مقالاتمقالات مختارة

معطِّلات “تسويق” النموذج الإسلامي للحكم

بقلم أحمد التلاوي

 

خلال الفترة الأخيرة، عكف مجموعة من العلماء والمفكرين المسلمين، من دائرة الحركات الإسلامية الصحوية، ومن جنسيات مختلفة، على وضع “روزنامة” بأبرز التحديات التي تواجه الأمة، وعلى مختلف المستويات: السياسية والاجتماعية والفكرية، حتى الاقتصادية.

وبالرغم من أن هذه “الروزنامة” قد تم تداولها على مستوى داخلي، كأفكار تضم أصحابها، ومن دون وصولها إلى الإعلام، إلا أنها في النهاية تمثل بداية مبشرة على وجود إحساس داخل الأوساط الحركية المختلفة بحجم الأزمات التي تواجهها الأمة، وضرورة طرح حلول عملية لها، والبداية من توصيفها، على أن يكون الجهد المبذول في هذا الإطار جهداً جماعياً، وبمبادرات فردية بعيدًا عن التعقيدات التنظيمية والسياسية، أو الميول الإعلامية.

وفي حقيقة الأمر فإنه بالرغم من الشمول الذي أحاط بالرؤى التي تضمنتها هذه الورقة التي طُرِحت للتداول الداخلي للتفكير فيها، إلا أنه كان من الملاحظ أن مختلف الأزمات النوعية ذات الطابع التطبيقي التي تم تناولها في هذه الورقة لا تخرج عن التصنيفات التالية:

– مشكلات تعود إلى اختلاف الأمة وتفرقها، والذي وصل إلى مستوى الاقتتال الداخلي.

– مشكلات تعود إلى القوى الدولية غير الراغبة في استعادة الأمة لخيريتها ودورها الحضاري.

– مشكلات تعود إلى ظروف واعتبارات موضوعية تتعلق بالأوضاع الداخلية للبلدان المسلمة، وعلى رأسها التباعد الحاصل بين المسلم وبين أصوله في القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الشريفة، وانفصاله عن تاريخه، وغير ذلك مما غيَّب الوعي بقضايا الأمة، ودورها، والمطلوب في هذه المرحلة، وغير ذلك من الأمور.

وفي إطار هذه التصنيفات، يمكن رصد منظومة ضخمة من القضايا، مثل الأقليات الإسلامية في البلدان غير المسلمة، والمذهبية، وثروات الأمة الضائعة لصالح الحروب البينية، ولخزائن شركات السلاح في الدول الكبرى، بالإضافة إلى المشكلات الأهم من وجهة نظر خاصة، وهي غياب الوعي بهوية الأمة ورسالتها، ورسالة الفرد المسلم في هذه المرحلة التاريخية الحساسة، التي يجرب فيها المسلمون للمرة الأولى منذ أكثر من 14 قرنًا من الزمان، إلا يكون لهم إطار سياسي جامع.

وفي حقيقة الأمر فإننا في إطار سلسلة المراجعات التي تتم في الوقت الراهن للأوضاع التي يمر بها المشروع الإسلامي، فإننا سوف نقف أمام نقطة محورية شديدة الأهمية، وهي قضية النموذج الإسلامي للحكم.

فمنذ بداية ظهور الحركات الإسلامية الصحوية المعاصِرة –مقصود الحركة هنا جماعة أو شخصية مثَّلتْ تيارًا في حد ذاتها– كان هناك حالة من الإجماع بين رموز هذه الحركات، التي عاصرت لحظات انهيار دولة الإسلام الجامعة الأخيرة، ممثلة في الدولة العثمانية، على أن الحل الوحيد لاستعادة المشروع الإسلامي وأثره على مستوى الإنسانية، والعودة بالأمة إلى ساحة التنافس الحضاري العالمية؛ هو أن تنشأ حكومات ودول إسلامية تعمل على عدد من الأهداف الأولية المهمة، وصولاً إلى الوحدة الإسلامية الشاملة.

