مقالاتمقالات المنتدى

مفهوم القضاء والقدر وأثره في تربية الصَّحابة رضي الله عنهم

مفهوم القضاء والقدر وأثره في تربية الصَّحابة رضي الله عنهم

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

اهتمَّ القرآن الكريم في الفترة المكِّيَّة بقضية القضاء والقدر، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49] ، وقال تعالى: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [الفرقان: 2]، وكان صلى الله عليه وسلم  يغرس في نفوس الصَّحابة مفهوم القضاء والقدر، ويُـبَيِّن لهم مراتبه من خلال القرآن الكريم، وهي:

المرتبة الأولى: علم الله المحيط بكلِّ شيءٍ: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قرآن وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [يونس: 61] .

المرتبة الثَّانية: كتابة كلِّ شيءٍ كائن: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾[يس: 12] .

المرتبة الثالثة: مشيئة الله النَّافـذة، وقدرتـه التَّامَّة: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ﴾ [فاطر: 44] .

المرتبة الرابعة: خَلْقُ الله لكلِّ شيءٍ: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الأنعام: 102] .

كان للفهم الصَّحيح والاعتقاد الرَّاسخ في قلوب الصَّحابة لحقيقة القضاء والقدر ثمارٌ نافعةٌ ومفيدةٌ، عادت عليهم بخيرات الدُّنيا والآخرة؛ فمن تلك الثمرات:

1 – أداء عبـادة الله عزَّ وجلَّ؛ فالقدر ممَّا تَعَبَّـدَ الله – سبحانـه وتعالى – الأمَّة بالإيمان به.

2ـ الإيمان بالقدر طريق الخلاص من الشِّرْك؛ لأنَّ المؤمن يعتقد: أنَّ النَّافع والضَّار، والمعزَّ، والمذلَّ، والرافع، والخافض، هو الله وحده سبحانه وتعالى.

3 – الشَّجاعة والإقدام: فإيمانهم بالقضاء والقدر جعلهم يوقنون: أنَّ الاجال بيد الله تعالى، وأنَّ لكل نفسٍ كتاباً.

4 – الصَّبر والاحتساب، ومواجهة الصِّعاب.

5 – سكون القلب، وطُمَأْنِينَـةُ النَّفس، وراحة البال: فهذه الأمور من ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر، وهي هدفٌ منشودٌ، فكلُّ مَنْ على وجه البسيطة يبتغيها، ويبحث عنها، فقد كان عن الصَّحابة من سكون القلب، وطُمأْنِينَة النَّفس ما لا يخطر على بالٍ، ولا يدور حول ما يشبهه خيالٌ، فلهم في ذلك الشَّأن القِدْحُ المُعَلَّى (النَّصيب الوافر) والنَّصيب الأوفى.

6 – عزَّة النَّفس والقناعة والتَّحرُّر من رِقِّ المخلوقين: فالمؤمن بالقدر يعلم: أنَّ رزقه بيد الله، ويدرك أنَّ الله كافيه وحسبه ورازقه، وأنَّه لن يموت حتَّى يستوفي رزقه، وأنَّ العباد مهما حاولوا إيصال الرِّزق له، أو منعه عنه؛ فلن يستطيعوا إلا بشيءٍ قد كتبه الله، فينبعث بذلك إلى القناعة، وعزَّة النَّفس، والإجمال في الطَّلب، وترك التكالب على الدُّنيا، والتَّحرُّر من رِقِّ المخلوقين، وقطع الطَّمع ممَّا في أيديهم، والتوجُّه بالقلب إلى ربِّ العالمين.

إنَّ ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر كثيرةٌ، وهذه من باب الإشارة.

ولم تقتصر تربية الرَّسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه على تعليمهم أركان الإيمان السِّتَّة المتقدِّمة؛ بل صحَّح عندهم كثيراً من المفاهيم والتَّصوُّرات، والاعتقادات عن الإنسان، والحياة، والكون، والعلاقة بينهما؛ ليسير المسلم على نورٍ من الله، ويدرك هدف وجوده في الحياة، ويحقِّق ما أراد الله منه غاية التَّحقيق، ويتحرَّر من الوهم والخرافات. (أهمِّيَّة الجهاد في نشر الدَّعوة الإسلامية ، ص 59)

فقه الصحابة بحقيقة الإنسان:

إنَّ القرآن الكريم عرَّف الإنسان بنفسه، بعد أن عرَّفه بربِّه، وباليوم الآخر، وأجاب على تساؤلات الفطرة: من أين؟ وإلى أين؟ وهي تساؤلات تفرض نفسها على كلِّ إنسان سَوِيٍّ، وتلحُّ في طلب الجواب. (منهج التَّربية الإسلاميَّة، لمحمَّد قطب، (2/54)

وبيَّن القرآن الكريم للصَّحابة الكرام حقيقة نشأة الإنسانيَّة، وأصولهم الَّتي يرجعون إليها، وما هو المطلوب منهم في هذه الحياة؟ وما هو مصيرهم بعد الموت؟

تعرَّف الصَّحابة بواسطة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ومنهجه القرآني على الأصل الإنسانيِّ الَّذي هو الماء والتُّراب – أي: الطِّين – وبسلالته الَّتي هي الماء المهين، أو النطفة، كما عرَّفه بمكانته، وكرامته عند ربِّه؛ حيث أسجد له الملائكة، وأعلى كرامتَه، وتفضيلَه على كثيرٍ من الخلق؛ ليقف الإنسان وسطاً بين هذين الحدَّين: الأدنى، والأعلى، فبمكانته وكرامته يرى نفسه عزيزاً، وبأصله وسلالته يتواضع مُعَظِّمَاً شأنَ من أنشأه من ذلك الأصل، وأوصله إلى تلك المكانة العالية، فينجو بذلك من العُجْبِ والكبر، والغرور، كما يمنعه عزُّه وكرامته من التذلُّل لغير الله تعالى، والإنسان لو تركه الإله دون هدىً؛ لعانى الكثير من سوء الفهم للنَّفس، بل إنَّ عدداً من النَّاس قد يعانون ذلك لسببٍ ما؛ كالإفراط في الثِّقة بنظرتهم الخاصَّة إلى أنفسهم؛ الَّتي قد تؤدِّي إلى الغرور، والتَّعالي، وإمَّا إلى الهوان والتَّدنِّي. (أساليب التشويق في القران ، د. الحسين جلو ، ص 134)

إنَّ نظرة الإنسان إلى نفسه من أقوى المؤثِّرات في تربيته، وما زال الإنسان منذ أن وجد على وجه الأرض مأخوذاً بسوء الفهم لنفسه، يميل إلى جانب الإفراط حيناً؛ فيرى أنَّه أكبر، وأعظم كائنٍ في العالم، فينادي بذلك وقد امتلأ أنانيةً، وغطرسةً، وكبرياء كما نادى قوم عاد: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتنَا يَجْحَدُونَ ﴾ [فصلت: 15] وكما نادى فرعون: ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، ويربأ بنفسه – أي: الإنسان – أن يعتقد أنَّه مسؤولٌ أمام أحدٍ، ويتحوَّل إلى متألِّهٍ، ويميل حيناً آخر إلى جانبٍ معاكسٍ هو التَّفريط؛ فيظن أنَّه أدنى، أو أرذل كائنٍ في العالم، فَيُطَأْطِىء رأسه أمام شجرٍ، أو حجرٍ، أو نهرٍ، أو جبلٍ، أو أمام حيوان؛ بحيث لا يرى السَّلامة إلا أن يسجد للشَّمس أو للقمر. (أصول التَّربية للنَّحلاوي ، ص 31)

وقد بيَّن القرآن الكريم بوضوحٍ: أنَّ «حقيقة الإنسان ترجع إلى أصلين: الأصل البعيد، وهو الخلقة الأولى من طينٍ، حين سوَّاه، ونفخ فيه الرُّوح، والأصل القريب المستمرُّ، وهو خلقه من نطفةٍ»، وقال الله تعالى في ذلك عن نفسه: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ *ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ *ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾ [السجدة: 7 – 9]، والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ.

 

 

___________________________________________

المصادر:

  • ملاحظة: مادة المقال مستقاة من كتاب: “السيرة النبوية”، للدكتور علي الصلابي.
  • أصول التَّربية، عبد الرحمن النحلاوي.
  • أهمِّية الجهاد في نشر الدَّعوة، د. عليٌّ العليانيُّ، دار طيبة، الطَّبعة الأولى، 1405 هـ 1985م.
  • السيرة النبوية، د. علي محمد الصلابي، الطبعة الأولى، 2005م.
  • منهج التَّربية الإسلاميَّة لمحمد قطب، دار الشُّروق، الطَّبعة الخامسة، 1403 هـ 1983 م.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى