مفكر أردني: الخلافات العقائدية بين المسلمين أصلها سياسي
أرجع الباحث في العقائد والفرق والمذاهب الإسلامية، حسن السقاف أسباب الخلافات العقائدية بين المسلمين إلى سببين رئيسين: أولهما سياسي نشأ منذ مرحلة مبكرة في التاريخ الإسلامي، ثم تعمق في الدولة الأموية، حيث تولد من رحم الصراعات السياسية عدة توجهات عقائدية، وثانيهما: التعصب وضيق الأفق، وعدم إعمال الفكر والنظر.
وقال في حواره مع “عربي21”: “الخلافات العقائدية بين الفرق موجودة أيضا بين أهل المذهب أو التيار الواحد، فالأشاعرة مثلا ليسوا متفقين في سائر مسائل الاعتقاد على قول واحد، بل بين أئمتهم وعلمائهم اختلافات بعضها عميق، وكذلك السلفيين أو من ينتسبون أو يُنْسَبون لأهل الحديث”.
وشدد على أنه حتى “لو كانت الاختلافات بيننا اختلافات تضاد، فهذا لا يمنع من المعاشرة بالمعروف، والتعايش بسلم وأمان والتواصل والتزاور فإن الحوار والتواصل مفيد في بيان الحقيقة ومعرفة ما عند الآخر بدلا الاتهامات بالباطل”، لافتا إلى أنه منذ ما يقارب أربعين سنة مدّ يده للقاء الشيخ الألباني وعلي الحلبي وغيرهما، وطرق أبوابهم لكنهم لم يتجاوبوا مع دعوته تلك على حد قوله.
وأكدّ الباحث السقاف الذي نشأ على مذهب الأشاعرة، ودرس العقائد ودرّسها، وألّف وحقق وفق مذهبهم أنه “لم يتراجع عن تبني الأشعرية ولا النة، ولكنه يدعو إلى عدم التعصب والتقليد الأعمى، كما يدعو إلى تنقية كتب وشروح وحواشي العقيدة الأشعرية من الأقوال التي لا تستند لأدلة قوية، وأن تغربل من الأحاديث الباطلة والموضوعة والضعيفة والاستدلالات الواهية، ومكايدة الخصوم التي يقع بها بعضهم”.
وعن اختلاف الاجتهادات والآراء بين علماء المذهب الأشعري، وصفها السقاف بأنها “اجتهادات وتطور عند كل عالم في مراحل حياته، ولكن أمثال إمام الحرمين والغزالي لم يكونوا قط على طريقة الأشعري، وأما المتأخرين جدا من أصحاب المتون فكما أسلفنا أنهم كانوا على طريقة إمام الحرمين، وبالخصوص في كتابه (الإرشاد)إلا أن جمهور هؤلاء المتأخرين كانوا على عقيدة الجبر في أفعال العباد، وبعضهم خالف ذلك”.
وأضاف: “وأرى اليوم فئتين من الأشعرية فئة منفتحة تنظر وتبحث عن الصواب من الأقوال المؤيدة بالدليل، وفئة متعصبة منغلقة ترى أن أقوال أصحاب بعض المتون والشروح والحواشي هي الحق الذي ليس عليه من مزيد، ولا يعدلون عنها ويتهمون من يخالفها بالخروج من الأشعرية بل من أهل السنة والجماعة”.
ودعا السقاف المسلمين من مختلف الاتجاهات العقائدية إلى التلاقي والتحاور العلمي في أجواء الأخوة الإيمانية الجامعة، وبهذا “يمكن إزالة تلك الحدة في الاختلافات العقائدية أو الفقهية إذا ما كانت النوايا طيبة، بعيدا عن الأحقاد، والتأثر بجهات التحريض” وهو ما يفضي إلى تأليف القلوب، ويعين على التصدي لكل من يحاول إثارة الفتن بين المسلمين.
فيما يلي الجزء الثاني والأخير من الحوار مع الباحث حسن السقاف:
س ـ ثمة من يقول إن المذهب الأشعري عبر مراحله المتلاحقة طرأ عليه تحولات في المنهجية والمقولات، بين منهجية المذهب ومقولاته بحسب تقريرات مؤسسه أبي الحسن الأشعري، والقاضي أبي بكر الباقلاني، وبين توجهات متأخري الأشاعرة كإمام الحرمين الجويني، وثم الفخر الرازي.. ما هي طبيعة تلك التحولات داخل المذهب الأشعري.. وكيف تقيمها؟.
ـ كما قلنا ليس هناك تقليد في العقائد عند العلماء، كما أنه ليس هناك مذهب موحَّد أو متفق عليه يقال له المذهب الأشعري، وإنما هذه تسمية على فئة من علماء أهل السنة وبينهم خلاف في كثير من المسائل.
كان هناك الأشعري وكان هناك أيضاً القفال الشاشي، وقد عاصر الأشعري ولكنه لم يسلك طريقته مع أنه يقال بأن كلا منهما أخذ عن الآخر، وهناك الماوردي وهو من كبار الشافعية ولم يكن على طريقة الأشعري وإنما كان مؤولاً ولا يقول بالجبر، نعم مسلك كل من الأشعري والباقلاني متقارب ولهما صلة وتواصل مع الحنابلة، وطريقة إمام الحرمين مخالفة لطريقة ومسلك ومذهب الأشعري والباقلاني وهما يثبتان الاستواء صفة لله تعالى وكذلك يثبتان العينين واليدين ونحوهما، وهذا لا يسلكه إمام الحرمين والغزالي وتلميذه أبو بكر بن العربي المالكي.
وقد سارت كتب من جاء من بعدهما من العلماء الذين يطلق عليهم أشاعرة (مع أنهم لا يقلدون الأشعري ولا يقرأون كتبه ولا يتداولونها فيما بينهم) على نهج وطريقة إمام الحرمين والغزالي، وقد قال السبكي: (والإمام يعني إمام الحرمين لا يتقيد بالأشعري)، وقال في مسألة أفعال العباد: (ولإمام الحرمين والغزالي مذهب يدنو كل الدنو من الاعتزال وليس هو هو)، وقال ابن العربي المالكي في العواصم ص (55): (إذا سمعت أني أشعري كيف حكمت بأني مُقَلِّد له في جميع قوله؟! وهل أنا إلا ناظر من النُّظَّار أدين بالاختيار، وأتصرَّف في الأصول بمقتضى الدليل).
وقال الإمام الغزالي في “فيصل التفرقة ص (39): (فإن زعم ـ صاحبك ـ أن حدَّ الكفر ما يخالف مذهب الأشعري أو مذهب المعتزلي أو الحنبلي أو غيرهم فاعلم أنه غر بليد، قد قيَّده التقليد، فهو أعمى من العميان، فلا تضيِّع بإصلاحه الزمان…).
فأنا أرى أنه ليست هناك تحولات بمعنى التحولات وإنما هي اجتهادات وتطور عند كل عالم في مراحل حياته ولكن أمثال إمام الحرمين والغزالي لم يكونوا قط على طريقة الأشعري، وأما المتأخرين جداً من أصحاب المتون فكما أسلفنا أنهم كانوا على طريقة إمام الحرمين وبالخصوص في كتابه الإرشاد إلا أن جمهور هؤلاء المتأخرين كان على عقيدة الجبر في أفعال العباد وبعضهم خالف ذلك.
وأرى اليوم فئتين من الأشعرية فئة منفتحة تنظر وتبحث عن الصواب من الأقوال المؤيدة بالدليل، وفئة متعصبة منغلقة ترى أن أقوال أصحاب بعض المتون والشروح والحواشي هي الحق الذي ليس عليه من مزيد، ولا يعدلون عنها ويتهمون من يخالفها بالخروج من الأشعرية بل من أهل السنة والجماعة، وهؤلاء من يرجعون لكتب السنوسي وما عليه من الشروحات والحواشي، ونأمل أن يعودوا إلى تحكيم الدليل وترك التعصب لقول فلان وفلان، والله الموفق.
س ـ ثمة ظاهرة عند دارسي الفرق والاتجاهات العقدية الدينية تتمثل في عدم الرجوع إلى المصادر المعتمدة والموثقة عند كل اتجاه، حيث يتم النقل من مراجع وسيطة، وهو ما يوقع الباحث في عدم الدقة في توصيف مقولات وعقائد تلك الاتجاهات، كيف تصف تلك الظاهرة.. وما هي أبرز نتائجها السلبية؟
ـ إذا أردنا أن نعرف حقيقة أي مذهب أو أي فرقة فلا بد لنا أن نرجع إلى علماء ذلك المذهب، ولا نكتفي بعالم واحد فقط من ذلك المذهب أو تلك الفرقة فربما يكون من الشذاذ الذين لا يمثلون تلك الفرقة، فكم أقوال نسبت إلى مذاهب أو فرق أو أشخاص وهم لا يقولون بها، أو لديهم تفصيل فيها، فبعض الأشاعرة رمى المعتزلة بإنكار نعيم وعذاب القبر وهم لا ينكرونه، بل الذي ينكره شخص واحد ترك مذهبهم وفارقه وهو ضرار بن عمرو، ورأيت الألباني يرمي الإباضية والمعتزلة بأنهم يقولون بأن الله تعالى في مكان وهم لا يقولون بذلك كما بينت ذلك في كتابي (تناقضات الألباني الواضحات) وكثير من الفرق والمذاهب شوهت صورتهم بسبب عوامل سياسية أو مذهبية مبنية على التعصب والافتراء، فعلى العاقل اللبيب أن لا يقبل الشائعات وعلى الباحث أن يتتبع كل مذهب عند علمائه وأئمته حتى يعرف الصواب وتخف الشحناء والبغضاء.
وهناك بعض النصوص التي يظنها بعضهم فصل الخطاب في موضوع الفرق كأحاديث لا تصح، تتوهم بعض المذاهب والفرق وتظن أنها حَكَم شرعي عدل على اعتقاد كفر أو ضلال مخالفيهم أو غير طائفتهم وأهل مذهبهم كحديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة وأن جميعها في النار إلا فرقة واحدة، وكحديث (القدرية مجوس أمتي) مع أن هذه وأمثالها أحاديث باطلة وغير صحيحة ولا ثابتة. فهذا مما يجب أن لا نغفل عنه.
س ـ كيف انعكست الخلافات العقائدية بين اتجاهات الأمة المختلفة على وحدتها واجتماعها وتآلف قلوب أتباعها، وما هي مآلات تلك الاختلافات من حيث الاجتماع الديني بحسب تتبعك لمسار تلك الاتجاهات تاريخيا وواقعيا؟
ـ في بعض الأقاليم أو البلدان هناك عدة مذاهب وفرق ومع وجود بعض الاختلافات في عدد من القضايا الفقهية أو العفائدية إلا أننا لا نجد تناحراً بين هذه الفرق ولا بغضاء وتنافراً لأنه لا توجد جهات محرِّضة تثير الفتن والقلاقل بين المسلمين هناك، بينما نجد في بعض الدول والأقاليم أهل السنة يتنازعون ويتناحرون فيما بينهم، وهذا راجع إلى أسباب سياسية أو تعصب طائفي أو أمور أخرى. قال الله تعالى: {وما تَفَرَّق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة * وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} البينة : [4-5].
فإذا وجد الإخلاص والصدق ، وخلا القلب عن البغضاء والحسد والظلم وحب الرياسة وإظهار التفوق والسيادة وحب قهر الغير، وكان القلب وضمير المرء مهموماً بخدمة الدين وإعلاء الحق والشفقة على المسلمين وإنصاف المظلومين وما إلى ذلك من العناصر المضادة للبغي كان الاختلاف جائزاً بشرط أن لا يخرج عن إطار الشرع واللغة وإلا كان محرماً مؤدياً إلى مُحَرَّم أكبر ألا وهو التفرُّق والشحناء والانقسام إلى شِيَعٍ وأحزاب {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون * فذرهم في غمرتهم حتى حين} المؤمنون: 52 ـ 54.
ومتى تبين للمسلمين بالعلم أو بالقرائن أن دافع المخالِف اتِّباع الهوى أو الترخُّص لشهوة النفس أو الطمع في أمر دنيوي يضاد المقصد الأسمى الذي هو رضى الله تعالى، أو يضاد مبدأ خدمة الدين وحراسته وصيانته، أو أن المخالف بعيد عن حب الأُلْفَة والرحمة والمحبة لعباد الله والاجتماع على طاعته ورضاه كان خلافه مذموماً وكان صاحبه خاسراً ؛ لا يجوز لإنسان أن يوافقه أو يؤيده أو يسير معه أو يناصره .
س ـ هل من سبيل للتقليل من حدة تلك الاختلافات العقائدية ومحاصرة نتائجها، بإبقائها في دائرة البحث العلمي، والحوار الفكري، وتبقى مساراتها محكومةبأخلاقيات الدين وآدابه، مع اجتماع القلوب وتآلف المسلمين؟
ـ إذا سعى العقلاء من أهل العلم إلى ترسيخ قبول الرأي والرأي الآخر، وسعت الحكومات إلى الدعوة لنبذ العنف وإلى اجتماع العلماء المؤثرين في الساحة في مجالس ومؤتمرات التقريب بين المذاهب والدعوة إلى وحدة الهدف الإسلامي وأن المسلمين متحدين في كون أن لهم كتاباً واحداً ونبياً واحداً وقبلة واحدة وهم متفقون على أركان الإسلام الخمس وكثير من الأصول، فستخف حدة التناحر وستتقلص دائرة الخلاف في ما بين الفرق والمذاهب الإسلامية، فإننا نجد الآن لقاءات ومؤتمرات تجمع ما بين أتباع الديانات ونجد رغم الخلافات الجذرية في العقائد والأفكار أن هناك تحالفا، أو عدم تناحر وصراعات مع احتفاظ كل أتباع دين بآرائهم ومعتقداتهم وتصوراتهم.
والمسلمون أولى بذلك فيما بينهم كما أسلفنا، فيمكن إذاً إزالة تلك الحدة في الاختلافات العقائدية أو الفقهية إذا كانت النوايا طيبة ولا أحقاد ولم يتأثر الكل بجهات التحريض. نسأل الله تعالى أن يؤلف ما بين قلوبنا وأن يعيننا للتصدي لكل من يحاول إثارة الفتن فيما بيننا وأن يرزقنا الصدق والإخلاص لتزول الأحقاد والضغائن، ويجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
(المصدر: عربي21)