هناك حالة من الإجماع بين رموز الحركات الإسلامية، على أن الحل الوحيد لاستعادة المشروع الإسلامي وأثره على مستوى الإنسانية، والعودة بالأمة إلى ساحة التنافس الحضاري العالمية؛ هو أن تنشأ حكومات ودول إسلامية تعمل على عدد من الأهداف الأولية المهمة، وصولاً إلى الوحدة الإسلامية الشاملة

ومن بين أهم هذه الأهداف، صناعة وعي المسلمين بهويتهم، وبالتالي قضية الوحدة الإسلامية وضروراتها، قيميًّا وموضوعيًّا، وفق موازنة دقيقة بين قضية القوميات والوطنيات الأصغر، ومفهوم الانتماء الأممي، بعد فترات طويلة من غرس العصبيات من قوى الاستعمار، أفقدت المسلم إحساسه بهويته.

ويتصل بذلك قضية ما يمكن أن نطلق عليه “الربط المصلحي” بين الشعوب والدول التي تضمها الأمة، وذلك من قوانين العمران السياسي والاجتماعي السليمة، التي تكلم عنها ابن خلدون ودوركايم وجان جاك روسو، من أجل تحقيق التكامل، ومن ثَمَّ -في مرحلة متقدمة- قبول الشعوب التي تتضمنها الدول المسلمة، لفكرة الوحدة فيما بينها، والتضحية منها فيما إذا كانت هذه الوحدة سوف تحمل بعض هذه الشعوب، أعباء أزمات شعوب مسلمة أخرى.

وهو مبدأ نجده في الممارسة النبوية، عندما آخى النبي “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، بين المهاجرين والأنصار في المدينة، ووضع القواعد الأولى لدولة الإسلام، من خلال منظومة متشابكة من العلاقات التي تقوم على مختلف الأركان، النفسية والاجتماعية والسياسية، وغير ذلك.

وبالتالي فإن قضية النموذج الإسلامي للحكم، هي من أكثر القضايا أهمية وحساسية، وتُعتبر معطِّلاتها، هي أبرز معطِّلات الصيرورات السليمة للمشروع الإسلامي، ولهدف الوحدة الإسلامية.

ولكننا في هذه المرحلة نقف على مجموعة من المشكلات التي تعترض “تسويق” –الذي هو عملية نفسية وسلوكية بالأساس– النموذج الإسلامي للحكم، وللأسف فإن مصدرها الكثير من الحركيين، ممن وقعوا في فخ كثيرًا ما كتبنا عنه في هذا الموضع، وهو الإعلاء من شأن الجماعة أو الحركة أو التنظيم… إلخ -على الدين ومصلحة المشروع الجامع بالكامل، مع خلط حاصل بين مفهوم التنظيم أو الحركة.. إلخ، ومفهوم العقيدة، ووضع البعض لهذا صنو ذاك، بينما من المفترض أن كل هذه الحركات والجماعات إنما هي في الأول والأخير هي أداة في خدمة الدين ومشروعه.

من المشكلات التي تعترض “تسويق” النموذج الإسلامي للحكم، الإعلاء من شأن الجماعة أو الحركة أو التنظيم… إلخ -على الدين ومصلحة المشروع الجامع بالكامل، مع خلط حاصل بين مفهوم التنظيم أو الحركة.. إلخ، ومفهوم العقيدة

إلا أن قيام بعض هذه الحركات على أساس فقهي وعقيدي، وبسبب أخطاء في مناهج التربية والتنشئة؛ خرج جيل من الحركيين الشباب الذين يؤمنون بتطابق الانتماء للجماعة أو الحركة، مع الانتماء للعقيدة.

وبالتالي، وفي التطبيقات الأكثر تطرفًا، نجد فتنة تكفير الآخر المسلم.

وهذه القضية تصاعدت وتفاعلت بشكل تدريجي خلال العقود الثمانية الماضية. ففي البداية كان التعاون القائم على الأصول السليمة، والفهم الصحيح، هو الأساس الذي جمع بين حسن البنا والمودودي، بل ورموز شيعية، وكان مجمع التقريب بين المذاهب في الأربعينيات ثمرة مهمة لذلك.

الآن نجد أن القتال، بل القتل، على أساس العقيدة، هو المظهر الحاكم بين المجموعات التي خرجت من رحم الحركات التي أسسها البنا والمودودي وغيرهما من رموز الحركة الإسلامية الأوائل.

ثم نجد المشكلة الأكبر، وهي غلبة اعتبارات التنظيم والسياسة ومصالح حكومات بعينها، على تقييم بعض الصف الحركي لحوادث كبرى، بحيث صار هناك انتقائية في تقييم الأحداث، وبما أن هذا من “حركتنا” أو “جماعتنا” –أيًّا كانت– فهو على صواب، والآخر على خطأ، وبالتالي ظهر تباين في تقييم أحداث متشابهة بناء على هذا الحال.

فعلى سبيل المثال فإن القتل والعدوان بغير الحق مذمومان في كل الأحوال، ولكن عند البعض يكون الحدث قتلاً وعدوانًا يستوجب القصاص في حالة، وفي حالة أخرى قد تكون مماثلة تمامًا؛ هو مُبرَّر.

وهذا يعني ببساطة أمام الآخر المسلم وغير المسلم، أن هذا الطرف أو ذاك، من الجماعات والحركات الإسلامية، ينزع ليس صفة الدين فحسب عن خصمه المسلم، بل وصفة الإنسانية ذاتها، عندما يكف عن تناول قضايا هذا الآخر، والتي قد تكون قضايا عادلة، في جانبها الإنساني على الأقل، وليس السياسي الذي قد يكون بالفعل محل نظر.

وتبعًا للعاملَيْن السابقَيْن، فإنه وببساطة كذلك، عند محاولة تسويق المشروع الإسلامي في الحكم لن يجد قبولاً. فالمواقف السابقة لعملية التسويق القائم على الإقناع والاقتناع –عامل شديد الأهمية لضمان تعاون الفرد والمجتمع المستهدفَيْن– سوف تقول بأن الأمر في أول لحظة وموقف لتباين في وجهات النظر، سوف يكون ثمنها مصير هذا الفرد، وهذا المجتمع، طالما أنه خارج دائرة الانتماء الحركي.

وهذا أمر شديد الخطورة، ينبغي معه السعي إلى ضرورة التوفيق بين اعتبارات السياسة واعتبارات المشروع بالكامل؛ لأنه لا أحد سوف يتعاون مع أطراف، عند خلاف مصالح مع الانتماءات السياسية والتنظيمية الضيقة سوف تضحي بمصالحه.

وهذا الحديث ليس تقييمًا أو تقديرًا شخصيًّا؛ حيث إن الكثير من المسلمين بالفعل في هذه المرحلة يرفضون أن يأتي الحكم الإسلامي –على إيمانهم حتى بضرورته، وقناعتهم به عقيديًّا– من طرف الجماعات والحركات الإسلامية الحالية، فما هو حال غير المسلمين؟!

إن الكثير من المسلمين بالفعل في هذه المرحلة يرفضون أن يأتي الحكم الإسلامي –على إيمانهم حتى بضرورته، وقناعتهم به عقيديًّا– من طرف الجماعات والحركات الإسلامية الحالية، ناهيك عن الحرب التي تستهدف المشروع الإسلامي والتشويش الكامل لكل ما هو نبيل وإنساني

وتضافر ذلك مع عامل آخر، وهو الحرب ضد المشروع الإسلامي من جانب خصومه الداخليين والخارجيين، من أنظمة وحكومات استبدادية، وتيارات علمانية، وقوى عظمى، عملت على التشويش الكامل على كل ما هو نبيل وإنساني وحضاري في المشروع الإسلامي.

إن الحركيين الإسلاميين أمام تحدٍّ كبير في هذه النقطة، وأساس مشكلتها عميق للغاية؛ لأنه موصول بالتربية التي تنشَّأ عليها هذا الجيل الحالي، وبالتالي فإن معالجتها تتطلب أن تتفق الحركات الإسلامية الكبرى على معالجة مشتركة، تعمل على فرضها بأدواتها التنظيمية والتربوية- أولاً- على المجموع الحركي، ومن دون ذلك سوف يظل نموذج الحكم الإسلامي، عُرضة للرفض، بل والحرب من جانب حتى مجتمعات مسلمة!

 

(المصدر: موقع بصائر أونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى