مقالاتمقالات المنتدى

معاناة المرأة في زمن موسى ( 10)

فرددناه إلى أمه

معاناة المرأة في زمن موسى ( 10)
فرددناه إلى أمه

بقلم:د. عادل حسن يوسف الحمد( خاص بالمنتدى)

سارت أخت مُوسَى بحذر شديد تتقصى أخبار الطِّفل الرَّضِيع بعد أن انتشله جنود فرعون من اليمِّ وأدخلوه إلى القصر.
وبعد أن حصل ما حصل من الحوار بين فرعون وامرأته فِي مسألة إبقاء الطِّفل وعدم قتله، واستقر الأمر على عدم القتل، حصل ما لم يكن فِي حسبانهم، فقد جاع الطِّفل وبدأ بالصراخ والبكاء المستمر، وهذه وسيلة كل رضيع إذا طلب الرَّضاعة، فإنه يبكي حتَّى تستجيب له أمُّه، ولكن مُوسَى عليه السلام لمَّا بكى لم يجد من يستجيب له من داخل القصر، فأربكهم ببكائه، وصعب عليهم تهدئته.

وفِي حال الإرباك غالبًا ما يفقد العقل قدراته فِي التَّفكير العميق، ويقع فِي الاستعجال لمعالجة اللَّحظة الحاضرة من الموضوع.
فكان أسرع حلٍ لموضوع بكاء الطِّفل أن تُرضعه أيُّ امرأة؟!
فبدأ أهل القصر بالبحث عن مرضعة له، فِي الأسواق وتجمعات النَّاس، ومن البيانات التي كانت عندهم عن المراضع، فقد كانوا يمتلكون قاعدة بيانات عن كل نساء بني إسرائيل، ويعرفون من هي التي حملت وولدت، وماذا أنجبت!
ولكنَّ الله سبحانه حرَّم عليه المراضع، قال تعالى: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ) [القصص: 12].

قال ابن كَثِير رَحِمَهُ الله: (أي تحريمًا قدريًا، وذلك لكرامته عند الله وصيانته له أَنْ يَرْتَضِعَ غَيْرَ ثَدْيِ أُمِّهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى جَعَلَ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى رُجُوعِهِ إِلَى أُمِّهِ لترضعه، وهي آمنة بعد ما كانت خائفة). (تفسير ابن كثير 6/201)
وقال الطَّاهر بِن عَاشُور رَحِمَهُ الله: (وَالتَّحْرِيمُ: الْمَنْعُ، وَهُوَ تَحْرِيمٌ تَكْوِينِيٌّ، أَيْ قَدَّرْنَا فِي نَفْسِ الطِّفل الِامْتِنَاعَ مِنَ الْتِقَامِ أَثْدَاءِ الْمَرَاضِعِ وَكَرَاهَتَهَا، لِيَضْطَرَّ آلُ فِرْعَوْنَ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ مُرْضِعٍ يَتَقَبَّلُ ثَدْيَهَا؛ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ وَامْرَأَتَهُ حَرِيصَانِ عَلَى حَيَاةِ الطِّفْلِ، وَمِنْ مُقَدِّمَاتِ ذَلِكَ أَنْ جَعَلَ اللَّهُ إِرْضَاعَهُ مِنْ أُمِّهِ مُدَّةً تَعَوَّدَ فِيهَا بِثَدْيِهَا). (التحرير والتنوير 20/ 83)

واغتنمت أخت مُوسَى الفرصة لمَّا خرجوا به إلى السوق وتجمعات النَّاس ليعرضوه على المراضع، فقالت: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) [القصص: 12] قال السَّعْدِي رَحِمَهُ الله: (ومن لطف الله بمُوسَى وأمه، أن منعه من قبول ثدي امرأة، فأخرجوه إلى السُّوق رحمة به، ولعل أحدًا يطلبه، فجاءت أخته، وهو بتلك الحال (فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ).
وهذا جُلُّ غرضهم، فإنهم أحبوه حبًا شديدًا، وقد منعه الله من المراضع فخافوا أن يموت، فلمَّا قالت لهم أخته تلك المقالة، المشتملة عَلَى الترغيب، فِي أهل هذا البيت، بتمام حفظه وكفالته والنُّصح له، بادروا إلى إجابتها، فأعلمتهم ودلتهم عَلَى أهل هذا البيت). (تفسير السعدي 613)

وقد تتساءلين: كيف صدقوها بهذه السرعة ولم يتثبتوا؟
قد وردت رواية صحيحة عن ابن عباس تبين ذلك، قال ابن عباس  : فلما قَالَتْ ذَلِكَ، أَخَذُوهَا وَشَكُّوا فِي أَمْرِهَا، وَقَالُوا لها: وما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه؟ فقالت لهم: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم فِي سرور الْمَلِكِ وَرَجَاءُ مَنْفَعَتِهِ، فَأَرْسَلُوهَا. (تفسير ابن كثير 6/ 201)

وهذا من تدبير الله وحفظه لموسى، ألهما الجواب، وقذف في قلوبهم تصديقها.
ثم إنَّ هؤلاء الذين خرجوا به إلى السُّوق بحثًا عن مرضعة يقبل ثديها قد بلغ بهم اليأس مبلغه من أن يجدوا من تستطيع أن ترضعه من كثرة ما رفض الطِّفل أثداء المرضعات. وفِي هذه الحالة عندما يقال لهم هنا مرضعة ناصحة لن يدقِّقوا كثيرًا، ولن يبحثوا عن تفاصيل هذه المرضعة وإنما سيذهبون لها مباشرة لعلَّ وعسى أن يقبل ثديها.

وهذه الحاشية خرجت فِي مهمَّة، ويصعب عليها أن ترجع إلى القصر وقد فشلت فِي مهمَّتها، وهم يعرفون بطش فرعون، فلابدَّ أن يجدوا له مرضعة أيًّا كانت هذه المرضعة المهم أن يسكت هذا الطِّفل، وينالوا رضى فرعون وعطائه من المال ونحوه.
وكل هذا من تدبير الله لموسى.
فعاد مُوسَى إلى أمه، معززًا، مكرمًا، وذهب الخوف من قلب أمِّه بعودته إليها سالمًا، قال تعالى: (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ) [طه: 40]، وقال سبحانه: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [القصص: 13] قال ابن جَرِيرٍ الطَّبَرِي رَحِمَهُ الله: (يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَرَدَدْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ بَعْدَ مَا صِرْتَ فِي أَيْدِي آلِ فِرْعَوْنَ، كَيْمَا تَقَرَّ عَيْنُهَا بِسَلَامَتِكَ وَنَجَاتِكَ مِنَ الْقَتْلِ وَالْغَرِقِ فِي الْيَمِّ، وَكِيلَا تَحْزَنَ عَلَيْكَ مِنَ الْخَوْفِ مِنْ فِرْعَوْنَ عَلَيْكَ أَنْ يَقْتُلَكَ). (جامع البيان 16/ 62)

وقال أَبُو زُهرَة رَحِمَهُ الله: (والمظهر الثالث لمنته الأخرى هو عودته إلى أمه ليتربى فِي حضانتها رحمة به وبها؛ لأن أمه ما طابت نفسها بفراقه إلا لنجاته، ولأنها تريده لنفسها، كما تريد كل أم رؤوم مُحبة، فرتب الله تعالى لها أن يعود إليها محفوظا مصونا فحرم الله تعالى عليه المراضع، وقد احتار من فِي بيت فرعون فِي أمره، وقد صار ملء قلوبهم جميعهم، ولكن الله تعَالى أرسل إليهم (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ) أي من يقوم بحضانته ورضاعه لكم فتغذيه بلبن الرضاعة، ومن يحمل هم تربيته وخدمته، وبهذه الرعاية الربانية عاد إلى أمه كي تقر عينها برؤيته، ويذهب اضطراب نفسها عَلَى غيبته عنها، ويذهب اضطرابها وخوفها عليه). (زهرة التفاسير 9/ 4725)

لقد انتهت معاناة أمِّ مُوسَى وذهب عنها الخوف والحزن الذي انتابها بفقد وليدها، ولم يطل الفراق بينهما رحمة من الله بها، قال القشيري رحمه الله: (البلاء على حسب قوَّة صاحبه وضعفه، فكلَّما كان المرء أقوى كان بلاؤه أوفى، وكلَّما كان أضعف كان بلاؤه أخف. وكانت أمّ مُوسَى ضعيفة، فردّ إليها ولدها بعد أيام، وكان يعقوب أقوى فِي حاله، فلم يعد إليه يوسف إلا بعد سنين طويلة). (لطائف الإشارات2/456)

فطبيعة الأم تختلف عن طبيعة الأب فِي التعلق بالطِّفل الرضيع، فالأم أشدُّ تعلقًا بطفلها وخاصة فِي صغره، ولذا جاء التوجيه النَّبوي للمرأة بألا تجزع إذا فقدت وليدها، وتحتسب الأجر عند الله، وبشَّرها النَّبي  بالجنَّة إن هي صبرت واحتسبت، فقال  (مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلاثَةً، إِلاَّ كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ)، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أوِ اثْنَيْنِ، قَالَ: فَأَعَادَتْهَا مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: (وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ). (رواه البخاري)
وهناك حكمة أخرى ذكرها الله لنا، فِي بيان منَّته على أمِّ موسى، نذكرها فِي الحلقة القادمة إن شاء الله.
10 رمضان 1446هـ

إقرأ أيضا:تعليقاً على اعتذار الشيخ عثمان الخميس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى