مقالات

مصطلح الاجتهاد ونطاقه

 

مصطلح الاجتهاد ونطاقه

مقالات شرعية – أ. د. عبدالحليم عويس

إذا كان للاجتهاد في اللغة معناه الذي يروج على ألسنة الناس، فإن معناه في الاصطلاح الأصولي لم يكن مقطوعًا عن المعنى اللُّغوي، بل سيكون أكثر تحديدًا وأكثر ارتباطًا بالمجال العِلمي الذي يدور فيه.

  •  ويُقصَد بالاجتهاد في اللغة: بَذلُ الوُسْع والطاقة في طلب الشيء؛ ليبلغ المجهود ويَصل إلى النهاية، وفي حديث معاذ المشهور تَرِد عبارة: “أجتهد برأيي”؛ أي أبذل وسعي في طلب الحق، وفي الاصطلاح يرى الأصوليُّون أن الاجتهاد هو استِفراغ الفقيه الجهدَ والوسع لتحصيل ظنٍّ بحكم أو علم به؛ كما يرى الإمام الغزالي، وطريق الوصول إلى تحصيل الحكم الشرعي يكون عن طريق بذل الجهد في إرجاع الواقعة إلى شبيهٍ بها عن طريق “القياس” عليها، أو اللجوء إلى “مقصد” مِن المقاصد الشرعية تَندرِج الواقعة تحته، أو عِلَّة مُشتركة مع حكْم آخَر.
  • ويُستعمَل في مجال “الاجتهاد” غير “القياس” مصطلحُ “الرأي”، ويَقصِد به الأصوليُّون “الأثر”، والأثر هو: النصُّ مِن الكتاب أو السنَّة، والرأي هو الاجتهاد بالعقل على ضوء النَّصِّ، وهو لا يختلف كثيرًا عن الاجتهاد، وهو أهمُّ مِن القياس، والرأي منه ما هو باطل؛ كالرأي بالهوى وبدون عِلم كافٍ، ومنه ما هو مشتبه فيه، ومنه ما هو صحيح، ويتَّصل بمصطلح الاجتهاد أيضًا مصطلحُ “الفتوى”، ويُقصد به التنبيه والإعلام بما يُشكل مِن الأحكام الشرعية، والفتوى لا تكون إلا حصادًا للقُدرَة على الاجتهاد وعلى استنباط الأحكام بالرأي أو القياس، فهي نتيجة لا يَستحِقُّها إلا مَن توافرت له شروطُ الأهلية للاجتهاد.

والحق أن هذه المصطلحات أقرب ما تكون إلى الترادُف، وقد استعملها علماء وفقهاء كثيرون ثقات على أنها مُترادفة، والفروق بينها فروق دقيقة، اللهم إلا “الفتوى”؛ فهي مصطلح مستقل، وله مدلوله الخاص.

وإذا كان القرآن والسنَّة الصحيحة هما مصدر الاجتهاد، وهما مرجعيَّة كل مسلم مهما اختلفت ثقافته ودرجة وعيِه، فإن الاجتهاد – بالتالي – يدور في تلك المنطقة التي لا تكون قطعية الثبوت قطعية الدلالة، وقد عمد الأصوليُّون إلى محاولة حصر أسباب الاختلاف بين الفقهاء، ووصلوا إلى أن أهم هذه الأسباب هي:

1- الاجتهاد في معرفة المراد مِن النص إذا لم يَكن قَطعيَّ الدَّلالة.

2- الاجتهاد في دفع التعارُض بين النصوص التي يوهم ظاهِرُها التعارض.

3- الاجتهاد في الأدلة ظنيةِ الثبوت.

4- الاجتهاد في أقوال الصحابة.

5- اختلافهم فيها إذا نُقل عن الصحابي رأيٌ بخلاف ما رواه.

6- اختلافهم في العمل بالحديث الذي كذَّب الأصلُ الفرعَ فيه.

7- اختلافهم في قول الصحابي: هل هو حُجَّة مُطلقًا أو لا؟.

8- اختلافهم في الأصول الأخرى؛ كالقياس، والاستحسان، واستصحاب الأصل، والمصالح المُرسَلة، وغيرها.

9- الاجتهاد في إلحاق مَسكوت عنه بمنصوص على حُكمِه.

10- تطبيق القواعد الكلية على جزئيات الوقائع.

11- النظر في أعراف البلاد.

12- اختلافهم في القراءات الشاذة.

13- اختلافهم في خبر الواحد هو حجَّة أم لا؟

14- اختلافهم في الحديث المُرسَل.

ونستطيع أن نقول: إن تعدُّد الأماكن، واتِّساع الدولة الإسلامية، والتعامل مع أنماط مختلفة من المدنيَّة، ومحاولة التكيُّف أحيانًا مع الواقع، والوصول إلى الحل الأيسر؛ اعتمادًا على أنه – عليه السلام – ما خُيِّر بين أمرَين إلا واختار أيسرَهما، كلُّ هذه البواعث كانت إضافات فرضَت على العقل المسلم أن يَجتهِد في كل الظروف.

وفي العصر الحديث ضغطَت مُشكلات كبرى، فكان لا بد مِن تحريك العقل المسلم تحريكًا يتواءم مع حجْم التحديات، وكانت المجالات الاقتصادية، والطبية، والاجتماعية مِن أهم مجالات التحدِّي، ففازت بكثير مِن الاجتهادات، وظهَرت في دنيا الواقع مؤسَّسات اقتصادية ومالية إسلامية تُشرِف عليها هيئات رقابية شرعية، كما ظهَرت دراسات تتحدَّث عن الاتجاه الجَماعي في التشريع الاقتصادي الإسلامي[1]، وظهَرت دراسات أخرى تُقاوم النظريات الاشتراكية في المجالات الاجتماعية، ولا نستطيع أن نُنكر – بعامَّة – وجود نهضة اجتهادية فِقهيَّة في العصر الحديث.

ويُعدُّ الاجتهاد الجماعي المُعاصر استئنافًا لعصور الازدهار التشريعي الإسلامي؛ فقد روى مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب، عن علي بن أبي طالب قال: قلت: يا رسول الله، الأمر يَنزل بنا لم يَنزل فيه القرآن، ولم تُمعن فيه سنة؟ قال: ((اجمعوا له العالِمين))، أو قال: ((العابدين من المؤمنين، فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد)).

وهكذا كانت طريقة الخلفاء الراشدين؛ فقد وجدت لهم مجالس شورى عامة، بالإضافة إلى مجالس الشورى الخاصة، فكانوا يَجمعون في المسجد النبويِّ رؤساءَ الناس مِن ذوي الرأي، فيَستشيرونهم في الأمور الخطيرة؛ كما فعل عمر في جمع الصحابة للبحْث في قِسمة موارد العراق وغيره من الأراضي المفتوحة عَنوة، وانتهي رأيهم بالاتفاق على إبقاء الأرض بِيَدِ أهلِها، وعدم قسمتها بين الفاتحين، ويبرز هذا المنهاج في أعمال عمر المتكرِّرة، فكان إذا نزلت نازلة ليس فيها نصٌّ عن الله ولا عن رسوله، جمع لها أصحابَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم جعلها شورى بينهم، ومما كتبه لشُريح: “فإن أتاك ما ليس في كتاب الله، ولا بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاقض بما أجمع عليه الناس”، وطريق التشاور العِلمي والاستنباط مِن الأدلَّة يَعتمد على أمرين: أصول الفقه، والقواعد الفِقهيَّة الكلية، والقواعدُ مبنيَّة على فهم “مقاصد الشريعة، والمقاصدُ مبنيَّة على اعتبار المصالح، والمصالح مُعتبَرة مِن حيث وضع الشرع، لا بأهواء الناس”، وهذه الشورى العلمية على النحو الجماعي أخذ بها المالكيَّة في تعديل الأحكام الفقهية عندما يَتبدَّل عرف الناس وتتغير مصالحهم، وهي أيضًا ما يَجدر أن نأخذ به في العصر الحديث.

الاجتهاد.. والدين الخاتم:

عندما يقول الله في القرآن الكريم: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38]، ويقول: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، فإنَّ ذلك يَعني مِن وجهة نظرنا أن الله أودَع في القرآن كل الأصول والكليات والمعالم التي تكفي للسير في طريق الحياة إلى يوم القيامة – ما دام الإسلام هو الدين الخاتم – شريطة أن يُعمل المسلمون عقولَهم؛ بحيث تتفاعل هذه العقول مع الكليات والتوجيهات التي جاء بها القرآن الكريم صالحة إلى يوم القيامة، وهذا يعني أن الاجتهاد في كل عصر فرْض، وأن تاركه أو الداعي لإغلاقه جاهلٌ أخلد إلى الأرض.

  •  إن الاجتهاد في الفقه بابٌ فتحه الله، والباب الذي فتحه الله لا يَملك أحد إغلاقه، والفقه – بدون اجتهاد – هو حكم على شريعة الله بأنها غير صالحة لكل زمان ومكان، وهو تضييق على الناس يؤدِّي إلى تفلُّتهم مِن دين الله.

﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78] في عبارته التي تُعطي الاجتهاد الفقهي حقَّه الدائم في الاستمرار إلى يوم القيامة، “إن شريعة الله كاملة مُطابِقة للعقل والحق والعدل، فإذا ظهرت أمارات الحق وقامت أدلتُه، وأسفَر صُبْحُه بأيِّ طريق كان، فثم شرعُ الله ودينه، والله -تعالى- لم يَحصر طرُق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد، ولكن بيَّن أن مقصوده إقامة الحق والعدل بأيِّ طريق كان”.

إن لقضية “الاجتهاد” جذورًا تاريخيَّة مرتبطة بدور الفقه في الحضارة، فعِلم الفقه مِن وجهة نظر تاريخية هو الطابقان الاجتماعي والاقتصادي في بناء الحضارة الإسلامية، وبالتالي فإن وصول هذا العلم إلى تقديم إطار ملائم مُتناغِم مع الجوانب الحياتية يُشكِّل بعدًا مِن أبعاد قضية الحضارة الإسلامية، والمقياسُ في عطاء هذا العلم يَنحصِر في الجوانب المُلحَّة التالية:

أ- مدى ارتباط هذا العلم بالأرضية اليقينيَّة الإسلامية التي لا جدال في أنها خلاصة الكليات التي يَمتاز بها الإسلام.

ب- مدى قيادة هذا العلم – ولا أقول: مدى تعبيره – للدورة الحضارية التي تمرُّ بها الأمة.

ج- مدى إسهام هذا العلم في تحقيق الشخصية الحضارية المتميزة، وفي تقديمها للإنسانية كحضارة ذات هُوية، وذات فعالية.

والذين يَتتبَّعون الأسباب الحقيقية لبعض الاتجاهات الفقهية التي انتظمَت أعلامًا أفذاذًا من أقطاب تاريخنا، سوف يَكتشفون العوامل الحقيقية الحضارية التي جعلت هؤلاء الأفذاذَ المُجتهدين يَقفون في جانب، والفقهاء المذهبيِّين التقليديِّين يَقفون في جانب آخَر، ومِن هذه الأسباب:

  •  أن الفقه المذهبيَّ قد تخطَّى دوره في البناء الاجتماعي والاقتصادي المُعاش المَنظور، ليُصبح عقيدةً وهيكلاً أيديولوجيًّا يطغى على الأصول الاعتقادية والفكرية، لقد تحوَّل الرأي إلى عقيدة، وتقدَّمت النافلةُ الفرضَ، والفرعُ الأصلَ.
  • أن الفقه ممثلاً في بعض الفقهاء خلال بعض العصور، قد خان دوره، وأصبح – بجموده أحيانًا، وبعدم ارتباطه بالجذور أحيانًا – لعبةً سياسية تُقادُ ولا تَقود، وتُحكَم ولا تَحكُم.
  • أن الفقهاء في بعض العصور فرضوا آراءهم الفرعيَّة بصورة ليست مِن طبيعة الإسلام، فانقلبوا مِن حارس للبناء الاجتماعي والاقتصادي إلى تابع للأوضاع المُختلفة التي يُحرِّكها البناء السياسي، يُعطونها التبرير الجدَلي، ويَلوون أعناق النصوص مِن أجلها ومِن أجل تسويغها.

ومقام الاجتهاد – اليوم – لم يعدْ مقام هذه الفتاوى الجزئية التي يَستطيع أن يتصدى لها آلاف الفقهاء، إن التحدي أكبرُ مِن ذلك، فأبنية المسلمين الاقتصادية والاجتماعية في ظلِّ عالَمنا المركب تحتاج إلى “مجامع فقهية”، وإلى صور متكاملة من الاجتهاد الجماعي الذي يستطيع أعضاؤه صياغةَ حياتنا صياغةً إسلامية معاصرة، ومنْحَ حياتنا البديلَ الإسلامي الكامل في شتى الجوانب الفقهية؛ اقتصاديةً كانت أو اجتماعية، وبما أن عصرنا “عصر مؤسسات”؛ فمِن الضروري أن تنشأ مؤسَّسات فقهيَّة قادرة على مواجهة العصر؛ حتى لا تَغزونا الأفكارُ التشريعيَّة والنظُم الاقتصادية والاجتماعية المدمِّرة، و”الاجتهادُ” هو سلاحنا الأكبر في معركة التحدي، ومن هنا استحق أن نُولِيَه الاهتمامَ الذي يَستحِقُّه.

التعزير مِن أبواب الفقه المتطوِّرة دائمًا:

يُقصَد بالتعزيز تلك العقوبة التقديريَّة التي يفرضها القاضي أو الحاكم؛ بحيث تَكفُل الردْع، عندما لا يقع الخطأ تحت حدٍّ مِن الحدود المنصوص على عقوبتها…

  •  ويرى الفقهاء أنَّ التعزير مِن أهمِّ أبواب فقه “العقوبات” المتَّصلة بالتطور؛ فهو – أكثر من الحرابة – عقوبة مفتوحة متطوِّرة يَستطيع القاضي أو الحاكم الاتكاء عليها لمُقاومة كل الموبقات الأخلاقية والاجتماعية، بَيْدَ أن هذه العقوبات لا يجوز أن تصل إلى الحدِّ – إلا في حالات الضرورة القُصوى – لكن الشيخ “نجيب المطيعي” له رأي آخَر، إنه يقول:

“لقد تردَّد أخيرًا أن التعزير الذي للسلطان أن يُقدِّره وأن يقضي فيه قد يَبلغ حد القتل، ولا أدري مِن أين أتوا بهذه المُجازفات التي لا تتَّفق مع كتاب ولا سنَّة، فإن التعزير لا يَبلغ الحد بحال مِن الأحوال، فلا يَصحُّ في الجلد أن يَصل إلى الثمانين؛ لأن الثمانين حدٌّ حدَّه الله -تعالى- في القذف، وفي الحديث: ((مَن بلغ بما ليس بحدٍّ حدًّا، فهو من المعتدين))؛ رواه البيهقي، عن النعمان بن بشير – رضي الله عنه.

فلا يَصح في التعازير أن يبلغ العقاب مبلغَ حدٍّ مِن حدود الله -تعالى- والذين يزعمون أن للسلطان أن يُعزِّر حتى الموت إنما يعطون السلطان سلطة مُطلَقة لم يُعطِها الله لنبيِّه -صلى الله عليه وسلم- لقوله تعالى: ﴿ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ﴾ [النساء: 105]، بل المنصوص عليه أن السلطان إذا عزَّر إنسانًا فمات، كان عليه الضمان، ولحديث أبي بردة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يَجلد أحد فوق عشر جلدات في غير حدٍّ مِن حدود الله – تعالى)).

فلذا إن عزَّر الإمام رجلاً فمات، وجَب ضمانه؛ لما روى عمرو بن سعيد عن علي – رضي الله عنه – أنه قال: “ما مِن رجل أقمتُ عليه حدًّا فمات، فأجد في نفسي أنه لا ديَة له إلا شارب الخمر، فإنه لو مات ودَيتُهُ؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يسنَّه”.

فالقول بأن للسلطان أن يُعزِّره حتى الموت جهلٌ ومُجازَفة، وقولٌ على الله بغير علم، نعم قالوا: إذا مات أثناء التعزير وكان الآلة مِن شأنها ألا تَقتل ولا تَكسر، ولم يَبلغ ضربه حدًّا حدَّه الله ورسوله، لا ضمان، وهذا صحيح؛ لأنه حينئذٍ يكون موته لا مِن التعزير؛ وإنما يكون موته حتف أنفه بقضاء الله – سبحانه وتعالى – وقدرِه”.

————————————————————-

[1] انظر كنموذج رسالة للدكتور محمد فاروق النبهان، بهذا العنوان، نشر مؤسسة الرسالة بيروت 1404هـ

المصدر: موقع شبكة “الألوكة نت”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى