مصر ‘‘القبطيَّة’’ بين الفتح الإسلامي ومجيء الرَّبّ المرتقَب 8 من 8
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
نزاعات طائفيَّة وسياسيَّة تعجّل بنهاية الهيمنة البيزنطيَّة على مصر
شهدت السَّنوات الأخيرة للوجود البيزنطي في مصر، بل وفي الشَّام كذلك، اضطرابات وانقسامات داخليَّة لأسباب سياسيَّة وماديَّة بحتة، فضلًا عن النّزاع الطَّائفي، أفضت إلى محو الهيمنة البيزنطيَّة بالكامل، بعد شيوع حالة من الفوضى جعلت البلاد “فريسة سهلة لقوى الشَّر من الدَّاخل ومن الخارج على حد سواء”، وفق تعبير المؤرّخ المسيحي المعاصر (صـ95). فبينما كان حاكما الدّلتا والصَّعيد في مصر منشغلين بالتَّآمر على بعضهما للانفراد بالسُّلطة، كانت جيوش الإمبراطوريَّة الفارسيَّة تزحف إلى سوريا وفلسطين، الخاضعتين لسُلطان الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة والقريبتين من مصر. ولم تكن الاضطرابات والصّراعات في مصر وحدها، بل امتدَّت إلى الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة ذاتها، بأن تآمر هرقل، قائد القوَّات البيزنطيَّة شمال إفريقيا، لإزاحة الإمبراطور فوقاس (602-610م) من الحُكم، وقد نجح في ذلك فعليًّا، والمفارقة أن تزامَن ذلك مع بعثة خاتم أنبياء الله تعالى ورُسُله، مُحمَّد بن عبد الله الهاشمي (ﷺ) في شبه الجزيرة العربيَّة، ودعوته إلى عبادة الله تعالى ربّ العالمين، وما هي إلَّا سنوات قليلة حتَّى سُير جيش الفتح الإسلامي لإنهاء الوجود البيزنطي في مصر ودعوة الأقباط إلى عبادة الله الواحد، لا أحد ثلاثة أقانيم ولا المتجسّد في صورة ابن اختُلف حول طبيعة ألوهيَّته.
استغلُّ الفُرس حالة الضَّعف الَّتي أصابت الدَّولة البيزنطيَّة في غزو الشَّام، فدخلوا دمشق عام 613م، واحتلُّوا القُدس في العام التَّالي، ووصل الأمر إلى استيلائهم على صليب الصَّلبوت، وهو الصَّليب الَّذي يُعتقد أنَّ يسوع النَّاصري عُلّق عليه عند صلْبه. فكَّر هرقل في الهروب إلى شمال إفريقيا ليتفادى الهزيمة أمام جيش الفُرس، لكنَّ البطريرك سرجيوس الأوَّل (610-638م) أقنعه بالعدول عن ذلك ومواجهة الفُرس، واضعًا تحت إمرته كنوز الكنيسة لتجهيز جيشه. وقد نجح هرقل بالفعل في إيقاف الزَّحف الفارسي إلى الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، وأخرج الفُرس من مصر بعد 10 سنوات من الاستعمار ليعيد الهيمنة البيزنطيَّة إليها عام 627م، ومن بعدها تقدَّم هرقل إلى بلاد فارس ذاتها وألحق الهزيمة بجيشها واستعاد الصَّليب المقدَّس المسلوب من القُدس. ويصدق في انتصار الرُّوم على الفُرس في تلك الجولة من المعارك قول الله تعالى ﴿الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾ [سورة الرُّوم: 1-4[. أعاد هرقل السّياسة التَّعسُّفيَّة البيزنطيَّة المعهودة في التَّعامل مع المصريين، على حدّ وصْف المؤرّخ المسيحي، الَّذي يستخدم تعبيرًا تلطيفيًّا في الإشارة إلى السّياسات البيزنطيَّة في إخضاع المصريين بالعُنف والتَّعذيب والملاحقة، في الفترة الَّتي شهدت ذروة الاضطهاد البيزنطي قبيل الفتح الإسلامي.
وتزامنًا مع تأسيس الدَّولة الإسلاميَّة الأولى في المدينة المنوَّرة، بعد هجرة النَّبي (ﷺ) في عام 622م، أعلن هرقل عن حل توفيقي لإنهاء الخلاف بين المنافزة والملكانيين بشأن قرارات مجمع خلقيدونية، أُطلق عليه “مذهب الإرادة الواحدة”، قام على أساس وَحدة إرادة يسوع اللاهوتيَّة والنَّاسوتيَّة، بغضّ النَّظر على الطَّبيعتين؛ أي أنَّ المذهب التَّوفيقي لم يحسم خلاف خلقيدونية، إنَّما أراد به إنهاء الخصومة بين الفرقتين المتناحرتين في مصر. غير أنَّ جهود هرقل والبطريرك سرجيوس الأوَّل، معاونه في إعداد المذهب التَّوفيقي، ذهبت سدى بعد أن أدرك الأقباط الحيلة، وفطنوا إلى أنَّها وسيلة لامتصاص غضب المنافزة، مثل “قرار الاتّحاد” الَّذي أعلن عنه الإمبراطور البيزنطي زينون (474-491م) عام 482م للتَّأكيد على اتّفاق كافَّة الكنائس على قرارات المجامع المسكونيَّة الثَّلاثة الأولى، نيقية والقسطنطينية وأفسس، بشأن اتّفاق الآب والابن في الجوهر، واحتفاظ المسيح بالنَّاسوت البشري، ولكن دون إلغاء قرارات مجمع خلقيدونية أو إدانة وصْم الكنيسة القبطيَّة بالانفصال والانشقاق. وأمام تعنُّت الكنيسة القبطيَّة في قبول “مذهب الإرادة الواحدة”، كما رفضت “قرار الاتّحاد” من قبل، لم يجد هرقل وسيلة لإخضاع المصريين وإجبارهم على المذهب التَّوفيقي الَّذي أعلن عنه إلَّا استخدام القوَّة، لمواجهة “النَّزعة الانفصاليَّة المصريَّة”؛ حيث ما كان ليغامر بفقدان مصر الَّتي كانت “كصومعة للغلال بالنّسبة لإمبراطوريَّته” (صـ97):
وجاءت أولى خطوات في هذا السَّبيل عام 630م، عندما وَقع اختياره على أحد رجال الدّين من مؤيدي مذهب الإرادة الواحدة، والَّذي كان أسقفًا لمدينة فارس في بلاد القوقاز قُرب البحر الأسود واسمه سيروس (الَّذي يرد في المصادر العربيَّة باسم المقوقس) …وكان سيروس هذا أداة طيّعة في يد سيّده هرقل، ولذا تمَّ تعيينه بطريركًا ملكانيًّا للإسكندريَّة، وأيضًا حاكمًا عامًّا لأرض مصر كلّها، شريطة أن يعمل على إجبار أهل مصر على مصر على قبول مذهب الإرادة الواحدة. وكان سيروس قد وصل إلى الإسكندريَّة سنة 631م، وبدأ في تنفيذ خطَّته دون هوادة. ولقد استبدّ سيروس بالأقباط لمدَّة عشر سنوات، حتَّى أنَّه كان يستخدم قضيبًا من الحديد على شكل الصَّليب في جلْد خصومه.
فقد هرقل شعبيَّته في مصر، بعد أن كان في عيون الأقباط، بطلًا مسيحيًّا نجح في استعادة صليب الصَّلبوت، وأتت محاولته لإبعاد شبح انفصال مصر عن الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة بنتائج عكسيَّة، بأن ازداد الحقد الشَّعبي على الوجود البيزنطي في البلاد. اضطرَّ البطريرك بنيامين الأوَّل، البابا الـ 38 للكنيسة القبطيَّة، إلى الهروب أديرة الصَّحارى، “حتَّى قدم القائد العربي عورة بن العاص وأنقذه من هلاك أكيد” (صـ98). وكان سيروس، أو المقوقس، قد قبض على شقيق البطريرك بنيامين الأوَّل، وأذاقه صنوف العذاب، ولفَّق له تهمًا باطلة، ثمَّ أمر بقتله إغراقًا في البحر. ويعترف المؤرّخ المعاصر بأنَّ قدوم الفتح الإسلامي إلى مصر مطلع عام 640م كان بمثابة طوق النَّجاة من حلمة الاضطهاد العنيف الَّتي شنَّها الرُّومان على الأقباط بسبب الاختلاف المذهبي النَّاتج عن خلاف عقائدي لم يُحسم إلى اليوم. ولا يشير المؤرّخ إلى رفْض هرقل دعوة دخول الإسلام الَّتي أرسلها إليه النَّبيُّ (ﷺ):
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَسْلِمْ تَسْلَمْ. يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ”. ثم كتب فول الله ربّ العالمين ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [سورة آل عمران: 64].
قدوم الفتح الإسلامي إلى مصر وبداية مرحلة جديدة في تاريخها
يصف عزيز سوريال عطيَّة الفتح الإسلامي لمصر بأنَّه “نقطة تحوُّل هامَّة في مجريات الأمور، في تاريخ هذه البقعة الحيويَّة من عوالم العصور القديمة والوسيطة…مثلما كان مجيء القدّيس مرقس إليها من قبل” (صـ101). لم يكن من غير المتوقَّع أن يتَّجه جيش الدَّولة الإسلاميَّة إلى مصر، بعد فتْح الشَّام وبداية محاولات فتْح بلاد فارس في ثلاثينات القرن السَّابع الميلادي، وكان النَّبيُّ (ﷺ) قد أرسل إلى المقوقس رسالة يدعوه فيها إلى الإسلام، على أغلب الظَّن عام 628م، وكان ردُّ المقوقس هو:
بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد بن عبد الله، من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد: فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيًّا بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشَّام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت لك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة وهديت إليك بغلة لتركبها، والسَّلام عليك.
تهرَّب المقوقس من دعوته إلى السَّلام، واعتقد أنَّ الهديَّة العينيَّة ستفاديه الصّدام مع جيش الدَّولة الإسلاميَّة النَّاشئة لكي يحافظ على الهيمنة الرُّومانيَّة على مصر. وبالطَّبع، فطن النَّبيُّ الكريم إلى نواياه، فقال “ضَنَّ الخبيث بمُلْكِه، ولا بقاء لِمُلْكِه”، في إشارة ضمنيَّة منه (ﷺ) إلى أنَّ اتّباع المقوقس أسلوب المجاملة لن يثني جيش الفتح الإسلامي عن إزاحته عن الحُكم مستقبلًا. ويتحدَّث المؤرّخ المسيحي المعاصر عن الفتح الإسلامي بنبرة منصفة، نافيًا عن القائد المسلم، عمرو بن العاص، تهمة حرْق مكتبة الإسكندريَّة، بأوامر من أمير المؤمنين، عُمر بن الخطَّاب، وموضحًا أنَّ ذلك من افتراءات الرَّحالة الفارسي، عبد اللطيف البغدادي، والأسقف السُّورياني، اليعقوبي بن العبري؛ حيث أنَّ المصادر التَّاريخيَّة تشير إلى أنَّ الإحراق كان على يد القائد الرُّوماني، يوليوس قيصر، عام 48 قبل الميلاد. وبرغم التزام الأقباط بالحياد خلال المعارك الَّتي دارت بين جيش الفتح الإسلامي وقوَّات الرُّومان، فقد وجَد الجنود المسلمون دعمًا من الأقباط؛ سواءً بسبب كراهيتهم للوجود البيزنطي نتيجة الاضطهاد الدّيني والتَّعذيب واستنزاف ثروات البلاد، أو بسبب الاختلاف المذهبي الَّذي ذاقوا من جرَّائه أشدَّ ألوان العذاب والقهر. ويصف عطيَّة موقف العرب، الَّذين “أتوا لتحرير القبط من الأغلال البيزنطيَّة”، بعبارات تعكس صورة إيجابيَّة عن الفتح الإسلامي، وتنفي عنه صفة الغزو أو الاستعمار، معترفًا باحترام المسلمين لحريَّة الأقباط الدّينيَّة، على النَّقيض من موقف الرُّومان (صـ104-105):
لقد اتَّضح هذا الموقف العربي الكريم بعد أن استقرَّ الحُكم العربي في مصر، فلقد خرَج البطريرك الشَّريد بنيامين من مخبأه في الصَّحاري لمدَّة عشر سنوات، واستقبله القائد عمرو بن العاص باحترام شديد، ثمَّ أعاده إلى منصبه في الإسكندريَّة، معزَّزًا مكرَّمًا ليرعى شؤون كنيسته. وأصدر البطريرك بنيامين قرارًا بالعفو عن ذلك النَّفر من الأقباط الَّذين كانوا قد أجبروه على اعتناق مذهب “الإرادة الواحدة”، كما أعاد إعمار الكثير من الكنائس والأديرة. وقد شهد عصر بنيامين ومن تلاه من بطاركة في ظلّ الفتح العربي نهضة لم يسبق لها مثيل من شعور ديني قومي، وانتعاش في الفنون والآداب، في مناخ حرّ تمامًا، لا تنقصه المؤثّرات والضُّغوط البيزنطيَّة. كذلك عهِد العرب إلى الأقباط بالمناصب الحكوميَّة الَّتي كان يحتلُّها البيزنطيون. والحقُّ أنَّ العرب قد أبدوا تسامحًا كريمًا مع جميع الطَّوائف المسيحيَّة، على اختلاف انتماءاتها…
المصدر: رسالة بوست