مصطفى صبري شيخ الإسلام الذي رد على فلاسفة أوروبا
بقلم سلطان عب الرحمن الخليفي
يعيش الإنسان محاطا بسياج المصالح والمفاسد التي تحكم قراراته في كل لحظة من لحظات حياته، ويُطلب من الإنسان أن يتخذ كل إنسان في مجاله قرارات مصيرية في لحظات مفصلية من التاريخ، وقليل من يستطيع أن يقدم المصلحة العليا على المصالح الشخصية. كذلك العالم المسلم عليه أن يقوم بزكاة علمه ببيان الحق وفق ما يصل إليه اجتهاده، وقد تواجهه تيارات أكبر منه تستميله لمصالحها الخاصة، وبذلك يفقد فائدة العلم الذي امتلكه، وهي بيان الحكم الشرعي في المسألة لجماهير المسلمين. وإذا لم يبين العالم الحكم الشرعي للجماهير المسلمة، يفقد المجتمع المسلم بوصلته ويستطيع قليلو العلم والفهم أن يوجهوا المجتمع لما يريدونه، وتنشأ مفاسد عديدة من تسلط الجهلة على رقاب الناس، ويعم الخلل جميع مفاصل الدولة.
لا يضير العالم عدم قبول الناس دعوته إذ إن العوامل كثيرة في انفضاض الناس عن العلماء، ومنها غلبة الهوى ووسائل الإعلام المضادة لتشويش رسالة العالم ودعوته. ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والعولمة وتداول الأفكار بسرعة غير مألوفة في الأجيال السابقة، انتشر الفكر المادي، الذي ينقض أصول الدين، ما يحتم على العلماء أن يهبوا لبيان بطلان هذا الفكر، وتوضيح نظرة الإسلام للدنيا والآخرة والمصدر الذي يعتمد عليه المسلم في أحكامه وقراراته.
تاريخنا الإسلامي مليء بشواهد العلماء، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وبلغوا رسالة العلم، وورثوا مقام الدعوة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم كل الابتلاءات التي مروا بها في سبيل قول الحق. من هؤلاء العلماء الأجلاء والذين غاب ذكرهم في وسائل الإعلام هو شيخ الإسلام مصطفى صبري رحمه الله، الذي كان آخر عالم تولى منصب مشيخة الإسلام في الخلافة العثمانية.
نشأ الشيخ مصطفى صبري في بيئة محبة للعلم، ووجهه والداه لطلب العلوم الشرعية أولا في مدينته توقاد، ثم انتقل إلى الحواضر العلمية في تركيا، وفاق الكثير من أقرانه، إلى أن تولى منصب مشيخة الإسلام في الدولة العثمانية قبل سقوطها. لم يقف الشيخ ساكنا أمام تغول حزب الاتحاد والترقي على السلطان عبد الحميد الثاني، فأسس مع ثلة من الساسة حزب الحرية والائتلاف، وكان من أهدافه توسيع قاعدة الحكم لتشمل القوميات غير التركية، إذ إن سياسات حزب الاتحاد والترقي، التي تعزز العصبية التركية، قادت القوميات الأخرى إلى المطالبة بالاستقلال والتحرر مدفوعة بدعم الدول الغربية. أدى موقف الشيخ وحزبه إلى تعطيل البرلمان عام 1913 وملاحقة الشيخ من الاتحاديين، فهاجر إلى مصر ثم البوسنة، وقبض عليه في رومانيا عندما احتلها الألمان، وسلم إلى الاتحاديين، ونفي إلى قرية نائية في الأناضول حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، وهروب الاتحاديين بعد هزيمة الدولة العثمانية. لم تطل فترة الشيخ مصطفى صبري في مشيخة الإسلام، حيث انحاز مصطفى كمال أتاتورك بالجيش إلى منطقة الأناضول لإخماد الثورات هناك؛ لكنه عاد فحارب القوات المحتلة لتركيا، ووقع معاهدة لوزان معلنا استقلال تركيا وإلغاء الخلافة العثمانية.
هاجر الشيخ مصطفى صبري من تركيا هاربا بدينه من سطوة الكماليين، الذين حظروا المظاهر الدينية في تركيا وأرسوا نهجا علمانيا متطرفا. عانى الشيخ مصطفى صبري في هجرته من الفاقة وقلة الناصر، إذ تنقل بين مصر ولبنان واليونان إلى أن استقر في مصر عام 1932، وأسقطت عنه الحكومة التركية الجنسية في عام 1924، وطالبت باعتقاله وإجلائه عندما كان في اليونان، ومما يثير الحزن والأسى أن الشيخ طاف على سفارات الدول الإسلامية طالبا اللجوء، فلم يسعفه إلا السفير المصري بتأشيرة لدخول مصر.
كانت حياة الشيخ العلمية في مصر ثرية إذ انبرى للدفاع عن أصول الدين، التي هوجمت من بعض النخبة وكان منهم بعض علماء الأزهر.
إن أهم كتاب للشيخ مصطفى صبري رحمه الله هو كتاب “موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين” في 4 أجزاء، ويناقش فيه كل الشبهات، التي كانت ترد في عصره على الإسلام مثل وجود الله سبحانه وتعالى والإيمان بالغيب والملائكة ومعجزات الرسل عليهم الصلاة والسلام، وكذلك رد فيه على الذين ينتصرون للمنهج العلمي الحديث، وبين أنه لا يصلح للجواب على السؤال عن إثبات وجود الله جل جلاله. كما رد الشيخ مصطفى صبري على رواد الفلسفة الأوروبيين مثل إيمانويل كانت وديفيد هيوم وغيرهم في كتابه، وناقش حججهم وبين فسادها، ومن ينظر اليوم في الشبهات التي توجه للمسلمين يجد تشابها كبيرا مع الشبهات التي رد عليها الشيخ مصطفى صبري؛ إذ إن المناهج الحديثة سواء كانت ليبرالية أو غيرها تنطلق من تحييد إيمان المرء بربه وأسلوب الحياة المنبثق عنه وتفصله عن مجريات الحياة اليومية. إن الشبهات التي توجه للأحكام الفقهية لا يجدي النقاش معها إذا لم يكن هناك اتفاق حول المبادئ الرئيسة، وهي الإيمان بالله وبرسله وبكتبه، وهو ما يجيب عليه كتاب الشيخ مصطفى صبري جوابا رصينا لمن صدق في بحثه عن الحق.
لا يفي الحديث بمقام الشيخ مصطفى صبري رحمه الله، وهي دعوة لإعطاء هذا العالم الكبير حقه من الاحتفاء والبحث والدراسة. لقد ضرب الشيخ مصطفى صبري رحمه الله مثالا على العالم الملتحم بواقع أمته والمدافع عن دينها وقيمها، مهما جرت عليه صروف الدهر من محن وإشكالات، ولم يتزحزح عن هذا النهج حتى وفاته عام 1954. يعد كتاب الشيخ مثالا على أهمية علم الكلام وقدرته على الرد على إشكالات هذا العصر. يضر الشحن العاطفي القضايا الدينية إذا لم يكن هناك أساس منطقي رصين لهذا التجييش، ويمكن أن يكون كتاب الشيخ مصطفى صبري منطلقا لتقويم التعامل مع القضايا الدينية تجاه الآخر وبنائها على أسس متينة.
(المصدر: مدونات الجزيرة)