بقلم محمد بوقنطار
أيام نحسات هذه التي مرت وتمر وستمر، توزعت الأدوار وترادفت الخرجات وتمايزت الصفوف، وتفرقت دماء الحقوق والأعراض والأغراض، وانتصر الزعم الأشر للأحياء والأموات، كأنها الوزيعة تستهم على حظوظها الضباع والأسود، توزعت الوسائل وتوحدت الأهداف بين سخائم العلمانية، فقد استغل أبناؤها غفوة الناس وسِنَة أهل الحق وغربة الإسلام بين ذويه فجاسوا خلال الديار، حتى كادوا أو كانوا قاب قوسين أو أدنى من أن يحركوا للناس حبالهم فيخيل إليهم أنها من سحرهم حيّات تسعى…
مساكين هؤلاء، نعم مساكين يشتركون في مذلة المسكنة وإن هرولت بهم مقاعد الكراسي وصهوة الحَصَانات، ونخوة التكايا والصفات.
نعم قد يقع كلامهم من نفوس بعضنا موقع الاستفزاز واستنزاف طاقة الصبر، فيهدر وقت الطاعات والقربات بين مشاعر الانشغال بأساطير كذبهم وتباكيهم وبهتانهم وكيدهم الضعيف، ولكننا كما كل واحد تحققت لناصيته بيقين لا تنال منه رياح الشبهات مستشرفات الوعد الحق، لا نزال نؤمن بدوام هذا الدين محفوظ الكيان مرعي الذات مقدس المحراب منصور الآل في علو وتمكين وفي غير حزن ولا وهن ولو بعد حين.
ولذلك تجدنا من منطلق هذا التحقق والاستشراف لا نملك إلا أن نشفق عليهم وهم في غيّهم يعمهون وفي كل واد يهيمون، وهم قبل هذا الإشفاق مشكورون على مغادرتهم لمتاريس النفاق وخدوره الخادعة، وإيثارهم مواجهة الإسلام بوجه سافر صلد ورأس حاسر جعد، مشكورون وقد ترجمت أفمامهم بغضاء ما تخفيه صدورهم، مشكورون وقد انبجست من معدن حجارتهم حقيقة قلة مائهم حتى وقفنا على مظنة قبوله ورجحان احتمال حملها دنس الغرب وعدوى الاستغراب.
وليس يدري المرء لماذا يقع كلامهم منا موقع الاستفزاز والانفعال الذي يصاحب وقع خرجاتهم المنقول عبر الأثير والموثق بالصوت والصورة والصفة، وكأن لسان حال المستفَزين منا يحكي اعتباطا وغباء انتظاره أن يخرج آل عيوش ومن كان على شاكلتهم وشاطرهم ركوب مركوبهم من الفنانين والكتاب والصحفيين والأطباء والشعراء ومن أتبعهم من المتحولين والجمعويين ومن انضوى من غيرهم في سلك الغاوين، أن يخرجوا جميعا ناصحين موصين مصرحين بوعظ وإرشاد يسوق الناس إلى محاريب الأخلاق، ومحاضن الإحسان، ومكاره العفاف والتورع ومجاهدة النفوس، وحملها باللوم والمحاسبة على توطن منازل الإطمئنان، ومقاصد النجاة هنا وهنالك، حيث لا ينفع مال ولا بنون ولا جاه ولا حسب ولا نسب…
ولربما علم هؤلاء المناوئون مستشرف هزيمتهم، كما علمها من سبقهم فجرب وحارب وضرب ثم ولّى الدبر مهزوم الجمع مكسور الجناح مهزوز الهيبة، وتلك سنة الله وحكمه الحاسم متى ما التقت صوارم الفريقين مصداقا لقوله جل جلاله “فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض” ولكن الأدوار يجب ألا ينقطع سيلها ولا ينضب سؤر مائها، ومن أدرانا في دائرة ما تلوثت به قلوبهم من أدران شك وظلم شرك وإخلاد هزيمة نفسية أن يظنون بالله الظنون، وقد أخذت الأرض زخرفها وظنوا أنهم قادرون عليها.
وتلك حقيقة تجعل العاقل المنصف منا لا يقبل في محله ودواخل وجدانه هذا الاستفزاز والانفعال مع رؤية ذلك المروق ومجاراته إلا على سبيل التعبد به والتقرب بكمد شعوره إلى ملك الملوك جل ثناؤه وعظم شأنه-فإن الحرام ما حاك في الصدرـ وأن يُجعل هذا الشرط قاعدة انطلاق لا تخلف لنا بوجودها مع القواعد والخوالف، على أن نستثمر حركة الانطلاق الإيجابي في طرق أبواب العلاج بل سبل الوقاية التي تستوعب طهارتها ومناعتها مكونات الأمة وثوابتها من دين ولغة وإمارة ورعيل شباب، لا يزال عظمه لم ينضج ولم يبلغ أشده بعد، فلا يزال معرضا لفتنة وإصابة وسائل الإعلام المتواطئة في انحياز مفضوح لهذا الفصيل وجوقته المترفة، لقد صار هذا الإعلام يأكل من خيرنا وخير ما نملك وينيب لغيرنا ولشر ما يملك، ماخور قد ضج بكل مقذور، وكرياس اجتمعت في مجرى كنيفه كل الموبقات والمهلكات، لقد جرف سيله كل مريد لبضاعته المطففة، وساق الكثير إلى ردغة الخبال ومراتع الهلاك، وساهم في تحويل كثرتنا إلى غثاء وزبد قد شد الرحال في صوب الذهاب جفاء…
لقد كان من سوء حظنا الالتفات إلىماجريات هذه الخرجات حتى كان مما سمعناه حديث الوزير ومعه الأشيميط، الذي غزى دوائبهاليقق، واشتعل رأسه شيبا، وهما يعزفان سمفونية ما أسموه حقوق الجسد وحرية مسافحة الرجل للرجل والمرأة للمرأة، بل التماهي مع إشباع نزوات هذا الجسد بكل جرأة وصفاقة.
لقد تذكرت وأنا في غمرة ذلك الاستفزاز والانفعال اللامعقول كيف كان العربي الأبي في عز الحاجة وشديد الضيق والقَدَرة، وفي ذلك الزمن الذي ما فتئنا ننعته في غير فرط ولا تفريط بالجاهلية الأولى لا يبيع الفرس الذي ركبته زوجه مخافة أن يركبه رجل من بعدها من شدة الغيرة عليها، ولك أن تزن وتتصور علة المنع هنا، ثم تعطف على هذا التصور بمقارنته بخطاب الرجلين ودعوتهما النافقة أدبا، والمستعلية في غير حياء ولا مروءة ولا إدام وجه، ولعمري أين هذه الحيدة الخلقية من غيرة الحيوان على نقاوة جنسه وصفاء نسله…
إنهم اليوم وقد تآلفت أفئدتهم، واجتمعت كلمتهم فسلقوا هذا الدين العظيم وأمة أهله بألسنة حداد أشحة على الخير، يمارسون هجومهم الكاسح، وعزاؤنا أنهم فقدوا بوصلة الاتجاه، وصاروا يسبحون ضد التيار، بل ضد الصوب الفطري الذي يفزع له الناس مع تنفيذ الله لوعده بكل تجديد لأمر هذا الدين، ولنا أن نؤكدحقيقة هذا الفزع فرارا من تهمة الرجم بالغيب، بإيحاء وإحالة على جمهرة الاستدراكات التي تقر بها عين الغيرة، والانطباعات الغاضبة والتعاليق المتمردة على هذا الإقعاد السلوكي المشين.
ولنا بعد هذا حتى لا نجانب الإنصاف أن نعترف أن هذا التغول العلماني وتصوّله في بلاد المسلمين لم يكن ولم يأت إلا بعد أن استام عقله الحداثيقلوب المسلمين وعقولهم وأولويات انشغالاتهم، إذ أسفر هذا البلاء والاختبار عن حقيقة دواخل المسلمين وأنها دواخل أفرغت من جوهر الإسلام وحقيقة الوحي وقبسه، فتراوح انتساب المسلم الصوري بين معرفة الاسم وإقامة الرسم، حتى صارت التوقيعات العقدية والتوليفات الشعائرية عبارة عن تكرار فعل وترديد قول يحيل كلاهما على تقاليد ومألوفات وجدالات عقيمة لا روح فيها ولا التزام، يحصل هذا الأدنى في زحمة ومناخ تعمّه العتمة ويعلوه ضجيج منظم الصياح ومترادف الصراخ يرمي بكل تهمة ويعلق كل مثلبة على شماعة التدين مرة والدين مرات، ويلبس الإسلام وأهله مسؤولية كل نقيصة وتسفل جارح، وينتج في اجترار لا يكل ولا يمل الشبه تلو الشبه، ظلمات مركوم بعضها فوق بعض، حركة وطاويطها بين كر وفر يتنفج بالإثم والعدوان.
فعنوان كرّهم أن تكون المواجهة مباشرة مع الدين شعيرة وشريعة، بدعوى أن الدهر قد تجاوز أحكامه، وأنه صار من المعرة الاحتكام إلى أحكام دينية تاريخية والأمم من حولنا قد وصلوا إلى العرجون القديم، وشطروا الذرة، وبلغوا من العلم المادي تطورا عظيما متقدما، ولا شك أن حقيقة هذا الكرّ أوضح من أن يجادل في وجودها من عدمها مجادل، وهو عنوان يجعل استغرابنا من خرجة وزير عاب على المخيمات إيقاظ الأطفال لصلاة الفجر أو استنكارها حضهم على حضور مشهد الجمعات والضرب صفحا عن ما يتعرضون إليه من اغتصاب واعتداء جنسي على الحق والصدق، يجعل استغرابناعاريا ومتجردا عن كل تبرير يسوغ معه أن ننفعل أونكون من معشر المستَفَزين…
أما عنوان فرّهم فمفاده تشدقهم مراوغة وتدليسا بأن المواجهة ليست مع هذا الدينالعظيم، وإنما منطقة المدافعة وحقيقة المعركة مع فهم متطرف لنصوص الإسلام واحتكار لهذا الفهم من قوى تقليدية جامدة، وإحاطتها له بهالة وقشرة سميكة تحول بين سماحتهوبين معبودهم من جنس ما يحبون أن يسموه في سياق دفاعهم بالآخر…
وحري بنا التنبيه على أن هذا الفر لا يردف ذلك الكر، ولا يندفع إلى الخطوط الأمامية للمواجهة إلا عندما يستام أصحابه ردة فعل الجماهير التي تمثل جانب الأغلبية، فيترجح في جوفهم الخوف من انكشاف اللعبة فيُرْمَوْن ويُتَهمون بالمروق من الدين والبراءة المطلقة من أحكامه خبرا وطلبا.
وحري بنا أيضا الإشارة في الأخير إلى أننا بين فرّهم وكرّهم، لا نزداد إلا تقربا إلى الله وإيغالا لطيفا في محبته، وهو الحليم الذي لو آخذهم لتخطفهم طير الموت قبل أن تمرق كلمات جحودهم من حناجرهم الساخنة ونواصيهم المصرة في مكابرة على أن تخوض معركة خاسرة بكل المقاييس، نسأل الله للجميع توبة نصوحا تطهرنا جسدا وروحا، كما نسأله جل في علاه أن لا يؤاخذنا بدندنة السفهاء منا إنه هو العزيز الحكيم.
(المصدر: هوية بريس)