مشكلاتٌ في حياة مسلمي ألمانيا
بقلم طه سليمان عامر
الانشطار النفسي.. أولا، أقصد به إن كثيرا من المسلمين المقيمين بألمانيا وبدول أوروبية أخرى يعيشون بجسدهم هنا وجُلُّ تفكيرهم وانشغالهم واهتمامهم في الوطن الأصلي الذي وفدوا منه، الأمر الذي يفقدهم الشعور بالاستقرار ويؤثر على رؤيتهم للحاضر والمستقبل.
1- الحالة النفسية الساخطة على واقع المجتمع الجديد نتيجة الصدمة التي تلقاها كثير ممن وفد إلى أوروبا كرها أو طمعا، فَتَراه يتقلب على جمر الأسى، ويعيش متمردا على واقعه المختلف غير قادر على التأقلم والتكيف، ويبدأ المهاجر الجديد في إجراء مقارنات بين وطنه الأصلي والأرض الجديدة، فتراه مشغولا بالمفقود عن الموجود، قَلِقا وساخطا على وضعيته التي سيق أو انساق إليها. وقد يستغرق فترة طويلة حتى يرضى ويبدأ حياته بالشكل الذي يحقق له التوازن الداخلي.
2- التأخر في حسم القرارات المصيرية، فيسأل نفسه: هل يبقى هنا أم يرحل إلى دولة أخرى؟ ولعل هذا التردد الطويل يعود إلى جملة من الاعتبارات المتعددة منها:
* الخوف من المجتمع وأثره على الأبناء: فلا مراء أن تحديات البيئة الأوروبية في تربية الأبناء كثيرة ومتنوعة، وجَهْل المربي باللغة والواقع وتَغَير الوضعية الاجتماعية لها أثرها الظاهر. وأحب أن أنوه في هذا المقام عن الفرص الكثيرة الآن في وجود محاضن تربوية للطفل الألماني المسلم مقارنة بالعقود الماضية والمقام هنا لا يتسع للتعرف بالمؤسسات والمناشط الدعوية والتربوية والتعليمية التي تستهدف الأجيال الجديدة.
* اعتقاده تحريم أو حتى كراهة الإقامة في بلد غير إسلامي.
* غياب البُعد الرسالي لدى هذا النموذج، الأمر الذي يفقده المحيط المساعد فضلا عن صناعته والأخذ بزمام المبادرة.
* عدم استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية في الوطن الأصلي الأمر الذي يجعله مُعَلقا على أمل العودة بعد حين. وكثير من الأُسر تعلقت آمالهم بثورات الربيع العربي وما ستحدثه من تغيير وتطوير، وبنوا على ذلك قراراتهم في العودة من أوروبا، بيد أن رياح الاستبداد عصفت بآمال الحرية.
3- الاستغراق في متابعة أخبار وأحداث العالم الإسلامي، ومع سهولة الحصول على المعلومة مرئية ومسموعة ومقروءة يجد المرء نفسه معزولا تماما على واقع مجتمعه الجديد والتعرف عليه، وفهمه بتحدياته وفرصه وآلامه وآماله. وقد عرفتُ كثيرا ممن أصابهم القلق والاكتئاب والمرض النفسي جراء غرقهم في هذه الهموم دون أن يقدم شيئا ليخفف عن نفسه ثقل المعاناة والإحساس بالعجز، وكان الأَوْلى أن ينشغل المسلم بما وراءه من عمل وأن يتجنب عمليات الشحن النفسي.
1- الطبيعة الشخصية: هناك أناس ساخطون على كل شيء فلا يطمئنوا على أي جنب كان مضجعهم، ينظرون إلى الفرص المتاحة من طرف خفي ولا يرون إلا العقبات والصعوبات، وهم أصحاب النظارات السوداء، ينشغلون دوما بالمفقود ولا يلتفتون إلى الموجود، يتعلقون بالمستحيل ولا يمسكون بالممكن، والرضا عن الله وقدره مفتاح كل خير وبلسم كل جرح.
2- الظروف التي ينشأ فيها المرء ونوع التربية التي تلقاها تساعد إيجابا وسلبا في انخراطه في مجتمعه الجديد أو عزلته عنه.
3- الإكراه على مفارقة الديار تحت عامل الحرب أو المطاردة الأمنية، كل هذا دون تهيئة نفسية وروحية لترك الوطن والمباعدة بين الإنسان ومراتع الطفولة وملاعب الصبا.
وقد عايشنا الحرب في سوريا وما نجم عنها من مآسي لا نظير لها، فقد هرع ملايين السوريين يجمعون ما تبقى من ذكريات، ولم يفكروا سوى بالنجاة بأنفسهم وفلذات أكبادهم، فصواريخ النظام وأشياعه لم ترحم طفلا ولا امرأة ولا شيخا، أهلكت الحرث والنسل وأحرقت كل شيء. ومع تلك الفظائع نشأ جيل جديد على وقع القنابل وصواريخ وطلقات الرصاص وصرخات الحناجر وسيل متدفق من الأشلاء وفد إلى ألمانيا مع مطلع عام 2015 مئات الآلاف، وراءهم الكثير من القصص المفجعة والجروح الغائرة التي تكاد لا تندمل. أَذكر أن إحدى المدن الصغيرة التي كان يقيم بها عدد كبير من اللاجئين السوريين قررت منع إطلاق الألعاب النارية في أعياد الميلاد، وذلك رعاية لمشاعر من فروا من الحرب حيث كانوا ينامون ويستيقظون على صوت المدافع والقنابل وأنين الضحايا والمصابين.
لا ريب أن لهذه الحالة من التقلب على جمر الحلم البعيد في عودة غير محتملة للوطن لها آثارها البعيدة منها:
1- عدم التأقلم مع الواقع والمجتمع الجديد، لأنه يعتبره دار مَمَر سريع.
2- إهمال قضايا المجتمع والجهل بالواقع المعيش، مما يجعله غريبا ضعيفا مُهمشا.
3- الضعف اللغوي وما يترتب عليه من آثار سلبية منها:
* تفويت فرص استكمال الدراسة لحملة الشهادات من الوافدين.
* الجهل بالمجتمع وتاريخه وعاداته وأعرافه والتحديات التي تواجه تكوين الهوية الدينية للأبناء.
4- التبعية الفكرية للشرق في الفتاوى والعادات دون رعاية لأحوال المجتمع الأوروبي واختلاف سياقه عن المجتمع العربي.
5- ضعف المشاركة المجتمعية، وأعني بها ضعف الحضور في مجالس الآباء في المدارس والإسهام في العمل التطوعي في مجالات عديدة.
ليس سهلا تجاوز تلك الحالة النفسية التي يعيشها المغترب كرها أو طوعا، غير أن دوام الحال من المحال، وليس هناك في الدنيا حزن دائم ولا فرح مقيم، إنما ساعة وساعة كما قال الشاعر:
هي الدنيا تدور كما تدور .. فلا حزن يدوم ولا سرور
على المهاجر الجديد أو القديم أن يتذكر ما يلي:
1- أن كل خطوة نمشيها هي مما قدره الخالق جل في علاه وأننا لا نملك من أمرنا شيئا فيما لا اختيار لنا فيه، قال تعالى: “إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ”(49) القمر. “وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا” (30) الإنسان. والتسليم لأمر الله تتجلى معه حكمته، وينكشف للمؤمن أسراره ولطفه. فكم لله من لطف خفي يدق خفاه عن فهم الذكي وكم أمر تُساء به صباحا فتأتيك المَسرَّة بالعشي. وكم يسر أتى من بعد عسر ففرَّج كربة القلب الشجي، إذا ضاقت بك الأحوال يوما فثق بالواحد الفرد العلي. وما أرْوح للنفس وأسْكن للقلب وأجْبر للخاطر أن يُسلم المرء زمام أمره لربه يدبر له ما يشاء، وما أجمل قول بعض العارفين:
الزم باب ربك واترك كل دون
واسأله السلامة من دار الفتون
لا تشغل لهمك ما قُدر يكون
2- التأسي بالمهاجرين الأولين رضى الله عنهم، فقد ترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوطانهم وفارقوا ديارهم وحيل بينهم وبين أهليهم وأحبابهم فهاجروا مرتين إلى الحبشة، وبقى الصحابة هناك قرابة سبعة عشر عاما حتى أذن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى المدينة بعد خيبر. ولما ضاقت مكة بهم هاجروا إلى المدينة، وحزن الصحابة على مفارقة مكة فتلك فطرة ركبها الله فينا فها هو بلال رضى الله يقاسي ألم الفراق، روى البخاري من حديث عائشة رضى الله عنها قالت: لما قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال رضي الله عنهما قالت فدخلت عليهما قلت يا أبت كيف تجدك ويا بلال كيف تجدك قالت وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
هناك شريحة من المسلمين ذابوا في هذا المجتمع وغفلوا عن رسالتهم ودورهم في الحياة، ومنهم من أدرك سر وجوده في الحياة وحمل راية الفضيلة والخير والتعريف بالإسلام وقيمه الخالدة فأيقظوا النائمين
وكان بلال إذا أقلعت عنه يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة وهل تبدون لي شامة وطفيل
قالت عائشة فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد اللهم وصححها وبارك لنا في مدها وصاعها وانقل حماها فاجعلها بالجحفة. لكن سرعان ما تجاوز الصحابة تلك المحنة بفضل تهيئة القرآن الكريم النفسية له أن الأرض كلها لله وأن المسلم يجب أن يكون مع الله في كل مكان ونزلت في هذا السياق قصص الأنبياء وآيات تفتح قلب وعين المؤمن على الكون كله وأنه محراب للعبادة وميدان للدعوة قال تعالى: “يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ” (56) العنكبوت. ثم بَشَّر الذين خرجوا من ديارهم في سبيل الله جل في علاه بحسنى العاقبة وخير الدنيا والآخرة. “وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ” (41) النحل. أبَعْد هذا الوعد يبقى المؤمن في حزن وسخط؟!
لا وربي.. ثم عاش الصحابة في المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبدلهم الله خيرا وبعد سنوات أصبحوا في الخير قادة، وفي ميادين الدعوة أئمة الهدى ودانت لهم الأرض من جبال الأطلسي إلى غرب أفريقيا والأندلس وبلاد ما وراء النهر والهند والصين. فلنقتدي بهم في حملهم للرسالة أينما كانوا، والمسلم ليس غريبا عن الكون، فهو صاحب رسالة ودعوة عالمية تحمل الخير لكل الناس.
3- وعلى طريق النجاح سار اللاحقة: في منتصف القرن العشرين وتحديدا بعد الحرب العالمية الثانية هاجر إلى أوروبا أعداد كبيرة من المسلمين لأهداف ودوافع مختلفة، سياسية واقتصادية وعلمية وغيرها، ولم تكن في خطتهم استيطان البلاد إنما هي سنوات معدودة ثم العودة بعد تحقيق الهدف المحدد ثم العودة إلى البلد الأصلي، وشاءت إرادة الله أن يعود الإسلام إلى أوروبا بعد أن أُخرج منها في حقبة الأندلس – وإن كانت العودة في سياق وبمعنى جديد، حيث نعتبر أنفسنا جزءا من هذا المجتمع بعد استقبالنا للجيل الرابع والخامس في بعض الدول الأوروبية-.
لكن هناك شريحة من المسلمين ذابوا في هذا المجتمع وغفلوا عن رسالتهم ودورهم في الحياة، ومنهم من أدرك سر وجوده في الحياة وحمل راية الفضيلة والخير والتعريف بالإسلام وقيمه الخالدة فأيقظوا النائمين، ونبهوا الغافلين وأرشدوا التائهين وأخذوا بيد الحيارى إلى البر والتقوى، فأسسوا المراكز الإسلامية والمؤسسات التعليمية وأقاموا المناشط التربوية والدعوية حتى اشتد عود الوجود الإسلامي بألمانيا وأوروبا وأصبح كيانا كبيرا ورقما لا يمكن تجاوزه، كل هذا كان ثمرة جهود متلاحقة لرجال ونساء تجاوزوا المحن والعقبات مستعينين بالله جلَّ في علاه.
وهناك قصص لكثير من المهاجرين القدامى والجدد ممن حققوا نجاحات كبيرة في ميدان العلم والاقتصاد، وأعرف منهم الكثير، أساتذة في الجامعات وأطباء مرموقين ورجال أعمال كبار، وجميعهم عانى قسوة الغربة وظلم البلاد التي فروا منها، بيد أنهم تغلبوا على هذه الصعوبات، وحقا إن التحديات لصاحب الإرادة القوية تستخرج منه أفضل ما فيه، والناجح يرى الفرص أمام كل عقبة.
4- دور الجمعيات والمؤسسات الإسلامية في تثقيف المسلمين وتعريفهم بواجبهم تجاه ربهم وأنفسهم وأسرهم ومجتمعهم الجديد وترشيد حضورهم ليعيشوا بدينهم دون عنت أو مشقة. ويجدر بنا أن نؤكد على الجهود المقدورة التي قامت بها المراكز والمؤسسات الإسلامية في ألمانيا تجاه أزمة اللاجئين، والتي فاقت القدرات الحقيقية لهذه المؤسسات، ولا نغفل أبدا الترحيب المجتمعي العام الذي استقبل به الوافدون الجدد حكومة ومؤسسات مجتمع مدني وجمهورا وإعلاما.
5- دور الدولة ومؤسساتها ومعها الجهود التطوعية في معالجة المشكلات النفسية والاجتماعية واللغوية التي تعترض الوافدين نتيجة الظروف المختلفة التي أحاطت بهم ولا زالت، وفي هذا الصدد نُثمن الخدمات التي توفرها الدولة ومعها مؤسسات المجتمع المدني، التي تمثلت في صور الدعم النفسي والاجتماعي واللغوي حتى يتجاوز المهاجر الجديد المراحل الصعبة في السنوات الأولى له.
(المصدر: مدونات الجزيرة)