مقالاتمقالات مختارة

معركة “سيف القدس”.. وسقوط وهْم “الأسْرَلة”

معركة “سيف القدس”.. وسقوط وهْم “الأسْرَلة”

بقلم د. السيد شعبان

ما تزال جعبة الحركة الصهيونية مليئة بصور السرقة والنهب، محاولة طمس هوية الأرض ومحو كل ما يشير إلى جذرها العربي الإسلامي حتى عمدت إلى تجسير الهوة من خلال “الأسْرَلة” التي تعني صبغ الجغرافيا وربط اقتصاد فلسطين المحتلة بمركزية الدولة العبرية مروراً بالأمن والسياسة منذ قامت دولة الاحتلال الصهيوني، في 15 مايو 1948م، بعدما شردت وذبحت أهل الوطن وألقت بالمتبقين في مخيمات اللجوء ودول الشتات.

هدفت الصهيونية من وراء “الأسْرَلة” إلى استنزاف مقدرات أصحاب الأرض، وجعلهم ترساً في آلة الإنتاج؛ لذا يجدر بنا حين نعرض لذلك المصطلح أن نبين علاقات التداخل بينه وبين غيره من المفاهيم المعرفية كمصطلح “الدولة اليهودية”؛ فقد كان ينظر إلى يهود العالم على أنهم شعب واحد رغم ما بينهم من تباين عرقي ولغوي بل ديني.

حين جاءت الحركة الصهيونية عمدت إلى تذويب الفروق بين الجماعات اليهودية المختلفة، مثل:

الصهيونية هدفت من وراء “الأسْرَلة” إلى استنزاف مقدرات أصحاب الأرض وجعلهم ترساً في آلة الإنتاج

– الأشكناز: وهم اليهود الذين ترجع أصولهم إلى أوروبا الغربية؛ ألمانيا وفرنسا تحديداً.

– السفارديم: وهم الذين تعود أصولهم الأولى ليهود إسبانيا والبرتغال؛ أي يهود الأندلس الذين طُردوا منها في القرن الخامس عشر الميلادي بعد سقوط غرناطة 1492م، وتفرقوا في شمال أفريقيا وآسيا الصغرى والشام، وكثير منهم كانوا من رعايا الدولة العثمانية في المناطق التي تخضع لسيطرتها، وكانت لغتهم “لادينو” مزيجاً من اللاتينية والعبرية.

– مزراحيم: وهو مصطلح عبري لليهود الشرقيين، وتعني باللغة العبرية مشرقي، وتطلق على اليهود المنحدرين من بلاد ما عرف فيما بعد بالشرق الأوسط ويهود الهند ويهود كردستان والعراق وإثيوبيا (الفلاشا) والسودان واليمن.

– الفلاشا: وهم القادمون من إثيوبيا إلى دولة الكيان الصهيوني بداية من ثمانينيات القرن الماضي وحتى أواخر القرن العشرين، وتتم معاملتهم على أسس تمييزية في شتى جوانب الحياة اليومية، ويطلق عليهم على سبيل التهكم والسخرية لفظ “كوش”، وهي كلمة تعني العبيد؛ ما يؤذي مشاعرهم ويعمق الفجوة بينهم وبين مكونات المجتمع الغاصب.

ورغم بريق الدعاية الصهيونية وترويجها لمقولات توراتية انتقائية، وزعمها بأن اليهود “شعب الله المختار”، وأن تلك الأرض حق لشعب بلا أرض، ومحاولة خلق مجتمع استيطاني تعاوني من “الكيبوتس” “والماشاف”، فقد نفد رصيد الوكالة اليهودية للهجرة، وبات الكيان يعاني من أزمة ديمغرافية، افتقرت إلى اليهود الغربيين؛ لذا توجه لاستقطاب اليهود الشرقيين (اليهود السفارديم)؛ هؤلاء الذين وصفهم “ديفيد بن جوريون” الأشكنازي، أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني، بأنهم “كالزنوج الذين أحضروا إلى أوروبا كعبيد”؛ فهم في حكم العبيد في نظر الأشكنازيم الذين تسيدوا المجتمع وتملكوا بدءاً من المؤتمر الصهيوني الأول.

يحتل اليهود السفارديم في دولة الاحتلال الصهيوني أدنى سلم الأجور بعد العرب، ودخول اليهود الأشكناز للجامعات يصل إلى ثلاثة أضعاف أبناء اليهود السفارديم، ناهيك عن الأحياء السكنية والوظائف القيادية.

شخصية تركيبية جيولوجية

حاولت الصهيونية تذويب تلك الفوارق، محاولة طرح اليهودية الجامعة من خلال الإيحاء بالشعب اليهودي ويهودية الدولة مقابل المد العروبي القومي جنباً إلى جنب مع مصطلح “الأسْرَلة” لاستمالة عرب الداخل، غير أن تلك الشخصية “الإسرائيلية” التي عرَّفها المفكر الراحل د. عبدالوهاب المسيري بأنها تركيب جيولوجي تراكمي، هذا التفسير ينقض مزاعم الحركة الصهيونية ودعاواها بنقاء العنصر اليهودي “أنثربولوجياً”، هذه الجيولوجيا المتراكمة من حضارات وشعوب تواجدت بينها تعني غياب مركزية التفسير؛ فالشخصية اليهودية جماعة وظيفية منعزلة على ذاتها إثنياً ودينياً، وقد تحولت لتكون تراكماً طبقياً في ظل الدولة اليهودية بعد عام 1948م.

المجتمع الفلسطيني فتي يحمل عوامل البقاء بما يفرضه الواقع الديمغرافي الذي يهدد الكيان الصهيوني

بات الكثيرون يتساءلون عن أسباب فشل مشروع “أسْرَلة” الفلسطينيين، خلال معركة “سيف القدس”؛ حيث ثار عرب الخط الأخضر في أم الفحم ومثلث الجليل والنقب والقدس، وما شاهدناه من تمسك أهل حيي الشيخ جراح وسلوان ببيوتهم وأرضهم، ورفعهم العلم الفلسطيني، وتجاوبهم مع مشروع المقاومة؛ وهو ما شكل دليلاً واضحاً على سقوط وهْم الاندماج في واحة الديمقراطية المدعاة.

كثيراً ما شغلت آلة الدعاية الصهيونية مقولة “عرب إسرائيل” في محاولة كاذبة للتدليس على الجغرافيا وتزوير التاريخ، وقد تبين مما ذكرته دائرة الإحصاء “الإسرائيلية” أن عدد سكان دولة الكيان المحتل بلغ 9.190 مليون نسمة بينهم 6.806 مليون يهودي بنسبة 74%، و1.930 مليون عربي بنسبة 26%، وأن عدد العرب في هذه الإحصائية يضمون الفلسطينيين في القدس المحتلة والسوريين في هضبة الجولان المحتلة، على حين ذكر الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن عدد سكان الضفة الغربية بلغ 3.03 مليون نسمة، وعدد سكان قطاع غزة مليونان و200 ألف.

هذه الإحصائية تكشف أن المجتمع الفلسطيني مجتمع فتي يحمل عوامل البقاء بما يفرضه الواقع الديمغرافي الذي يهدد الكيان الصهيوني بأزمة هوية وسط شعب عربي يتمتع بالتماسك والتجانس العرقي لغة وديناً وتاريخاً مشتركاً، كما حطمت وهْم “الأسْرَلة”، وبات الوجود الصهيوني مهدداً من داخله؛ فقد كشفت معركة “سيف القدس” عن فرية اندماج العرب داخل الخط الأخضر في المجتمع “الإسرائيلي”، ووجدنا مدناً وقرى عربية تحت قوانين الطوارئ والأوامر العسكرية.

في الأسابيع الماضية، جابت الهتافات ودوَّت حناجر عرب 1948 في المدن والقرى لا تطلب غير الحرية، وطافت مواكب الشهداء القدس وحيفا ويافا وعكا وبيتا واللد في تجاوب قومي أذهل العدو، وبدأ قادته يهددون بالضرب بيد من حديد في المناطق التي اشتعلت مستلهمة ثورة عام 1936م.

لذا نجحت حرب الأحد عشر يوماً في نقل المعركة إلى داخل الكيان الصهيوني وحصاره اقتصادياً وعسكرياً؛ ما أعجز قادته وجعلهم يفكرون في مناقشة مسلَّمات الأمن القومي الصهيوني.

الأحداث أثبتت أن الفلسطينيين يرفضون العيش ببلادهم مواطنين من الدرجة الثانية

فقبل ذلك، كانت حروب الكيان الصهيوني تجري خارج حدوده؛ ما يعني استنزاف مقدرات دول الجوار العربي، فلما انتقلت إلى داخله ظهرت هشاشة الوضع العسكري وبات الكيان عبئاً على داعميه شرقاً وغرباً.

فقد أثبتت هذه الأحداث أن الفلسطينيين يرفضون أن يعيشوا في بلادهم مواطنين من الدرجة الثانية، أو تجري عليهم قوانين العزل العنصري حتى لو تحصلوا على فتات من عوائد أرضهم المستلبة، فثاروا حفاظاً على هويتهم التي عمل اليهود على تمييعها تحت دعاوى الإخاء والمساواة، وإن شاركت قائمة عربية في عضوية “الكنيست”، مبررة ذلك بالحصول على الخدمات الاجتماعية وتحسين فقط ظروف الاستعباد، إنها الهوية التي تأبت على الانسحاق أو التميُّع تحت زيف وبريق “الأسْرَلة” وذوبانهم في مجتمع الرفاه المدَّعَى.

لذلك خشي الكيان من حرب طويلة الأمد تكون تبعاتها خطيرة على تركيبة المجتمع؛ فهم طوال حروبهم يهدفون إلى الضربات العسكرية القصيرة أو الاستباقية؛ فهم مجتمع يعتمد على الآخرين اقتصادياً ووظيفياً، ويؤكد هذا احتفاظ كل فرد فيه بأكثر من جنسية.

إن أخطر ما وقع فيه العقل العربي وعلماء الإستراتيجية هو نظرتهم الموحدة لهذا الكيان، وعدم معرفتهم أو توظيفهم للدعاية المضادة، مجتمع يحمل من عناصر التنافر والاختلاف أكثر ما يدل على التماسك والانصهار في قومية واحدة.

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى