مصر ‘‘القبطيَّة’’ بين الفتح الإسلامي ومجيء الرَّبّ المرتقَب 3من 8
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
انطلاق الحملة الإسلاميَّة لفتح مصر
شنَّ القائد العسكري المحنَّك والصَّحابي الجليل، عمرو بن العاص السَّهمي، حملة عسكريَّة قوامها 4 آلاف جندي، وقد وصلت تلك الدُّفعة الأولى من المحاربين إلى منطقة العريش، الواقعة شرقي مصر في شهر الله المحرَّم من عام 19 هـ، الموافق لشهر يناير 640م. واصل جيش الفتح الإسلامي زحفه على مدار 6 أشهر، حتَّى وصل مدد عسكري من المدينة المنوَّرة من 12 ألف جندي، بقيادة الصَّحابة الكبار الزُّبير بن العوَّام، وعبادة بن الصَّامت الخزرجي، والمقداد بن الأسود، وكان رابعهم مسلمة بن مخلَّد وقيل خارجة بن حذافة العدوي. طالت فترة الزَّحف، واضطرَّ جيش الفتح إلى محاصرة حصن بابليون، جنوبي القاهرة، الَّذي اتَّخذه جنود الرُّومان، بزعامة المقوقس، حصنًا. وينقل عبد الهادي ما تدوّنه كتُب التَّاريخ عن رأي جنود الرُّومان في جيش الفتح (صـ33):
رأينا قومًا الموت أحبُّ إلى أحدهم من الحياة، والتَّواضع أحبُّ إليهم من الرّفعة، ليس لأحدهم في الدُّنيا رغبة ولا نهمة، وإنَّما جلوسهم على التُّراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يُعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السَّيد من العبد، وإذا حضرت الصَّلاة لم يتخلف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويخشعون في صلاتهم…وعندئذ قال المقوقس: والَّذي يحلف به لو أنّ هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها، وما يقوى على قتال هؤلاء أحد، ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النّيل، لم يجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض، وقووا على الخروج من موضعهم.
اضطرَّ المقوقس إلى أن الجلوس مع وفد من قادة جيش الفتح، بعد أن أرسل هو نفسه في طلب التَّفاوض، لكنَّه استهان بعبادة الصَّامت، قائد وفد التَّفاوض، لسواد لونه. وما كان من باقي الحاضرين من قادة الجيش الإسلامي إلَّا أن نهروا المقوقس، معترفين بقدر الصَّحابي الجليل عبادة بن الصَّامت، ليطرح الأخير ثلاثة عروض: إمَّا دخول الإسلام، أو دفْع الجزية ليأمن الرُّومان على أنفسهم من القتل، أو استمرار القتال. استهان المقوقس بجيش المسلمين في تفاوضه، زاعمًا أنَّ جيش الرُّومان من الممكن أن يبديه بالكامل، وعارضًا أن يحصل جيش المسلمين على دينارين عن كلّ قبطي، إلى جانب 100 دينار لأمير الجيش، و1000 أخرى لأمير المؤمنين، في مقابل رحيل الجيش. بالطَّبع، رفَض عبادة بن الصَّامت عرْض المقوقس، بعد رفْض الأخير عروض المسلمين الثَّلاثة؛ وحينها تقرَّر استمرار القتال. وبرغم قلَّة عدد أفراد جيش الفتح الإسلامي، فقد نجح الفاتحون في إلحاق الهزائم المتكرّرة بجيش الرُّومان الهائل؛ ليضطر المقوقس إلى قبول ثاني عروض جيش الفتح، أي دفْع الجزية في مقابل إنهاء الحرب والحفاظ على أرواح الرُّومان، شديدي الحرص على الحياة. رفَع المقوقس شروط الصُّلح مع جيش الفتح إلى هرقل، إمبراطور الرُّوم، ليرفضها الأخير آمرًا المقوقس بالاستمرار في القتال. غير أنَّ المقوقس تجاهَل أمْر هرقل الرُّوم، وأبرم اتّفاق الصُّلح مع عمرو بن العاص، في وجود الزُّبير بن العوَّام وابنيه محمَّد وعبد الله. وجاء في نصّ اتّفاق الصُّلح، كما يرد في كتاب تاريخ الرُّسل والملوك للطَّبري (جزء 4، صـ108-109):
هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملَّتهم وأموالهم وكنائسهم وصُلبهم وبرِّهم وبحرهم، لا يزيد شيء في ذلك ولا ينقص ولا يُساكنهم النُّوب وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصُلح وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف وعليه ممن جنى نُصرتهم، فإن أبى أحد منهم أن يُجيب رفع عنهم من الجزى بقدرهم وذمتنا ممن أبى برية وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رُفع عنهم بقدر ذلك ومن دخل في صُلحهم من الروم والنًّوب فله ما لهم وعليه ما عليهم ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه ويخرج من سُلطاننا وعليهم ما عليهم أثلاثًا في كُلِّ ثُلثٍ جباية ثُلُث ما عليهم على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته وذمة رسوله (ﷺ) وذمَّة الخليفة أميرُ المؤمنين وذمم المُؤمنين وعلى النُّوبة الذين استجابوا أن يُعينوا بكذا وكذا رأسًا وكذا وكذا فرسًا على أن لا يغزوا ولا يُمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة.
تقدَّم جيش الفتح الإسلامي إلى الإسكندريَّة، الَّتي كانت تضمُّ حامية رومانيَّة من 50 ألف جندي يتلقَّون الدَّعم من الأسطول البيزنطي، لكنَّ النَّصر ظلَّ حليف جيش الفتح، الَّذي دخَل الإسكندريَّة في شهر شوَّال من عام 21هـ، الموافق لسبتمبر 642م، بعد أن تعهَّد الرُّومان بالخروج من مصر خروجًا نهائيًّا. غير أنَّ الرُّومان، لما يُعرف عنهم من غدر وخيانة وعدم وفاء بالعهود، قد طلبوا المدد من هرقل الرُّوم، زاعمين قلَّة عدد الجنود المسلمين المرابطين بالإسكندريَّة. انتهز هرقل الفرصة بإرسال 300 سفينة مليئة بالجنود الرُّومان، الَّذين غدروا بجيش المسلمين، ولم ينجُ منهم إلَّا مَن هرب. سارع القائد العسكري الباسل، عمرو بن العاص، بنجدة جيش المسلمين في مصر، ليهزم الرُّومان من جديد، ويطارد فلولهم، حتَّى تحصَّن الفارُّون بالإسكندريَّة. استخدم جيش المسلمين المجانيق لدخول الإسكندريَّة؛ فنجحوا أخيرًا في اقتحام المدينة، الَّتي كانت آخر خصن للرُّومان في مصر. وعندئذ، تحرَّرت مصر بالكامل من الرُّومان بعد 700 عام من الاستعمار واستنزاف الثّروات والقمع الدّيني، وأصبحت جزءً من دولة الإسلام الفتيَّة، بزعامة الخليفة الرَّاشد، عُمر بن الخطَّاب. أمَّا عن موقف الأقباط من أهل مصر من الفتح الإسلامي، فكان التَّرحيب والحفاوة وقبول الدَّعوة إلى الإسلام؛ فدخل الأقباط في دين الله أفواجًا، بفضل سهولة العقيدة ووضوح فكرتها، كما يشير عبد الهادي، مضيفًا أنَّ عددًا كبيرًا من الرُّومان آثر البقاء في مصر في ظلّ عدالة الإسلام، ليدخلوا الإسلام ويتعلَّموا العربيَّة طواعية ودون أن يجبرهم أحدٌ على ذلك (صـ42). خرج الأب بنيامين، بطريرك الأرثوذكس حينها، من مخبئه، عائدًا إلى الإسكندريَّة بعد 13 عامًا من الهروب في الصَّحاري، خوفًا من بطْش الرُّومان، الَّذين أرادوا تغيير ملَّة مسيحيي مصر إلى الكاثوليكيَّة. وينقل عبد الهادي عن الأسقف المتعصّب، يوحنَّا النَّقيوسي، ما أورده عن عمرو بن العاص، حيث قال عنه “لم يضع يده على شيء من أملاك الكنائس ولم يرتكب شيئا من النَّهب والتَّعصُّب بل إنه حفظ الكنائس وحماها إلى آخر مدة حياته” (صـ44).
بداية عهد الرَّخاء بعد قرون القمع والاستغلال
نعم مسيحيو مصر في ظلّ الحُكم الإسلامي بالأمن والوفرة الماديَّة وحريَّة ممارسة شعائرهم الدّينيَّة، وقد بُنيت أوَّل كنيسة في فترة ولاية مسلمة بن مخلَّد، تحت حُكم الدَّولة الأمويَّة. ويُروى أنَّ عبد العزيز بن مروان، نجل الخليفة الأموي مروان بن الحكم، لمَّا تسلَّم ولاية مصر، استعان بفرَّاشين من المسيحيين، الَّذين استأذنوه في بناء كنيسة لهم؛ فأذن لهم، ليبنوا إحدى أقدم كنائس مصر على الإطلاق، وهي كنيسة مار جرجس بحلوان. لم يعد أهل مصر جميعهم يعانون من الضَّرائب الباهظة الَّتي اعتاد المستعمر الرُّوماني على فرضها عنوةً؛ حيث لم يفرض عليهم والي دولة الخلافة الإسلاميَّة سوى ضريبة الخراج، الَّتي فُرضت على الدَّخل الآتي من التّجارة أو الصّناعة أو الزّراعة. أمَّا عن الجزية المفروضة في مقابل توفير الحماية، فكانت تتراوح قيمتها ما بين دينارين و4 دنانير في العام الواحد، ولم تكن تُحصَّل إلَّا من البالغين القادرين على الكسب، واستثني منها الشُّيوخ والنّساء والأطفال. وأكث ما يدلُّ على أنَّ الفتح الإسلامي لمصر لم يكن بدافع من استنزاف مواردها أو استعباد أهلها ما حقَّقه التُّجار الأقباط من مكاسب ماليَّة بفضل ما نعموا به من حريَّة في التّجارة وإمكانيَّة للمنافسة العادلة. اختصُّ المسلمون الوافدون من شبه الجزيرة العربيَّة بالإشراف على شؤون البلاد من خلال القضاء وقيادة الجيش، بينما تُركت كافَّة الوظائف والصّناعات الجالبة للرّبح للمصريين. ويروي عبد الهادي عن تغلغُل الإسلام في شتَّى أرجاء مصر خلال القرون الثَّلاثة الأولى للدَّولة الإسلاميَّة (صـ48):
وما أن انسلخ القرن الثَّالث الهجري (التَّاسع الميلادي) حتَّى دانت الغالبيَّة العظمى من أهل بالإسلام، وبقيت أقليَّة نصرانيَّة، وأضحت اللغة العربيَّة لغة كلّ المصريين في الدَّواوين والتَّخاطب والعبادة والثَّقافة والفكر والعلم، يتكلَّم العربيَّة ويتعامل بها كلُّ المصريين سواءً كانوا مسلمين أو نصارى أو يهود.
ويجتهد الدُّكتور جمال عبد الهادي في تحديد أدلَّته على تنعُّم المصريين بالعدل في ظلّ الحُكم الإسلامي، ساردًا واقعة ضرْب محمَّد بن عمرو بن العاص لأحد الأقباط، أي المصريين، في فترة ولاية أبيه، عمرو، على مصر، حيث استدعى أمير المؤمنين عُمر طرفي النّزاع إلى حضرته، وقضى بأن يقتصَّ القبطي من ابن والي مصر، بعد أن تأكَّد عُمر من صحَّة شكوى القبطي. لم يكتفِ عُمر بذلك، فأمر بأن يمسح القبطي على رأس عمرو بن العاص بالدّرَّة الَّتي ضرب بها ابنه؛ لأنَّ الأخير لم يتجرَّأ على الإساءة إلى القبطي إلَّا استقواءً بسلطان أبيه. يسوق عبد الهادي قصَّة أخرى في السّياق ذاته، وهي إصدار أمير المؤمنين عُمر أمرًا بأن يقتصَّ قبطي من الوالي، عمرو بن العاص، بأن يضربه الأوَّل، بعد أن اتَّهمه بالنّفاق؛ غير أنَّ القبطي آثر العفو. ويلمس الكاتب في ذلك “نقلة كبيرة في حياة الشَّعب المصري الَّذي كان يعاني المهانة…والظُّلم في عهد الاحتلال الرُّوماني، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه أو عرضه، ولا يستطيع أن يقاضي مَن ظلمه، فلمَّا أكرمهم الله بالإسلام، وأعزَّهم بهذا الدّين، أصبحوا لا يطيقون الظُّلم” (صـ56-57).
المصدر: رسالة بوست