بقلم فتحي أبو الورد
وقفت على مقولة للخليفة العباسي المأمون تعبر عن رؤيته وشروطه في اختيار الولاة، وهي أشبه ما تكون بتقنين لشروط الولاة والقضاة في المواقع المختلفة، ووضع المعايير التي يجب أن يتم عليها اختيار الولاة والقضاة وغيرهم، وهي كذلك تمثل أفضل ما يمكن أن تنتهي إليه التقنينات المعاصرة لاختيار الأصلح والأكفأ لتولي المهام وإسناد المسؤوليات إليه، لضمان أداء أفضل للمؤسسات، وإنتاج أعظم للهيئات، وحفظ الولايات والمناصب -خاصة الدينية- من أن تعبث بها الأهواء والمجاملات والأغراض الوضيعة.
ذكر أبو الحسن الماوردي الشافعي في كتابه الأحكام السلطانية أن المأمون -رحمه الله- كتب في اختيار وزير فقال: (إني التمست لأموري رجلا جامعا لخصال الخير، ذا عفة في خلائقه واستقامة في طرائقه، قد هذبته الآداب وأحكمته التجارب، إن اؤتمن على الأسرار قام بها، وإن قُلد مهمات الأمور نهض فيها، يسكته الحلم، وينطقه العلم، وتكفيه اللحظة وتغنيه اللمحة، له صولة الأمراء وأناة الحكماء، وتواضع العلماء، وفهم الفقهاء، إن أُحسن إليه شكر، وإن ابتُلي بالإساءة صبر، لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده، يسترق قلوب الرجال بخلابة لسانه وحسن بيانه).
ومع ما قد يبدو في الشروط التي يُلمح فيها نوع من المبالغة أو جنوح إلى المثالية أو تحوط في إحراز درجة الكمال، فإنما ذلك لأنهم يرون أن الولايات من أعظم الأمانات فتستدعي الكمال في الأوصاف والأحوال، كما يقول ابن خلدون في “المقدمة”. وإنه لا سبيل إلى إهمال المزايا مع القدرة على مراعاتها، كما يقول الشاطبي في “الموافقات”.
كما أن الولايات بعامة أمانةٌ ثقيلة، يُطلب لها أعظم الناس تقًى وعلمًا، وغيرها من المناصب، ولا يجوز أن تتدخل في ملئها أسباب الطمع والتطلع والسيطرة، وأنه في الولايات يجب أن يطلب من أهل كل زمان أكملهم وأفضلهم كما يقول الشوكاني في “نيل الأوطار”، ولكن زيادة الفضل مبالغة في الاختيار وليست معتبرة في شروط الاستحقاق، كما يقرر الماوردي.
كما أن التنظير دائمًا يضع الحد الأعلى من الشروط لضمان تحقق أعلى نسبة من المواصفات المطلوبة في الشخص المرشح للمنصب لما يكون له بعد ذلك المردود الحسن على أداء المهمة المنوطة به، وأن كل ما يشترط واجب مع القدرة، أما عند العجز فبحسب الإمكان، ذلكم لأن مدار الشريعة كلها على العمل بقدر الوسع، وهذا المدار يرتكز على قوله تعالى: “فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ” (التغابن: 16). وعلى قوله صلى الله عليه وسلم عند البخاري: “إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم”، كما يقول ابن تيمية.
ومقولة المأمون تعكس إلى أي مدًى كانت المعايير الرشيدة في اختيار الولاة واضحة أمام ناظريه ممن يساعدونه في إدارة الدولة، ويتولون القيام بمصالح البلاد ورعاية شؤون العباد.
وهو في ذلك يمتثل لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: “من استعمل رجلا من عصابة، وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله، وخان رسوله، وخان المؤمنين”.
كما أنه يترسم خطى أبي بكر في الانتقاء والتدقيق فيمن يختارهم للتصدر للقيادة والإدارة لخطورة هذا الأمر حفاظا على أمانة الولاية، ويحوط من يختاره بالتوجيه والنصح والمتابعة.
قال أبو بكر رضي الله عنه ليزيد بن معاوية حين بعثه إلى الشام: يا يزيد، إن لك قرابة خشيت أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكبر ما أخاف عليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من ولي من أمر المسلمين شيئا، فأمر عليهم أحدًا محاباة، فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا، حتى يدخله جهنم”.
ولا عجب حين نعلم أن أمنية عمر حين دعا الأصحاب للتمني كانت دارًا مملوءة برجال أمثال أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولى حذيفة لكي يستعين بهم في إعلاء كلمة الله، على حين كانت أمنيات الأصحاب المال الوفير الذي ينفقونه في سبيل الله، لأن الرجال هم الذين تساس بها الرعية، وهم الركائز التي تبنى على أساسها الأمجاد، وتشاد بسواعدهم الحضارات، وهؤلاء في الناس قلة، حتى إن النبي وصفهم بالرواحل في قوله: “الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة”.
والأمة التي لا أمانة فيها هي الأمة التي تعبث فيها الشفاعات بالمصالح المقررة، وتطيش بأقدار الرجال الأكفاء، لتهملهم وتقدم مَن دونهم، كما يقول الشيخ الغزالي.
المصدر: بوابة الشرق.