مقالاتمقالات المنتدى

معاناة المرأة في زمن موسى  (6)

أرضعيه وألقيه ولا تخافي ولا تحزني وأبشري

معاناة المرأة في زمن موسى  (6)
أرضعيه وألقيه ولا تخافي ولا تحزني وأبشري

بقلم  د. عادل حسن يوسف الحمد( خاص بالمنتدى)

بداية انفراج معاناة أُمِّ مُوسَى كانت بالوحي الذي أوحاه الله عزَّ وجلَّ لها بقوله: (أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص: 7].
واشتمل هذا الوحي على أمرين، ونهيين، وبشارتين.
أمرها بإرضاعه ليتعوَّد على لبنها، وكانت هذه الخطوة الأولى في حماية طفلها من عدوِّ الله فرعون وجنوده، فامتثلت لأمر الله.
ولكن لماذا ترضعه إذا كانت ستلقيه في اليمِّ؟

مِثلُ هذه الأسئلة لا تصدر مِن أهلِ الإيمان بالله إذا جاءهم الأمر مِنَ الله أو مِن رسوله، لأنَّ أهل الإيمان يعلمون يقينًا أنَّ ما أمر الله به لابدَّ فيه من حكمة ظهرت لهم أو لم تظهر.
وهنا تتجلَّى حقيقة إيمان المرأة أمام الأمر والنَّهي الشرعي، أتمتثل أو تتعذَّر بالسؤال عن الحكمة قبل أن تمتثل؟!
مَن علَّقت استجابتها لأمر ربِّهَا على معرفةِ الحكمة، أو القناعة بالحُكم، فهذه لم تُعظِّم ربَّها، ولم تؤمن بأنَّ الله عليمٌ، حكيمٌ، خبيرٌ، سبحانه وتعالى.

أمَّا أُمُّ مُوسَى فقد امتثلت لأمر ربِّها فأرضعت مُوسَى عليه السَّلام. قال الطَّاهر بِن عَاشُور رَحِمَهُ الله: (وَإِنَّمَا أَمَرَهَا اللَّهُ بِإِرْضَاعِهِ لِتَقْوَى بُنْيَتُهُ بِلِبَانِ أُمِّهِ؛ فَإِنَّهُ أَسْعَدُ بِالطِّفْلِ فِي أَوَّلِ عُمُرِهِ مِنْ لِبَانِ غَيْرِهَا، وَلِيَكُونَ لَهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ الْأَخِيرَةِ قَبْلَ إِلْقَائِهِ فِي الْيَمِّ قُوتٌ يَشُدُّ بُنْيَتَهُ فِيمَا بَيْنَ قَذْفِهِ فِي الْيَمِّ وَبَيْنَ الْتِقَاطِ آلِ فِرْعَوْنَ إِيَّاهُ وَإِيصَالِهِ إِلَى بَيْتِ فِرْعَوْنَ وَابْتِغَاءِ الْمَرَاضِعِ وَدَلَالَةِ أُخْتِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أُمِّهِ إِلَى أَنْ أُحْضِرَتْ لِإِرْضَاعِهِ فَأُرْجِعَ إِلَيْهَا بَعْدَ أَنْ فَارَقَهَا بَعْضَ يَوْمٍ). (التحرير والتنوير 20/ 73)

أمَّا كم بقيت ترضعه، أو متى جاءها الخوف من عدوِّ الله فرعون؟ كلُّ هذا لا يعلمه إلَّا الله، وليس لنا علمٌ بذلك.
قال ابن جَرِيرٍ الطَّبَرِي رَحِمَهُ الله: (وَأَوْلَى قَوْلٍ قِيلَ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَمَرَ أُمّ مُوسَى أَنْ تُرْضِعَهُ، فَإِذَا خَافَتْ عَلَيْهِ مِنْ عَدُوِّ اللَّهِ فِرْعَوْنَ وَجُنْدِهِ أَنْ تُلْقِيَهُ فِي الْيَمِّ. وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ خَافَتْهُمْ عَلَيْهِ بَعْدَ أَشْهُرٍ مِنْ وِلَادِهَا إِيَّاهُ؛ وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ، فَقَدْ فَعَلَتْ مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا فِيهِ، وَلَا خَبَرَ قَامَتْ بِهِ حُجَّةٌ، وَلَا فِطْرَةَ فِي الْعَقْلِ لِبَيَانِ أَيِّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَيٍّ، فَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصِّحَّةِ أَنْ يُقَالَ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ). (جامع البيان 18/ 157)

فكان من وحي الله لها أن ترضعه، فإذا خافت عليه قذفته في اليمِّ، وهذه هي الطَّريقة الوحيدة التي أمامها لإنقاذه من زبانية فرعون.
قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص: 7] وقال تعالى: (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) [طه: 39] والأمر الإلهي الذي أوحاه الله إلى أُمِّ مُوسَى هو القذف في التابوت، ثم القذف في اليم؛ والقذف هو الرمي بشدة، فلماذا أمرها بقذفه بشدَّة مع أنه طفلٌ رضيع؟!

قال أَبُو زُهرَة رَحِمَهُ الله: (وإن فِي قوله: (أَنِ اقْذِفِيه فِي التَّابُوتِ) أي كان مما أوحى به الأمر بقذفه، والقذف هو الإلقاء، كما قال تعالى (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْب)، ولا شكَّ أنَّ التَّعبير بالقذف يفيد معنى الشدَّة فِي الإلقاء، وذلك للمعاناة النَّفسيَّة التي كانت تعتلج فِي قلب الأمِّ الرؤومِ، فكان التَّردد الشديد، ثم انتهى التَّردد بالإلقاء، وكأنَّها تقذف قطعة منها فِي تابوت مغلق لَا تدري بالحسِّ ما الله فاعلٌ بِهِ.
ألقته فِي التَّابوت بمعاناة نفسيَّةٍ، ثم ألقت التَّابوت الذي فيه مُوسَى قطعة نفسها فِي اليمِّ وهي فِي ألمٍ مريرٍ. والضمير فِي قوله تعالى: (اقذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) يعود عَلَى موسى بلا ريب وأمَّا فِي قوله: (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ) يحتمل أن يكون لموسى وأن يكون للتَّابوت، وفِي كلتا الحالين هي تقذفه وقلبها معلَّق به، والأوضح أن يكون لموسى، لقوله تعالى: (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) العداوة ليست للتابوت، وإنَّما هي لشخص الرسول الكليم.

ويلاحظ أنَّ العطف كله بالفاء التي تفيد التَّرتيب والتَّعقيب من غير تراخ زمني؛ ذلك لأنَّ الأُمَّ الرؤوم تريد المسارعة بنجاة ولدها الحبيب من الذبح، والإلقاء هو السبيل الوحيد أمامها، والله سبحانه وتعالى الذي ألهمها بإلهامه الذي هو وحي، ينقذه قبل أن يموت جوعًا أو تتقاذفه الرياح، يعجل سبحانه وتعالى بالنجاة فألقاه فِي الساحل). (زهرة التفاسير 9/ 4723)

وهناك فرقٌ بين طريقة قذف أُمِّ مُوسَى لموسى في اليمِّ، وإلقاء اليمِّ لموسى على الساحل. قال أَبُو زُهرَة رَحِمَهُ الله: (وقد عبَّر عن وجوده عَلَى الساحل بالإلقاء دون القذف؛ لأنَّ القذف يكون من أعَلَى لأسفل ولأن الإلقاء لم يكن بمعاناة من الأُمِّ، بل كان برحمة من الله تعالى). (زهرة التفاسير 9/ 4724)
وهنا بدأت المرحلة الثَّالثة من المعاناة؛ وهي فقد أُمِّ مُوسَى لرضيعها.
موسى عليه السلام، ذلك الطفل الرضيع ملقى في تابوت في اليمِّ، واليمُّ يجري بالتابوت بعيدًا عن عين أُمِّ مُوسَى، ثمَّ يتَّجه به بأمر الله إلى قصر الطاغية فرعون؛ وقصر فرعون يطل على النهر، فرآه الحرس فانتشلوه من النَّهر وأحضروه أمام فرعون وامرأته.

والقرار المتوقع هو قتله، لأنَّ الحال في تلك السنة هو قتل كلِّ مولود ذكر يولد لبني إسرائيل.
فهل استطاع فرعون قتله؟
وكيف صرف الله عن موسى القتل؟
وكيف كان حال أُمِّ مُوسَى وقد فقدت التابوت الذي فيه رضيعها؛ موسى عليه السلام؟
6 رمضان 1446هـ

��أرضعيه وألقيه ولا تخافي_6�

إقرأ أيضا:حكم الخميس على حماس

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى