يوم السبت، وليس لمن تزوج يهودية أن يجبرها على أكل لحوم محرمة في دينها، ومن استأجر يهوديًا، أو نصرانيًّا فليس له منعه من الذهاب إلى دار عبادته.

ولهم الحق في التعلم والعمل المباح، وقد عملوا في وظائف الدولة المتعددة، وتقلدوا فيها مناصب، وكفلت حقوقهم في التنقل والإقامة داخل ديار الإسلام، ولهم حق الكفاية بما تضمنه الدولة المسلمة لرعاياها، ومن افتقر أو ضعف عن العمل سقطت جزيته ولزمت إعانته.

ولو عاد للدولة الإسلامية سلطانها ما اشتكى في ظل الرحمة من غير المسلمين أحد!

قال الله تعالى:

وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةًۭ لِّلْعَٰلَمِينَ
(21 : 107)
[الأنبياء: 107].

وقال الله تعالى:

وَلَقَدْ جِئْنَٰهُم بِكِتَٰبٍۢ فَصَّلْنَٰهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًۭى وَرَحْمَةًۭ لِّقَوْمٍۢ يُؤْمِنُونَ
(7 : 52)
[الأعراف: 52].

 

خطورة توظيف مصطلح الأقليات

وبعدُ، فإن المسلمين لا يزالون يَذْكرون أن من أسباب تقويض آخر دولة جامعة لهم: استعمالَ غير المسلمين في وظائف مهمة، ممن لا يألونهم خبالًا، وجَعْلَ السفراء في البلاد الأجنبية من النصارى، فنالها جراءَ ذلك ما نالها.

ومِنْ أسفٍ، أن يستشعر المسلمون اليوم أن خطاب حقوق الأقليات يُرَاد له أن يكون سببًا في تقسيم الدول الإسلامية المعاصرة، على نحوٍ يَزيد الضعف، ويُكرِّس التبعية، وهذا يدعو المسلمين مجددًا لتحصيل القوة عبر الاجتماع والوحدة، وترك التنازع والفرقة.

وأخيرًا، فكما جرى توظيف مصطلح الأقليات غير المسلمة، يجري توظيف مصطلح الفرق والطوائف الإسلامية لذات الأهداف الاستعمارية، فقد قامت دولة نصيرية في سوريا ذات الأكثرية السنية، وثانية شيعية، وثالثة كردية في العراق، وهكذا تُستدعى الإثنيات والعرقيات في البلد الواحد، وتثار قضايا القوميات والطائفية؛ لمزيدٍ من تقطيع أواصر القربى، وتمزيق المُمَزَّق، وتجزيء المجزَّأ.

وقد قال الله تعالى:

وَأَطِيعُوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُوا۟ فَتَفْشَلُوا۟ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَٱصْبِرُوٓا۟ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ
(8 : 46)
[الأنفال: 46].

***

 

_______________________________________________________________

([1]) قول علي (رضي الله عنه)، المغني، لابن قدامة (3/ 14- 15).

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى