مقالاتمقالات مختارة

مفهوم النهوض الحضاري في فكر مالك بن نبي

بقلم د. حسام الدين فياض 

يرى المفكر الإسلامي مالك بن نبي* أن مفهوم الحضارة ضرورة وجودية، فالقضية حسب رأيه ليست تعلقاً برونق كلمة الحضارة، ولا هي أيضاً خضوعاً وإجلالاً لمفهوم يسمى الحضارة؛ إنما هي ضرورة وجودية كالماء، إما أن نرتشف منه وإما أن نموت عطشاً، فلم يعد هناك وقتٌ للعبث ([1]). بهذه الكلمات الموجزة عبّر المفكر بن نبي عن قلقه الواقعي إزاء ما يمر به العالم الإسلامي من تقهقر حضاري يدعو إلى إزالة التناقضات والمفارقات المنتشرة في جميع أركان بنائه الاجتماعي، وذلك بتخطيط ثقافةٍ شاملةٍ يحميها ويتبناها جميع أفراد المجتمع بكل أطيافه تمهيداً للنهوض الحضاري.

تشكّل فكرة الحضارة المحور الرئيسي والإطار الأساس، الذي تدور حوله وفي نطاقه أفكار المفكر الكبير مالك بن نبي، فالمشكلات كلها -في ضوء رؤيته- تندرج تحت ذلك المشكل “فمشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها” ([2]).

يعتقد بن نبي أن أقرب طريقٍ إلى بناء المجتمع الحضاري طريق الإصلاح المنهجي، فمن الممكن أن تؤدي الحلول الجزئية إلى حدٍّ شاملٍ للمشكلة، فكل الطرق تؤدي إلى روما، ولكن الطريق غير المنهجي هو أطول الطرق بلا شك، طريق المفاجآت التي تفاجئ العقل التائه، طريق السائح غير المتحقق من وجهته أو هدفه.

إن طريق الحضارة لا يمكن خطه تبعاً للصدفة، بإقامة مدرسة هنا، ومصنع هناك، وسد هنالك، أو بوضع سلة معدنية في جانب هذا الشارع حيث لا أحد يفكر في إلقاء المهملات التي يريد التخلص منها، وعموماً حين نريد أن نضع شيئاً زائداً في النظر الإنساني ([3]).

نعم إن سيرنا كيفما اتفق قد يوصلنا إلى حل يوماً ما. ولكن يبدو أن الأمر لا يعلق هكذا بذهن رجال الإصلاح والمفكرين الاجتماعيين المسلمين، وهذا يعني عدم وجود منهج واضح للإصلاح ولا نظرية محددة الأهداف والوسائل وتخطيط للمراحل، فإذا حللنا جهود المصلح الإسلامي وجدنا فيه حسن النية، ولكنا لا نجد فيه رائحة منهج. حيث ليس هناك دراسات عميقة وتحليلية لأمراض المجتمعات الإسلامية، وما الحلول والمقترحات؟ وما المهم والأهم؟ ولا أحد يهتم بالمشكلات الواقعية كما كان يفعل أئمة الفقه الإسلامي، بل ينصب الاهتمام أحياناً على مشكلات خيالية ([4]).

لذا يوجب علينا أن نحول السؤال المُثار بصورة ضمنية من خلال واقع العالم الإسلامي منذ قرنٍ من الزمان كيف نصنع منتجات الحضارة؟ إلى سؤال صريح كيف نصنع الحضارة تلك هي المشكلة في انضباطها التام. لذا يرى بن نبي أن المقياس العام في عملية الحضارة هو أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها، وسيكون من السخف والسخرية حتماً أن نعكس هذه القاعدة حين نريد أن نصنع حضارة من منتجاتها، ولذا يتوجب علينا أن نحدد ما هو المنهج الأصلح للنهوض الحضاري حسب بن نبي؟

المدخل المنهجي لمالك بن نبي

في حقيقة الأمر، وقبل أن نستخلص رؤيته للنهوض الحضاري، يجب علينا أن نحدد المدخل المنهجي الذي يعتمد عليه بن نبي في رؤيته للواقع الاجتماعي.

يعتمد بن نبي على المدخل البنائي- الوظيفي في زاوية اقترابه من مفهوم البناء الحضاري أي تحقيق شروط النهضة الحضارية في المجتمعات الإسلامية، وفي هذا السياق سوف نوضح باختصار شديد أهم المبادئ الأساسية التي تقوم عليها تلك الرؤية التي ترى أن المجتمع ما هو إلا بناء أو نظام اجتماعي يتكون من مجموعة من الأنساق الاجتماعية المتبادلة وظيفياً مثل النسق الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، والعائلي وغيرها من الأنساق الأخرى التي تؤثر في عملية استقرار مكونات البناء الاجتماعي أو المجتمع ككل.

ومعنى ذلك أن المجتمع ما هو إلا نسق يضم مجموعة من العناصر المتساندة التي تساهم في تحقيق تكامله واستقراره من خلال وجود نوع من الإجماع أو الاتفاق أو الشعور العام لقيام نوع من التفاعل الاجتماعي المتماسك والحفاظ على النظام الاجتماعي، وذلك حول عدد من القيم والمعتقدات العامة (الجمعية) التي يجب أن يتفق حولها أعضاء النسق الاجتماعي، بحيث يكون هناك اتفاق حول هذه القيم الجمعية سواء كانت ثقافية أو اجتماعية أو دينية أو سياسية أو اقتصادية أو مجموعة العادات والتقاليد والأعراف والقوانين، ولا سيما أن هذه القيم هي التي تشكل درجة الوعي الاجتماعي والاتفاق العام الذي يحدد بدوره الإيديولوجيا الاجتماعية التي تعزز من عمليات التماسك والتضامن الاجتماعي، ولذلك على الأفراد ممارسة أدوارهم ومسؤولياتهم بطريقة تكون محل إجماع منهم، على اعتبار أنهم يتفقون بشكل إيجابي على طرق وأساليب السلوك ([5]).

بهذا التأطير النظري والمنهجي، ينطلق بن نبي في فهمه لمفهوم الحضارة من وجهة نظر وظيفية “فهي مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده، في كل طورٍ من أطوار وجوده، منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطور نموه” ([6]).

بتعمق أكثر، في مفهوم الحضارة يعتقد بن نبي أن للحضارة عدة جوانب:

الأول باعتبارها جوهر تتطابق مع معنى الثقافة عنده فهي عبارة عن مجموع القيم الثقافية المحققة، “فالثقافة في جوهرها حضارة” ([7])؛ لأن كل واقع اجتماعي هو في الأصل قيمة ثقافية خرجت إلى حيز التنفيذ، فجوهر الأول هو جوهر الأخرى ضرورة ([8])، وبهذا المعنى يفسر التحضر، ومعناه أن يتعلم الإنسان كيف يعيش في جماعة، ويدرك في الوقت ذاته الأهمية الرئيسية لشبكة العلاقات الاجتماعية في تنظيم الحياة الإنسانية، من أجل وظيفتها التاريخية ([9]).

أما الثاني الحضارة باعتبارها مبدأ تتأسس في ضوئه طبيعة المجتمع؛ أي أنها إنتاج فكرة جوهرية تطبع على مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر، فهي الدفعة التي تجعله يدخل التاريخ، فيبني هذا المجتمع نظامه الفكري طبقاً للنموذج المثالي الذي اختاره، وعلى هذا النحو تتأصل جذوره في محيط ثقافي أصيل، يتحكم بدوره في جميع خصائصه التي تميزه عن الثقافات الأخرى والحضارات الأخرى ([10]).

وفي الجانب الثالث: الحضارة باعتبار عناصرها التي تتركب منها، فهي من هذا الجانب بناء مركب اجتماعي يشمل ثلاثة عناصر فقط، مهما كانت درجة تعقيدها كحضارة القرن العشرين ([11]). وهذه العناصر هي الإنسان، التراب، الزمن.

فالحضارة عند مالك بن نبي تساوي إنسان + تراب + زمن ([12]).

وكل حضارة برأيه تستلزم رأس مال أولي مكون من الإنسان والتراب والوقت، فهي مركب من هذه العناصر الثلاثة الأساسية، ولابد من أن يركبها العامل الأخلاقي (الفكرة الدينية([13])، ومن دون هذا العامل يوشك أن تتمخض العملية عن كومة لا شكل لها متقلبة عاجزة عن أن تأخذ اتجاهاً، أو تحتفظ به، أو تكون لها وجهة بدلاً من أن تكون كلاً محدداً من مبناه وفيما يهدف إليه ([14]).

وأخيراً يؤمن بن نبي أن الحضارة ليست كومة من الأشياء المختلفة والمتنوعة، وإنما هي كل منسجم من الأشياء والأفكار، ومن العلاقات والمنافع والمسميات، وهي بناء وهندسة وتجسيد لفكرة أو مثل أعلى ([15]). ولذلك فكل حضارة في التاريخ سماتها الميزة وكل دورة محدودة بشروط نفسية زمنية خاصة بمجتمع معين، فهي حضارة بهذه الشروط ([16]). ولهذا فمن المنطقي أن “الحضارة هي التي تكوّن منتجاتها وليست المنتجات هي التي تكوّن الحضارة إذ من البديهي أن الأسباب هي التي تكوّن النتائج وليس العكس” ([17]).

انطلاقاً من تلك الرؤية العميقة لمفهوم الحضارة صاغ بن نبي جميع إنتاجه الفكري تحت عنوان مشكلات الحضارة، حيث يقول: “كتبي كلها بعناوينها المختلفة أدرجت تحت عنوان عام هو مشكلات الحضارة؛ لأن المجتمع لا يعاني عندما تحل به أزمة سوى مشكلة واحدة؛ هي مشكلة حضارته في طور من أطوارها يتلاءم، أو لا يتلاءم مع ضرورات الحياة فعندما يتحقق شرط الانسجام تكون الحضارة مزدهرة، فيكون المجتمع بمثابة العقل السليم في الجسم السليم، وإن لم يتحقق هذا الانسجام، تحل بالمجتمع في هذا الطور من أطوار حضارته كل المحن التي يعانيها تحت أسماء مختلفة، من استعمار، إلى جهل، إلى فقر… إلخ، بينما في الحقيقة كلها أعراض لمرض واحد هو فقدان الحضارة، إذاً فكتبي أردت أن أخصصها من ناحية لدراسة أعراض هذا المرض ومن ناحية أخرى إلى تقييد طرق علاجها” ([18]).

مما يدل على أن ظاهرة الحضارة هي الفكرة الأساسية التي تتمحور حولها أفكاره الاجتماعية والثقافية والتربوية، بل حتى السياسية والاقتصادية. وكانت المدخل المنهجي الذي اتخذه بن نبي لبحث واقع المجتمع والأمة، مؤكداً أن

مشكلة أي شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته ([19]).

وفي محاولتنا الإجابة عن التساؤل السابق ما هو المنهج الأصلح للنهوض الحضاري حسب تصور بن نبي؟ سنسعى الآن إلى عرض منهجيته في النهوض (الإقلاع) الحضاري بما يتناسب مع خصائص المجتمع الإسلامي.

يعتقد بن نبي أن المجتمع الإسلامي يتأهب للدخول في دورة حضارية بعد أن انتهى منذ قرون طويلة إلى آخر أطوار الحضارة. وقد تبدو خطواته متعثرة ثقيلة إذا ما قورنت بخطوات غيره من المجتمعات الأخرى كاليابان والصين وماليزيا.

لذلك يقترح بن نبي أفكاراً حضارية تصلح لأن تكون مشروعاً نهضوياً قد يتمكن بواسطته المجتمع الإسلامي من إرساء أرضية متينة لبناء حضارة، وهو مشروع متكامل لا يمكن لأي جانب من جوانبه تعويض الآخر؛ فلا الاقتصاد وحده قادر على بناء كيان حضاري ولا السياسة وحدها أيضاً.

أبعاد مشروع النهضة

مالك بن نبي

يتجه هذا المشروع النهضوي حسب بن بني في عدة أبعاد تسعى إلى التكامل مع بعضها البعض في منظومة حضارية تهدف إلى بناء مجتمع إسلامي، وهي كالآتي ([20]):

1-الإيمان العميق بالمبدأ الذي يعتنقه الإنسان: أي وجود دستور أخلاقي، إلا أن بن نبي لا يقصد المعنى الفلسفي للأخلاق لدى الأفراد، بل رمى إلى قوة التماسك في مجتمع يريد تكوين وحدة تاريخية. وهذا الإيمان يعطي الإنسان قوة فوق قوته، واحتمالاً فوق احتماله، فيتغلب على المصاعب ويتحول هذا الإيمان إلى عاطفة قوية جارفة “فالروح وحدها هي التي تتيح للإنسانية أن تنهض وتتقدم، ومن يفقد القدرة على الصعود لا يمتلك إلا أن يهوي بتأثير الجاذبية” ([21]).

إن المبدأ الأخلاقي هو من يصنع ضمير الشعوب ويرتب رتبها العليا ويهذب مصالحها، وينظم شبكة علاقاتها الاجتماعية والثقافية، وهذا يعني أن للأخلاق في فكر بن نبي دور حيوي وفاعل لاستمرار نهضة الأمم وتطورها إن لم يكن المحرك الأول. وهذا المبدأ الأخلاقي بحاجة إلى فاعلية ويقصد بن نبي كيفية ارتباط العمل بوسائله ومقاصده وذلك حتى لا نستسهل أو نستصعب شيئاً دون مقياس.

إن النقص الذي يعاني منه الإنسان المسلم لا يتمحور حول منطق الفكرة فالأفكار المجردة كثيرة ومتنوعة، إنما نقص في منطق الحركة والعمل في العقل التطبيقي حيث يضيع الكثير من الوقت والجهد في فهم وتجسيد فكرة بسيطة.

2-تكوّن شبكة العلاقات الاجتماعية وأثرها في ميلاد مجتمع: يرى بن نبي أن صناعة التاريخ تمر عبر ثلاثة عوالم: عالم الأشخاص، عالم الأفكار وعالم الأشياء. غير أن العمل التاريخي لا يمكن أن يصنع فقط بوجود هذه العوالم الثلاثة وإنما “يستلزم كنتيجة منطقية وجود عالم رابع؛ هو مجموع العلاقات الاجتماعية الضرورية أو ما نطلق عليه شبكة العلاقات الاجتماعية” ([22]). فالفرد الذي تقوم عليه الحضارة لا ينبغي أن يكون فردانياً في تفكيره وفي تكوينه وفلسفته وإنما يجب أن يدرك تمام الإدراك أنه ضمن نسيج اجتماعي قائم على التكامل والتفاعل والإنتاج” ([23]).

ولا تكتمل الوظيفة التاريخية لأي مجتمع دون اكتمال شبكة العلاقات الاجتماعية داخله؛ لأن هذه الشبكة هي النقطة الأولى التي ينطلق منها المجتمع نحو الحركة والتغير، وفي هذا الصدد يقول بن نبي:

إن شبكة العلاقات هي العمل التاريخي الأول الذي يقوم به المجتمع ساعة ميلاده ([24]).

ويستشهد في ذلك بالعالم الإسلامي الذي كان ميلاده نتيجة الميثاق الذي ربط الأنصار والمهاجرين، واعتبرت بذلك الهجرة بمثابة نقطة بداية التاريخ الإسلامي.

ويبدأ التغيير الاجتماعي عندما ينشئ الفرد شبكة علاقات اجتماعية تربطه بباقي أفراد المجتمع؛ أي عندما يكتسب الفرد صفة “الاجتماعي“، حيث يقول مالك بن نبي: “إن العمل الأول في طريق التغيير الاجتماعي هو العمل الذي يغير الفرد من كونه فرداً إلى أن يصبح شخصاً، وذلك بتغيير صفاته البدائية التي تربطه بالنوع إلى نزعات اجتماعية تربطه بالمجتمع” ([25]).

بذلك أولى مالك بن نبي أهمية قصوى للعلاقات الاجتماعية وما يمكن أن تؤديه في سبيل الحركة التاريخية لمجتمع ما، حيث يرى في هذا الصدد أن: “التغيرات التي تتم في الحياة الاجتماعية لا يصح أن تعزى ابتداء إلى “المادة الاجتماعية” أعني: الاقتصاد وكل ما يتصل بالعمل الحسي، وإنما تعزى إلى “العلاقات” التي تحول الشروط السابقة للظاهرة الاقتصادية ذاتها، حين توحد عناصرها في خلق حياة إنسانية منظمة، من أجل الاضطلاع ببعض الوظائف الاجتماعية، في نطاق “العمل المشترك” الذي يصنع التاريخ” ([26]).

“فالمجتمع بذلك يحمل إذن في داخله الصفات الذاتية التي تضمن استمراره، وتحفظ شخصيته ودوره عبر التاريخ، وهذا العنصر الثابت هو المضمون الجوهري للكيان الاجتماعي، إذ هو الذي يحدد عمر المجتمع واستقراره عبر الزمن، ويتيح له أن يواجه ظروف تاريخه جميعاً، وهو يتجسد في نهاية الأمر في شبكة العلاقات الاجتماعية، التي تربط أفراد المجتمع فيما بينهم، وتوجه ألوان نشاطهم المختلفة في اتجاه وظيفة عامةٍ، هي رسالة المجتمع الخاصة به” ([27]).

3-الأفكار ودورها في النهوض الحضاري: يعطي بن نبي أهمية فائقة للأفكار وتأثيرها على الفرد والمجتمع وبناء الحضارات، فالفكر ركيزة مهمة في حياة الشعوب، وهو دليل على حيويتها وتقدمها أو على العكس دليل على جمودها وتخلفها؛ لأن نتاج العقل البشري الذي خلقه الله عز وجل لهذه الغاية فالنجاح الفكري وسيلة للقضاء على الأفكار الميتة لأن؛

تصفية الأفكار الميتة وتنقية الأفكار المميتة يعدان الأساس الأول لأية نهضة حقة ([28]).

ويرى بن نبي أن الفكرة ليس لها فعاليتها الكافية في العالم الإسلامي، أو هي لا تلعب دورها فيه، ولا ريب في أن فحص كل العوامل التي كان لها مفعول ما، في هذا القصور، سيكون ذا أهميةٍ بالغةٍ، ولكن المؤكد، أن أحد مظاهر هذا القصور، هو ما نلاحظه في التطور الراهن للعالم الإسلامي، من تخلفٍ بالنسبة إلى التطور العام ([29]).

فالمجتمع المتخلف ليس موسوماً حتماً بنقص الوسائل المادية (الأشياء)؛ إنما بافتقارٍ للأفكار، يتجلى بصفةٍ خاصةٍ في طريقة استخدامه للوسائل المتوفرة لديه، بقدر متفاوت من الفاعلية، في عجزه عن إيجاد غيرها، وعلى الأخص في أسلوبه في طرح مشاكله أو عدم طرحها على الإطلاق، عندما يتخلى عن أي رغبة ولو مترددة بالتصدي لها ([30]). فمن الواضح، أن من أكثر البوادر دلالةً على اتجاه مجتمع ما؛ هو اتجاه أفكاره، فإما أن تكون متجهة إلى الأمام، إلى المستقبل، أو إلى الخلف اتجاهاً متقهقراً، اتجاهاً ملتفتاً إلى الماضي بصورة مرضِيَّةٍ ([31]).

4-الإقلاع الاقتصادي ودوره في البناء الحضاري المجتمعي: نلاحظ هنا أن القضية لا تتصل بفقرٍ في الوسائل؛ لأن العمل هو الذي يخلقها، ولكن بفقر في الأفكار، فمن أجل دفع الآلة الاجتماعية في الحركة؛ أي من أجل تحقيق شروط الإقلاع، يجب أن يقوم التخطيط على مسلمة مدرجة كمبدأ عام لكل تشريع اجتماعي اقتصادي ألا وهي “كل الأفواه تستحق قوتها، وكل السواعد يجب العمل عليها” ([32]).

إلا أن المجتمعات العربية والإسلامية على العموم غداة استقلالها السياسي لم تجد أمامها سوى خيارين اقتصاديين إما الرأسمالية أو الاشتراكية، فتخلى عن صنع خط سير اقتصادي يتلاءم ومقوماته الحضارية فتحول بذلك الإنسان المسلم من دور صنع الحضارة وإنتاجها إلى مجرد مستهلك لمنتجات غيره فسقط من قمة البناء إلى التكديس؛ أي شراء منتجات حضارة الغير وتكديسها، مما أدى إلى خلق مشاكل خطيرة بحيث تنمو اللا فعالية وتموت الفعالية فيعيش الإنسان في تبعة حضارية لغيره ويكون عالة، وليس هناك أخطر من التبعية الحضارية على حياة المجتمع وقيمه وهويته، فالتكديس مظهر من مظاهر التخلف والتبعية يعيق التنمية ويمنع التجديد الحضاري، فشراء منتجات حضارة ما وتكديسها لا يبني الحضارة إذ أن أكوام من الأشياء المستوردة لا تساوي حضارة، فالحضارة حاصل تفاعل جملة من الشروط في التاريخ نفسية واجتماعية، وتخضع عملية البناء الحضاري لجملة من القوانين مثل قانون المبدأ الروحي وقانون التركيب بين عناصر العدة الدائمة وقوانين التوجيه وغيرها، فإن العودة إلى الريادة في المجال الحضاري تكون بالبناء المخطط المدروس المحكوم بفكر متحرر من إرادة الأجنبي وتأثيراته وليس بدفع الأمـوال لشراء مواد الاستهلاك المادي.

للخروج من هذه الأزمة والانطلاق في الإقلاع الاقتصادي يؤكد بن نبي على ضرورة تبني جملة من المبادئ:

  • امتلاك الأفكار والوسائل: يعتقد بن نبي أن أي مشروع نفكر فيه بأفكار الآخرين ونحاول إنجازه بوسائل غيرهم معرض للفشل لا محالة ([33]). ويرى بن نبي أنه قبل أن يفصل المجتمع المسلم بين الليبرالية والمادية، وجب عليه تأصيل ثقافة الأنا في لا وعي المجتمع الناشئ؛ ليتمكن من استخدام إمكانياته العقلية والجسمانية، وأن يستثمر ما يرغب فيه بوسائله الخاصة التي يمتلكها في ساعة الصفر عند إقلاعه.
  • خلق التوازن بين حجم الإنتاج والاستهلاك: من خلال الاحتفاء بالإنسان كقيمة اقتصادية أولى لا تتحقق أي خطة إلا به، وعلى أن يتمتع هو أولاً بإرادة حضارية وإيمان قوي بمقدرته على التخلص من التخلف، ويرى بن نبي “أن المجتمع العصامي الذي يقلع بمجهوده الخاص، سيدرك أن القصور الذي يفترضه التخلف في المجال الاقتصادي، إنما هو لتصوره الأشياء ذاتها وسوف يرى طاقاته الذاتية قادرة على تغيير كل الظروف في جو يسوده الإخاء والطمأنينة” ([34]).
    بذلك يستطيع مواجهة كل الظروف الاستثنائية، مثل التخلف؛ لأن مدرسة العمل المشترك تعلّمه أن الإرادة إذا حركت الإنسان تجعله يكتشف الإمكان، فالوطن أو المجتمع المسلم الذي يتحول إلى ورشة سرعان ما يكتشف أن الإمكان الذي ينتظره مما في يد الآخرين لتغيير مصيره، هو في يده منذ الآن. إن الإرادة تكتشف الإمكان، هذا القانون في المجال الاقتصادي هو في المجال النفسي ما تشير إليه الآية الكريمة: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) {الرعد:11}، وما نعبر عنه في المجال الاجتماعي بقولنا: إن الإرادة الحضارية تصنع الإمكان الحضاري ([35]).

خلاصة القول

مالك بن نبي

إن النهضة الحضارية مشروع فكري متكامل وفي هذا السياق يمكننا اعتبار كتب المفكر مالك بن نبي حول شروط الإقلاع الحضاري صرخة حضارية مهمة للعقل العربي والإسلامي والإنساني في إطار تحفيزه لبناء المجتمعات الإسلامية من خلال إرساء مشروع متكامل لنهضة حقيقية بعد حقبة استعمارية طالت وشملت العالم العربي والإسلامي وما ترتب عليها من آثار ونتائج، وبعد محاولات عديدة من مدارس كثيرة لرسم هذا المشروع وتوضيح مكوناته وشرح أدواته ووسائله.

 وفي النهاية يؤكد لنا بن نبي أن النهضة الحضارية ليست فقط مشروعات اقتصادية وتنموية ترتفع مؤشراتها حيناً وتنخفض حيناً آخر، بل مشروع فكري متكامل لابد له من تربة تمنحه قابلية النمو والتطور وتجعل منه مشروعاً متجذراً في تربة الوعي الجمعي الإسلامي مدعوماً بمبادئ وقيم تعلو فوق الأشخاص والأشياء، وأخيراً لابد لهذا المشروع أن يكون نابعاً من ثقافة هذا المجتمع معبراً عن هويته وتاريخه ومكتسباته الحضارية المـتأصلة في أعماق الحضارة الإنسانية والتاريخ الإنساني يشهد لنا بذلك.

________________________________________________________________________

المصادر
المصدر: موقع تبيان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى