(عبدالله بن صالح القصير – موقع “ياله من دين”)
يقعُ كثيرٌ من الناس اليوم – دون علمِ غالبهم، وبتأويلٍ من بعضهم، وتعمُّد من البعض الآخَر – في معاملاتٍ ربويَّة، هي في الحقيقة تطبيقاتٌ لصور ربا الجاهليَّة التي مرَّت بك، أو فُروع منها، أو تلتقي معها بوجهٍ من أوجُه الشَّبه، المهمُّ أنَّها من الربا المحرَّم المشؤوم عاجلاً وآجلاً، فمن ذلك:
الأولى: الإقراض النقدي بفائدة:
وصِفتها أنْ يُقرِض شخصٌ غنيٌّ أو مؤسسة ماليَّة شخصًا آخَر أو جهة استثمارية شيئًا من المال لمدَّة معيَّنة، كشهر أو سنة أو ما بين ذلك، على أنْ يردَّ المُستَقرِض عند حُلول الأجَل – إضافةً إلى أصل القرض – زيادةً يُسمُّونها: (فائدة)، تُقدَّر بنسبةٍ مئويَّة محدَّدة مقابل القرض بنسبة مئويَّة محدَّدة، مقابل بقاء القرض في ذمَّة المستقرض مدَّة الأجل.
وهذا يُسمَّى عند بعض الفُقَهاء (ربا القرض)؛ لأنَّ المقرض يستردُّ أفضل ممَّا أقرض، وقد سبق أنَّ القرض مع شرط الزيادة، أو جريان ذلك عرفًا (كما هو واقع القرض في البنوك الربويَّة)، هو أحد صور ربا الجاهلية الذي جاءت النصوص القاطعة الصريحة من الكتاب والسنَّة بتحريمه.
بل هو يجمع كلَّ صور ربا الجاهلية التي سبَقت الإشارة إليها:
فهو ربا قرض؛ لأنَّ الفائدة يتَّفق عليها ابتداءً عند القرض.
وربا نسيئة؛ لأنَّ الفائدة تُؤخَذ عليه مقابل تأجيل المال في ذمَّة المستقرض (خصوصًا إذا تأخَّر التسديد عن الأجل المحدَّد).
وربا فضل؛ لأنَّ المقرض يأخُذ جنس ما أقرض وزيادة، وقد جاء في صحيح مسلم عن عثمان رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تَبِيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين”[أخرجه مسلم برقم (1585) ].
وفي جوابٍ لسماحة مفتي الدِّيار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله عن استفتاء نصه:
إنَّ بعضَ الناس يقترضون مبالغ من البنوك بفائض – فائدة زعموا – قدره: 9 %؟.
قال: “نفيدك أنَّ هذا عين الربا المحرَّم، ولا يجوز باتِّفاق علماء المسلمين، وما يعمله بعض الناس ليس بحجَّةٍ على جوازه ولو كثروا”. ا.هـ.
قلت: فالمقرض في هذه الصورة آكِلٌ للربا، والمقترض موكله، وكلاهما ملعونٌ على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، متعرِّض لما توعَّد الله به الذين يأكُلون الربا كما جاء في القرآن.
تأجيل الدَّين الحالِّ إلى أجَل آخَر نظير زيادة:
وهذا يقَع فيه بعضُ الناس والمؤسسات، حين يكون لهم على آخَر دين، فإذا حلَّ تسديده، قالوا للذي عليه الدَّين: إمَّا أن تسدِّد، أو يبقى عندك بزيادة (فائدة) قدرها كذا وكذا.
وهذا في حُكم الجاري عُرفًا عند مؤسسات الربا، لكن قد يتَّفق الطرفان ويَتفاوَضان على مقدار النسبة في المائة.
وذلك حقيقة ربا الجاهلية المضاعف؛ حيث يقول الدائن من أهل الجاهليَّة للمَدِين عند حُلول الأجل: إمَّا أنْ تقضي، وإمَّا أن تربي! وهو الذي نزَل بشأنه قولُه تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران:١٣٠-١٣١]، وقد سبق تفصيلُ ذلك في صفة ربا الجاهلية.
ومنه ما يفعله بعض العامة – الذين مرَدُوا على الربا – حيث يقول الدائن منهم لمدينه، إذا كان له عليه عشرة آلاف ريال قد حلَّ أجل تسديدها ولم يستطع وفاءها: أنا أعطيك هذه العشرة بأحد عشر إلى سنةٍ من أجْل تسديد دَيْنِك الحالِّ.
بعض المُدايَنات:
وهي التي يتَّفِق فيها الدائن والمَدِين على الدرهم أولاً، فيحدِّدان المبالغ، فيقول الدائن – مثلاً -: أبيعك أو أعطيك العشر أحد عشر أو أكثر، ثم بعد الاتِّفاق على البيع والمبلغ يذهب الدائن إلى محلٍّ تجاري ويشتري منه بضاعة معيَّنة شِراءً صُوريًّا، ليس له به غرض سوى التوصُّل إلى بيع الدراهم بأكثر منها؛ ولذا تجدُه لا يُساوِم، ولا يقلب السلعة، ولا يُفتِّش عن العُيوب، ولا يحوزها خارج المحلِّ.
ثم بعد هذا الشِّراء الصُّوري يبيعها على المُستَدِين على ما اتَّفقا عليه، ثم يعودُ المستَدِين فيبيعها على صاحب المحلِّ، ويخرج بدراهم.
فحقيقة هذا البيع ربا؛ لأنَّ المتعاقدَيْن لا يُرِيدان البيع، وإنما احتالا على بيع الدراهم بالدراهم، فالدائن أرادَ الربح، والمَدِين أراد الدراهم، وأدخلا هذا العقد الصوري بينهما احتِيالاً ومخادعةً، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الدينار بالدينارين، وعن بيع السِّلع قبل أن تنقل ويحوزها التجار إلى رحالهم[أخرجه أبو داود برقم (3499)، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه]؛ أي: محالهم.
فلا بُدَّ عندما يشتَرِي إنسانٌ بضاعةً من محل أنْ يستَلِمها وينقلها من مكانها إلى محله، ولو من جهة من السوق إلى جهةٍ أخرى؛ ففي صحيح مسلم عن ابن عمرَ رضي الله عنهما قال: “كُنَّا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نَبتاع الطعام، فيبعث علينا مَن يَأمُرنا بانتقاله من المكان الذي ابتَعناه فيه إلى مكانٍ سواه، قبل أنْ نبيعه”[أخرجه مسلم برقم (1527)].
وفيه أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من اشترى طعامًا فلا يبيعه حتى يستوفيه ويقبضه”[أخرجه مسلم برقم (1526)].
فاجتمع في هذه الصورة جملةٌ من المنكرات، هي:
1- بيع الدائن لما لم يملك.
2- بيع المدين السِّلعةَ قبل قبضِها وحِيازتها حيازةً شرعيَّة.
3- بيعها على مَن اشْتُرِيَتْ منه، وهذا إنْ كان عن اتِّفاقٍ وتَواطُؤ مسبق فهي: (مسألة العينة)، مع الاحتِيال على بيع الدراهم بأكثر منها.
ومن جديد ما عند أهل هذه المداينة الخاسرة أنَّهم بدؤوا يُدايِنون دراهم بدراهم صراحةً ومجاهرةً إلى أجلٍ مع الفائدة المشروطة، فيقول أحدهم مثلاً للآخَر: أبيعُك عشرة آلاف دولار بثلاثة عشر ألفًا أو أقل أو أكثر مدَّة سنة.
وهذا ربا صريحٌ؛ لأنَّه بيعٌ للمال بمثلِه وزيادة، فيجتمع فيه نوعا الربا: ربا الفضل، وربا النسيئة، نعوذُ بالله من الخِذلان وأسباب الخسران.