مقالاتمقالات المنتدى

مظاهرات الجامعات الأمريكية؛ مأزق فكري وأزمة واقع

مظاهرات الجامعات الأمريكية؛ مأزق فكري وأزمة واقع

 

بقلم أ.  رانية نصر (خاص بالمنتدى)

 

لعقود طويلة؛ ظلت الأنظمة الغربية تتباهي أمام شعوبها بأنها دول حريّات وديمقراطيات، وبأنها دول حضارية تؤمن بالرأي والرأي الآخر بلا حدود، وتسمح بالتعبير وبالنقد حتى لو طال أعلى سلطة في البلاد! لعهود طويلة ظلت تنادي تلك الأنظمة بحرية الفكر والمُعتقد والتعبير والممارسات وتدافع عن حقوق الإنسان وكرامته وتنبذ العنصرية على أساس الدين واللون والعرق عبر من يمثلها من منظمات مجتمعية وحقوقية وقانونية، إلى أن استيقظت تلك المجتمعات والشعوب بعد حرب غزة 2023 لتواجه الحقيقة المُرّة، استيقظت على كابوس وخدعة الحريات الكبرى، فأين حرية التعبير التي تربّت عليها تلك الأجيال في ظل قمع المظاهرات الطلابية في الجامعات الأمريكية اليوم؟!!
مأزق فكري وواقع مأزوم
إن كل ما قام به الشباب في الجامعات الأمريكية هو ممارسة حرية التعبير عن رأيهم في تعاطفهم مع شعب غزة وعن رفضهم للظلم منادياً بوقف جرائم الحرب والإبادة المستمرة منذ أكثر من نصف عام، خرجت المظاهرات الطلابية من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان، من أجل القيم التي نشأ عليها هذا الجيل، إنه يعيش اليوم صدمةً حقيقية، وواقع مأزوم مُتهم بالتناقضات والانفصام والكذب والخداع!!
 الجيل الذي تربى على الحرية المطلقة في كل شيء، حرية الفكر والممارسات، حرية الرأي والتعبير، حرية المرأة، حرية اختيار الجنس وتغييره، حرية ممارسة الأطفال للجنس، حرية بلا قيد في كل شيء، كيف سيواجه الواقع المأزوم المشحون بالتناقضات وازدواجية المعايير؟!!
هذا الجيل الذي تربى على أفكار فلاسفة الغرب التنويريين ومفكريهم المنافحين عن كرامة الإنسان وحريته، مثل مونتسكيو وجون لوك وتوماس هوبز وجان جاك روسو، هذا الجيل الذي تربى على مقولة فولتير الشهيرة: “قد أختلف معك بالرأي ولكني مستعد أن أدفع حياتي ثمناً لحقك في التعبير عن رأيك”!!
 لقد سقطت تلك الأنظمة سقوطاً مُدوياً في اختبار الديمقراطية والتي كانت تتشدق وتتعالى بها على الأمم الأخرى، اتضح أنها لا تؤمن إلا بمصالحها وأن لا قيمة حقيقية لشعارات القيم والأخلاق والمبادئ إلا ما وافق مصالحها. لن تقف التحركات الطلابية اليوم عند حد المطالبة بحرية التعبير وحسب؛ بل ستنتقل لمرحلة أعقد؛ وهي الدفاع عن حقهم في التعبير عن الرأي، بل والمطالبة بمحاسبة الحكومة التي أطلقت يد الشرطة لتعتقلهم بكل همجية ووحشية، اكتشف هذا الجيل أنه عاجز عن الدفاع عن حرية فكره هو نفسه فضلاً عن عجزه عن حماية حرية الآخرين!!
حرّية تعبير أم سياسة “تنفيس”؟!!
يدّعي رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جو بايدن الذي يدعم الكيان الصهيوني منذ بداية 7 من أكتوبر وحتى اليوم معنوياً ومادياً، حيث استخدم حق الفيتو لمرات عديدة للتصويت ضد قرار وقف إطلاق النار وقتل المدنيين في غزة، والذي أرسل ملايين الأطنان من المتفجرات والآليات الثقيلة والأسلحة لقتل أطفال غزة؛ يدّعي أنه يدعم حرية التعبير والنقاش وعدم التمييز في حرم الجامعات كما جاء في بيان المتحدثة باسم البيت الأبيض؛ كارين جان بيار، والحقيقة أنه يريد بذلك امتصاص غضب واحتقان الشباب في الجامعات الأمريكية ليس إلا، لتهدئة الوضع والالتفاف على الحراك الطلابي الذي أصبح يشكل توتراً عالياً وفوضى عارمة حيث أحرجت هذه التحركات الحكومة الأمريكية أمام جمهورها والمجتمع الدولي، مما دفعها لاستخدام سياسة ما يسمى “بالتنفيس” تفادياً للتصعيد المتوقع إذ ما قوبل بقمع وصد أكبر!
 حرية التعبير وخطاب الكراهية
غالباً ما يتم التأطير الإعلامي للقصص الخبرية عبر الإعلام المؤدلج من خلال التركيز على معنى معين ومحدد وتكراره باستمرار، فعندما يتحدثون عن الإيمان بحرية التعبير يتم إقرانه مباشرة بمفهوم آخر والتركيز عليه مثل “خطاب الكراهية”، فيتم توجيه رسائل مُبطنة للجمهور بأننا دولة ديمقراطية تؤمن بحرية التعبير وفي نفس الوقت ننبذ خطاب الكراهية والتعبئة ضد فئة بعينها، لكن المشكلة أن هذا التأطير يتم توظيفه تبعاً لمصالح السياسة الخارجية للحكومة وبما يخدم تحالفاتها مع الدول الأخرى، فخطاب الكراهية لا يتم استعارته إلا عندما يتعلق الأمر بالإسلام والمسلمين.
“فزّاعة” معاداة السامية
 فزاعة الطّيور هي تمثال على شكل إنسان مصنوع من القش والثوب، يُنصب في المزارع لتخويف الطيور والحيوانات من الاقتراب من الحقول، وكذلك فزاعة “معاداة السامية” يتم استخدامها مع كل من يتجرأ على نقد جرائم الصهاينة واليهود بشكل عام، وأول من استعمل مصطلح “اللاسامية” أو “ضد السامية” Anti-Semitism الألماني ولهلم مار لوصف موجة العداء لليهود في أوروبا الوسطى في أواسط القرن التاسع عشر على اعتبارها تعد شكلاً من أشكال العنصرية، وأصبح يستخدم المصطلح كمفهوم لكراهية اليهود بشكل عام على أساس دينهم وعرقهم.
واليوم أكثر ما يتم تداوله واستخدامه في تبرير قمع المظاهرات الطلابية في الجامعات الأمريكية هو التحذير من خطاب الكراهية وتخويف الناس بفزّاعة “معاداة السامية” لصرف انتباههم عن جريمة قمع حرية التّعبير في أكثر دول العالم “ديمقراطية وحرية” وفي أكثر الدول مناداة بحرية الرأي والتعبير!
 سقوط في اختبار الأخلاق والقيم
 إن التحركات الطلابية في الجامعات الأمريكية هو بداية انفراط العقد، لقد سقطت تلك الأنظمة في اختبار الحريات والديمقراطيات والأخلاق والمبادئ على يد “طوفان الأقصى” وأثبتت أنها منافقة ومزدوجة المعايير، وإن أول من سيقوم بمحاسبة هذه الأنظمة والدول هم الأحرار من شبابها وشعبها.
 محنة تثمر منحة
إن ما يحدث اليوم في المجتمع الأمريكي لا بد من استثماره بشكل صحيح في خدمة قضايانا العادلة، يجب ألا نضيّع فرصة استثمار تلك الأصوات الحُرّة في هذه الفترة الحساسة من تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، فهذا الحدث النوعي لن يتكرر، ولذلك لا بد من استثماره في المناشط الدعوية لإبراز قيم الإسلام الحقيقة ومبادئه الصحيحة والتي تم تشويهها -بشكل ممنهج- في العقلية الغربية، لا بد من استثماره في خدمة قضايا الأمة الإسلامية وعلى رأسها فلسطين والأقصى وغزة، وهذا يقع بالضرورة على عاتق الجاليات الإسلامية في الدول الغربية فضلاً عن الجهود الرقمية لكل مستطيع.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى