مقالاتمقالات المنتدى

معاناة المرأة في زمن موسى ( 14)

معاناة المرأة في العمل خارج البيت

معاناة المرأة في زمن موسى ( 14)
معاناة المرأة في العمل خارج البيت

بقلم د. عادل حسن يوسف الحمد ( خاص بالمنتدى)

لما رأى موسى مشهد البنتين وتجنُّبهما للسقاية مع الناس، توجَّه إليهما متسائلًا ومتعجبًا من صنيعهما، فقال: (مَا خَطْبُكُمَا)؟
قال ابنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِي رَحِمَهُ الله: (قَالَ مُوسَى لِلْمَرْأَتَيْنِ مَا شَأْنُكُمَا وَأَمْرُكُمَا تَذُودَانِ مَاشِيَتَكُمَا عَنِ النَّاس، هَلَّا تَسْقُونَهَا مَعَ مَوَاشِي النَّاس). (جامع البيان 18/ 210).
وقال الطَّاهر بن عَاشُور رَحِمَهُ الله: (فَلَمَّا رَأَى مُوسَى الْمَرْأَتَيْنِ تَمْنَعَانِ أَنْعَامَهُمَا مِنَ الشُّرْبِ سَأَلَهُمَا: مَا خَطْبُكُمَا؟ وَهُوَ سُؤَالٌ عَنْ قِصَّتِهِمَا وَشَأْنِهِمَا إِذْ حَضَرَا الْمَاءَ وَلَمْ يَقْتَحِمَا عَلَيْهِ لِسَقْيِ غَنَمِهِمَا). (التحرير والتنوير 20/100).

وكان الجواب العظيم، والذي فيه درس وعبرة لكل فتاة اليوم تريد العمل خارج البيت: (قَالَتَا لَا نَسْقِي حتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) [القصص: 23].
قال ابن كثير رحمه الله: (أَيْ لَا يَحْصُلُ لَنَا سَقْيٌ إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِ هَؤُلَاءِ). (تفسير ابن كثير 6/ 204).
وقال الألوسي رَحِمَهُ الله تعالى: (كأنهما قالتا: إنا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر عَلَى مساجلة الرِّجال ومزاحمتهم، وما لنا رجل يقوم بذلك، وأبونا شيخ كبير السن قد أضعفه الكبر فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يقضي النَّاس أوطارهم من الماء). (روح المعاني 10/270).

فبينتا سبب الابتعاد عن السقيا بعدم الرغبة في مزاحمة الرجال والاختلاط بهم.
ثم اتبعتا ذلك ببيان العذر الذي أخرجهما إلى العمل خارج البيت فقالتا: (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)، قال ابن كثير رحمه الله: (أَيْ فَهَذَا الْحَالُ الْمُلْجِئُ لَنَا إِلَى مَا تَرَى). (تفسير ابن كثير 6/ 204).
وقال الطَّاهر بن عَاشُور رَحِمَهُ الله: (وَكَانَ قَوْلُهُمَا: (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) اعْتِذَارًا عَنْ حُضُورِهِمَا لِلسَّقْيِ مَعَ الرِّجال لِعَدَمِ وِجْدَانِهِمَا رَجُلًا يَسْتَقِي لَهُمَا؛ لِأَنَّ الرَّجل الْوَحِيدَ لَهُمَا هُوَ أَبُوهُمَا وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ وُرُودَ الْمَاءِ لِضَعْفِهِ عَنِ الْمُزَاحَمَةِ). (التحرير والتنوير 20/100).

وقال الشعراوي رَحِمَهُ الله: (معنا إذن فِي هذه القِصَّة أحكام ثلاثة:
(لاَ نَسْقِي حتَّى يُصْدِرَ الرعآء) أعطَتْ حُكمًا،
و (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) أعطتْ حُكْمًا،
و (فسقى لَهُمَا) أعطت حكمًا ثالثًا.
وهذه الأحكام الثلاثة تُنظِّم للمجتمع المسلم مسألة عمل المرأة، وما يجب علينا حينما تُضطر المرأة للعمل.

فمن الحكم الأول نعلم أن سَقْي الأنعام من عمل الرِّجال، ومن الحكم الثاني نعلم أن المرأة لا تخرج للعمل إلا للضرورة، ولا تؤدي مهمة الرِّجال إلا إذا عجز الرَّجل عن أداء هذه المهمة (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ).
أما الحكم الثالث فيعلم المجتمع المسلم أو حتَّى الإنساني إذا رأى المرأة قد خرجت للعمل فلا بد أنه ليس لها رجل يقوم بهذه المهمة، فعليه أن يساعدها وأنْ يُيسِّر لها مهمَّتها.

وأذكر أنني حينما سافرت إلى السعودية سنة 1950 ركبتُ مع أحد الزملاء سيارته، وفِي الطريق رأيته نزل من سيارته، وذهب إلى أحد المنازل، وكان أمامه طاولة من الخشب مُغطَّاة بقطعة من القماش، فأخذها ووضعها فِي السيارة، ثم سِرْنا فسألتُه عما يفعل، فقال: من عاداتنا إذا رأيتُ مثل هذه الطاولة عَلَى باب البيت، فهي تعني أن صاحب البيت غير موجود، وأن ربَّة البيت قد أعدَّتْ العجين، وتريد مَنْ يخبزه فإذا مَرَّ أحدنا أخذه فخبزه، ثم أعاد الطاولة إلى مكانها.

وفِي قوله تعالى: (لاَ نَسْقِي حتَّى يُصْدِرَ الرعآء) إشارة إلى أن المرأة إذا اضطرتْ للخروج للعمل، وتوفرت لها هذه الضرورة عليها أنْ تأخذَ الضرورة بقدرها، فلا تختلط بالرِّجال، وأنْ تعزل نفسها عن مزاحمتهم والاحتكاك بهم، وليس معنى أن الضرورة أخرجتِ المرأة لتقوم بعمل الرِّجال أنها أصبحتْ مثلهم، فتبيح لنفسها الاختلاط بهم).
(تفسير الشعراوي 17/ 10904).

إن المعاناة التي واجهتها المرأة في مدين عند خروجها إلى العمل خارج البيت تتمثَّل في أمرين اثنين:
الأول: معاناة الاختلاط بالرِّجال.
الثاني: معاناة طبيعة العمل الذي خرجت تمارسه.
أما المعاناة الأولى: وهي الاختلاط بالرجال، فقد دلَّت نصوص القرآن والسنة على حرمة الاختلاط النساء بالرجال في الأعمال.
فمن هذه الأدلة قِصَّة هاتينِ البنتينِ، فإنهما على حاجتهما للسقيا، إلَّا أنهما لم يقتربا من الرجال، فانزويا بشكل واضح حتى لفت ذلك نظر نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام.

ومنها: قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) [الأحزاب: 33].
فأمر سبحانه بالقرار في البيوت لما في ذلك من صيانة المرأة وإبعادها عن وسائل الفساد، ولأن المرأة التي لا تقرُّ في بيتها مُعرَّضة للاختلاط بالرجال بسبب كثرة خروجها، فاختار الله لها أن تقرَّ في البيت لِيَقِلَّ احتكاكها بالرجال، ولذلك أعقب الأمر بالقرار في البيوت، بالنهي عن التبرُّج، لأن كثرة الخروج من البيت تُوقع المرأة في التبرُّج.

ومنها: قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الأحزاب: 59].
فأمر الله عزَّ وجلَّ نساء المؤمنين بإدناء الجلابيب عليهنَّ إذا أردن الخروج، والهدف من ذلك ظاهر، وهو حجبهنَّ عن الرجال، فإذا كنَّ قد حُجبن عن أعين الرجال باللباس، فكيف يسوغ أن يختلطن بالرجال في أنشطة المجتمع العامة والتي لا تخلو من تكشُّفهنَّ، واطِّلاع الرجال على النساء والوقوع في الفتنة بهنَّ.

ومنها: قوله سبحانه: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النور: 30-31].
فأمر الله المؤمنات بما أمر به المؤمنين من غضِّ البصر وحفظ الفرج، وبدأ بالأمر بِغضِّ البصر لأنه الوسيلة المؤدية إلى حفظ الفرج، فمن غضَّ بصره كان أولى بحفظ فرجه، ومن أطلق بصره عرَّض نفسه للوقوع في الفاحشة.
ولا يشكُّ عاقل أن الميادين المختلطة لا يسلم المرء فيها من النظر إلى الطرف الآخر، وهي أكثر الميادين التي تقع فيها فاحشة الزنى؛ فدلَّت هذه الآية بمفهومها على حُرمة الاختلاط.

ومنها: قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) [الأحزاب: 53].
قال ابنُ كثير رحمه الله: (أَيْ هَذَا الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَشَرَعْتُهُ لَكُمْ من الحجاب أطهر وأطيب). (تفسير ابن كثير3/505).
فيُفهم من ذلك أن الاختلاط ليس أطهر لقلوب الرجال والنساء، بل هو أفسد لقلوبهم جميعًا.

فالعمل المختلط فيه معاناة كبيرة للمرأة من عدَّة جوانب، منها:
• معاناة في غضِّها لبصرها.
• ومعاناة في ضبط مشاعرها.
• ومعاناة في الحفاظ على طهارة قلبها.
• ومعاناة في عدم إفسادها لقلب الرجل.
• ومعاناة في التزامها باللباس الشرعي الذي يُرضي ربَّها.
• ومعاناة في ضبط حديثها، وطريقة كلامها.
فهل استطاعت المرأة العاملة في ميادين الرجال تخطي هذه المعاناة؟

14 رمضان 1446هـ

��معاناة المرأة في العمل خارج البيت_14�

إقرأ أيضا:غـــ. زة وإشكالية العقيدة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى