مقالاتمقالات مختارة

معالم الطريق الصحيح في ظل الصراع والفتنة

معالم الطريق الصحيح في ظل الصراع والفتنة

بقلم عزة مختار

حالة من اليأس تلبست الكثيرين ممن يعملون على الساحة العربية والإسلامية تحت راية الدعوة إلى الإسلام، والداعين إلى تغيير واقع الأمة وهوانها تزامنا مع الهجمة الأمنية الشرسة عالمياً وإقليمياً تجاه كل من يعملون تحت تلك الراية، وصار لسان حال البعض تجاه دعوته كقول بني إسرائيل لنبيهم: {قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفنكم في الأرض فينظر كيف تعملون} [الأعراف:129].

وخلط البعض بين مفاهيم الفتنة والمحنة، والابتلاء والعقاب، وتضاربت ردود الأفعال بين الأفراد والجماعات فمنهم من رضي ومنهم من نكص على عقبيه، منهم من فقه الواقع المر وعمل جاهدا على تغييره مستخدما كافة الأدوات المتاحة رغم بساطتها وضيق ذات اليد، وشح الموارد، وقلة السالكين في الدرب، ومنهم من اتهم الآخرين بالنكوص والتقصير والخطأ في اختيار الاتجاه، وحين وقع التناحر الداخلي بين شركاء الطريق الواحد والدعوة الواحدة والفكرة الواحدة والهدف الواحد، بدلا من أن يوجهوا سهام غضبتهم تجاه عدوهم المشترك، تفرقت الكلمة، وانقسمت الصفوف، وضعف الصف المسلم بينما في المقابل قويت شكيمة العدو واشتد بأسه، وأحكم قبضته على رقاب المتصدرين للمشهد الإسلامي وعملية التغيير المنشودة، فأين الخلل؟ وكيف السبيل؟ وما هي معالم الطريق الصحيح؟

حين وقع التناحر الداخلي بين شركاء الطريق الواحد والدعوة الواحدة والفكرة الواحدة والهدف الواحد، بدلا من أن يوجهوا سهام غضبتهم تجاه عدوهم المشترك، تفرقت الكلمة، وانقسمت الصفوف، وضعف الصف المسلم بينما في المقابل قويت شكيمة العدو واشتد بأسه، وأحكم قبضته على رقاب المتصدرين للمشهد الإسلامي وعملية التغيير المنشودة

مفهوم المحنة والفتنة في ضوء القرآن والسنة

قد يخطئ البعض ممن يلتبس عليهم معاني الابتلاء بين مفهوم المحنة ومفهوم الفتنة، وقد وجدنا ذلك واقعا حين تجنب البعض الاقتراب مما تعانيه الحركة الإسلامية اليوم من عنت وتضييق وملاحقة بحجة أنها “فتنة ” يجب تجنبها، أو يجب السكوت عنها واعتزالها، محتجين بذلك بموقف بعض الصحابة الذين اجتنبوا الفتنة التي وقعت بين سيدنا علي بن أبي طالب وسيدنا معاوية، والتي وقع ضحيتها الآلاف من الصحابة وحفظة كتاب الله، ومع أن المحن والفتن لها شروطها وهي واضحة كالشمس لمن يدرك طبيعة الصراع بين الحق والباطل والمستمر ليوم القيامة، إلا أن ضعاف النفوس والطامعين فيما عند السلاطين قد يروجون للمفاهيم بشكل خاطئ رهباً وطمعاً، ومفهوم المحنة يحدده القرآن في كثير من الآيات فيقول تبارك وتعالى {ألم، أحسب الناس أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} [العنكبوت:1-3].

فهكذا اقتضت سنة الله في دعوات الأنبياء لاختبار ثبات القلوب وصدقها، أن تختبر بالصعاب ومشاق الطريق، وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: “حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات” (رواه مسلم).

إن الصراع القائم بين الحق والباطل هو مناط اختبار أصحاب الرسالة كما كان شأن الأنبياء صلوات الله وتسليمه عليهم، وهو من طبيعة الطريق إلى الله، شرط أن يكون هناك بذل وعمل وجهد وثبات وتضحية ورضا.

إن الصراع القائم بين الحق والباطل هو مناط اختبار أصحاب الرسالة كما كان شأن الأنبياء صلوات الله وتسليمه عليهم، وهو من طبيعة الطريق إلى الله، شرط أن يكون هناك بذل وعمل وجهد وثبات وتضحية ورضا

و إن المحن هي علامات الطريق الصحيح إلى الله، وفيها يجب على المسلم أن ينحاز للحق أو يكون المقابل السقوط في هاوية الإعراض عن الله .

أما الفتن فهي التي يقع فيها المؤمنون فيما بينهم البعض، أو بينهم وبين أنفسهم، وهنا يكون على المسلم التدخل بين الفئتين الواقعتين في الفتنة بالإصلاح ولو بمحاربة التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، أو يتدخل بإنقاذ أخ له في الله فتنت نفسه فأعرض ونسي. وقد يتخذ البعض موقف “الحياد” بينهما حتى تنتهي الإشكالية ولا يورط نفسه في دماء أحد من المسلمين وقد فعله بعض الصحابة من قبل.

والمحن مر بها كافة الأنبياء وخاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام، فقد كانت محنة نوح عليه السلام إعراض قومه وسخريتهم منه، ومحنة إبراهيم عليه السلام في النار، ومحنة موسي في بني إسرائيل، ومحنة عيسى في محاولة قتله التي أفشلها الله عز وجل برفعه إليه، ومحنة نبينا عليه الصلاة والسلام مع قومه حتى وفاته صلى الله عليه وسلم، وما يحدث للمسلمين اليوم ليس فتنة يجب اجتنابها، وإنما محنة الطريق لا يجوز معها إلا الانحياز للحق والثبات على ما ثبت عليه أهل الحق، ومعاداة كل من يعادي شريعة رب العالمين.

ما يحدث للمسلمين اليوم ليس فتنة يجب اجتنابها، وإنما محنة الطريق لا يجوز معها إلا الانحياز للحق والثبات على ما ثبت عليه أهل الحق، ومعاداة كل من يعادي شريعة رب العالمين

المعركة ربانية وليست جهداً بشرياً خالصاً

إن العمل عند الله ليس كأي عمل فالمعركة ربانية منذ البداية، وأنت وهبت نفسك للعمل ليس لحاجة الله إليك، وإنما رفعاً من شأن ذاتك، لأن قيمتك من قيمة من تعمل لديه ، والله عز وجل غني عن البشر جميعا، إنما نعمل رغبة في رضاه، ورغبة فيما عنده، وخشية من عذابه، فلا الدين ينتصر بجهدنا، ولا العدو يدحر بقوتنا، كل ما علينا هو البذل، والاستعداد للتضحية بالنفس، والحركة قدر الاستطاعة، وتلمس الطريق الصحيح، بعد هذا لسنا معنيين بالنتائج، ولسنا معنيين بتحديد موعد النصر والتمكين، ولسنا مسئولين عن الغلبة على العدو رغم حب النفس لذلك، وقد أوكل الله عز وجل لنفسه بالنتائج، وما علينا إلا أن نخلص العمل والحركة.

يقول الله تبارك وتعالى {ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين} [الأنفال:30] أليس كان من الأجدى حين يقول الحق تبارك وتعالى عن الكافرين “يمكرون”، أن يقول ويمكر المؤمنون؟ لم يقل الله ذلك ويضع المؤمنين في مواجهة الكافرين بقوتهم المحدودة، وإنما ولأن المؤمن قد فوض الأمر إلى الله، وجعله له وكيلاً، فقد أخذ الله على نفسه أن يمكر هو بقوته ونفسه وملكوته وقدرته وكلمة كن، فيمكر الكافر بقوته، ويمكر الله بقوته وشتان بين القوتين، فأنت تعمل لدى الله، والله يتولى عنك، وليس ذلكم إلا للعاملين لديه، ويقول سبحانه {وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} [إبراهيم:46]، ويقول سبحانه {إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا} [الطارق:15-17] وهو إنذار شديد اللهجة وتهديد خطير لكل من يعادي تلك الفئة المؤمنة القائمة على دين الله بالدعوة والتبليغ، وهو طمأنة لقلوب المؤمنين الثابتين على دينه بأن الله معهم، وناصرهم، وهازم عدوهم.

والمؤمن إذ يحاربه العالم كله فهو يحاربه على الفكرة التي يحملها، فليست الحرب لذاته، وعليه أن يتمسك بما يحمله لأن قيمته في رسالته وليست في شخصيته، بدليل أنه إذا تنازل عن الفكرة وارتد عنها، زال العداء، وانتهت الحرب، بل وأصبح لديهم مدللا. لذلك فقد تكفل الله بحمايته، والدفاع عنه، وتمكينه إذا حان وقت التمكين وانتهى الاختبار واستحق الناس أن يسعدوا بعدالة الإسلام.

المؤمن إذ يحاربه العالم كله فهو يحاربه على الفكرة التي يحملها، فليست الحرب لذاته، وعليه أن يتمسك بما يحمله لأن قيمته في رسالته وليست في شخصيته، بدليل أنه إذا تنازل عن الفكرة وارتد عنها، زال العداء، وانتهت الحرب، بل وأصبح لديهم مدللاً

وعلى المؤمن أن يوقن أنه في خير مهما كانت النتائج، يقول الله تبارك وتعالى: {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون} [التوبة:52] فهي الشهادة والقربى في جنات النعيم، أو النصر والتمكين، ويقول تبارك وتعالى: {إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون} [النساء:104] فالصراع والحرب والجهد والعنت والمطاردة لا يعانيها المؤمن وحده، وإنما يدفع الكافر نفس الثمن الذي يدفعه غير أن المؤمن هو الفائز، فهو يرجو بحركته الآخرة برضا الله، والدنيا بالنصر.

محاور النصر والتمكين

في سورة الأنفال التي تتحدث عن غزوة بدر، غزوة الفرقان التي فرقت بين الحق والباطل في أول نزال عملي بينهما، وتجسدت فيها مظاهر القدرة الإلهية في نصر الفئة المؤمنة القليلة، والتي ما كان لها أن تنتصر بقياسات العقل البشري، وضع الله فيها شروط النصر والتمكين للفئة المؤمنة مهما كانت إمكاناتها المادية وجعلها الله عز وجل على محورين:

المحور الأول: وهو المحور الإيماني التعبدي والاعتقاد بأن {وما النصر إلا من عند الله} [الأنفال:10]. وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2-4].

المحور الثاني: وهو المحور المادي والأخذ بكافة الأسباب الممكنة للوصول للنصر، كقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال:60] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال:72].

الإيمان والعمل جناحا السير على طريق الله، فكما نتعبد إلى الله عز وجل بتوحيد الربوبية والألوهية، كذلك نتعبد إليه بالأخذ بكافة الأسباب المتاحة، ونتعبد إليه ببذل الجهد في سبيل رفعة دينه موقنين في ذلك أن النصر من عنده وحده وقتما يريد وبالكيفية التي يريد ، وموقنين كذلك بأن ما عند الله خير وأبقى {وترجون من الله ما لا يرجون}.

إن الأحداث اليوم تستلزم على الجميع إعادة النظر في موقفه من الحركة الإسلامية التي صمدت وثبتت طويلاً في مهب ريح الطغاة وحيدة تنافح عن الدين والهوية واللغة وحقوق البسطاء، وقد آن الأوان أن نعيد قراءة المشهد في ضوء الإيمان الراسخ بقدرة الله تعالى وأن رياح التغيير قد آن لها أن تهب على بلاد الإسلام لترتفع رايتها من جديد.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى