مقالاتمقالات مختارة

مشروع “تحقيق المناط” والتأصيل للاستبداد

مشروع “تحقيق المناط” والتأصيل للاستبداد

بقلم معتز الخطيب

عالجت في مقال الأسبوع الماضي -بإيجاز- كيف أن واقعة التطبيع الإماراتي مع إسرائيل هي مجرد مثال على أن “تحقيق المناط” تحول -عمليا- إلى وسيلة للتنظير للواقع السيئ وشرعنته. وفي هذا المقال أناقش الأساس النظري الذي بناه الشيخ عبد الله بن بيه وجعله عنوانا لمشروعه في “تحقيق المناط” بعد الثورات العربية، وسأشرح فكرته بتكثيف شديد ثم أبين أوجه الخلل في مشروعه.

سلك بن بيه منهج التأصيل الذي أسس له خصومه الإسلاميون من خلال المؤسسات، التي شارك فيها على مدى سنوات طويلة قبل أن ينقلب عليهم ويصطف إلى جانب أعدائهم، وقد خصص لهذا كتابه “تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع” (ط1، 2014). ومن المفارقات أن ناشر الكتاب هو مركز نماء الذي أسسه الشيخ سلمان العودة، الذي يقبع في سجن ولي الأمر منذ نحو سنتين من دون أن نسمع لبن بيه كلمة واحدة في هذا!.

أراد الشيخ بن بيه لكتابه أن يكون “أرضية تجديدية لفقه واقع المرحلة”؛ من خلال مفهوم مركزي هو الاجتهاد “بتحقيق المناط”. فالواقع هنا هو “كليّ الواقع”، ويشمل -عنده- الواقع والمُتَوقَّع. فالواقع يشمل الماضي الذي أفرز الحاضر وأسس له حتى صار امتدادا له، والمتوقَّع هو استشراف مستقبل تتوجه إليه تداعيات الحياة. ويعرّف الواقع بأنه الإحاطة بحقيقة ما يحكم عليه من فعل أو ذات أو علاقة أو نسبة، وبأنه الوجود الخارجي الحقيقي. وبناء على هذا يخلص إلى أن الواقع شريك في الحكم: فهما واستنباطا وتنزيلا، كما يخلص إلى أن جوهر المشكلة اليوم يتمثل في 3 أبعاد هي: قصور في إدراك الواقع، وقصور في فهم تأثير كلي الواقع في الأحكام، وقصور في التعامل مع منهجية استنباط الأحكام بناء على العلاقة بين النصوص والمقاصد من جهة، وبين الواقع من جهة أخرى.

والمنهجية التي يقترحها في هذا الخصوص هي “تحقيق المناط”، وهو مفهوم أصولي له معنيان؛ الأول تطبيق قاعدة شرعية عامة في آحاد صورها، والثاني إثبات وجود علة حكم متفَق عليها في الأصل (كالإسكار في الخمر)، في فرع معين (كشراب محدد)؛ لإثبات حكم الأصل للفرع (وهو الحُرمة). وقد بنى تنظيره على اقتباسات عديدة من العلماء أبرزها للإمام الغزالي (505 للهجرة) الذي عده أول من بحث “تحقيق المناط”، ويبدو أنه لم يطلع على نص أبي علي العكبريّ الحنبلي (428 للهجرة)، الذي كان أسبق من الغزالي. يوسع بن بيه مفهوم تحقيق المناط فيجعل منه تارة نظرا في طبيعة التكليف وأحوال المكلفين مجتمعا وأفرادا، وتارة يجعل منه تشخيصا للقضية المحددة.

وكلا الواقع وتحقيق المناط يضعاننا في صلب الصراع على السلطة والتغيير ودور العلماء في ذلك، وهنا يعترف بن بيه بأن مؤتمر الكويت الذي عقده في فبراير/شباط 2013 تحت عنوان “الاجتهاد بتحقيق المناط” أظهر وجود اتجاهين: يرى الأول منهما أن الواقع ليس كله سيئا، وأن التعامل مع السلبيات يخضع لمبدأ إزالة المفاسد أو تقليلها، وإحلال المصالح محلها دون التسبب في مفاسد أكبر، ويتبنى بن بيه هذا الاتجاه، ويعبر عنه بأنه “الاتجاه العام”. في حين يرى الاتجاه الثاني إزالة الواقع المشتمل على المفاسد وإحلال واقع صالح محله.

ولكن الخلاف يتمثل هنا -من وجهة نظر بن بيه- في نقطة البداية: فكيف نغير؟ وما النتائج المترتبة على التغيير؟ ومن سيغير؟. لا يناقش هذه الأسئلة بجدية، وكذلك يفعل مع العديد من الأسئلة التي يثيرها في الكتاب ويتركها معلقة، ولكنه يقرر أن التغيير لم يعد متاحا بتولي حاكم صالح بل أصبح أكثر تعقيدا؛ بسبب الديمقراطيات التي جاءت بمطالب بلا سقف وبمذاهب متباينة بلا أرضية وفاق، ومن ثم فإن من يريد تغيير الواقع يحتاج إلى أن يحوز الرضا العام، وما هو ببالغه في رأي بن بيه، ولكنه لا يخبرنا شيئا عن مدى تحقق الرضا العام في الأنظمة القائمة، ولا عن أسباب عدم حصول الرضا العام في مصر في تلك الفترة (مطلع 2013 والذي مولته الإمارات)، ولا عن كيفيات حصول التغيير فعليا من قبل الأنظمة الاستبدادية، وهي مع ذلك لا تحوز الرضا العام، فضلا عن أن أساليب التغيير وأدواته تطورت وتنوعت ومنها أساليب الضغط والمعارضة التي لا يُحسنها بن بيه عبر مساره السياسي الطويل، سواء كانت مع نظام داخلي أم احتلال، ولذلك لا تكاد تجد له كلمة ضد الاحتلال الإسرائيلي أيض

لا يقتصر الأمر عند بن بيه على الثورات وتغيير الأنظمة فقط؛ بل يشمل ذلك تطبيق الشريعة نفسها، ففي معالجة لسؤال: هل من سبيل إلى تنزيل كلي الشرائع والإيمان على كلي العصر والزمان؟ يقر بأن الواقع السياسي متجاذب بين طرفين: فهم خاص للشورى ونظام البيعة، وواقع جديد يوزع ممارسة السيادة بين سلطة تشريعية وتنفيذية وقضائية؛ لكنه لا يجيب على السؤال مجددا، كما فعل في التساؤلات التي طرحها حول تطبيق العقوبات الشرعية، والتي أناط القول فيها بالسلطات الولائية (ولي الأمر)؛ لأنه قرر أنه يجوز للحاكم أن يعلق الحدود إذا رأى في ذلك مصلحة (ومنها تحديد درجة القلق من تطبيق الحدود، ومدى استعداد الأفراد لقبول إيقاع العقوبة البدنية عليهم، ومدى إمكان تأثر ولائهم للدين في حال تطبيقها …).

لا يمارس بن بيه هنا دور المفتي الذي وظيفته بيان الحكم الشرعي، الذي هو مقدمة ضرورية لتحقيق المناط أصلاً؛ بغض النظر عمن يحققه، فهو يقفز على بيان الأحكام ليصل مباشرة إلى اختصاص ولي الأمر بها، وكف أيدي الناس عنه

ورغم أن بن بيه يريد بكلي الشريعة أو الأحكام الكلية: الصورةَ القديمة والصورة الحديثة المغايرة للصورة التي نزلت فيها الأحكام الجزئية، إلا أنك لن تجد في الكتاب الأحكام الخاصة بالصور الحديثة، ولا يوضح لنا كيف يمكن تنزيلها على واقعنا اليوم، ويكتفي -في المقابل- بطرح الأسئلة فقط. لا يبدو اكتفاء بن بيه بالتنظير دون التطبيق مفاجئا؛ لأن غرضه من الكتاب -كما يقر  في مقدمته- هو البحث في مسائل السلطان أو الحاكم، وفيما يتعلق بتغيير المنكر وبوجوب الطاعة، وفي مسألة الخروج على الحاكم أو قضية الحكم بالشريعة؛ لأن “فريقا من الفاعلين في الثورات ودعاة تغيير الأنظمة يرفعون شعار الشريعة ويعلنون عنوان الإسلام”، ومن ثم فقد “تعيّن بيان الحكم الشرعي لهؤلاء ولغيرهم”، ومن الواضح الآن أن الحكم الشرعي المراد هنا  هو أن أمور السياسة والسلطة من اختصاص أولياء الأمور فقط يقررون فيها ما يرونه هم؛ لأنهم -شرعا- المستبدون بها؛ فالذي يحقق المناط للأمة هنا هو “الجهة السلطانية التي تستوعب الأسباب والدوافع الخفية والشروط الغامضة”.

لا يمارس بن بيه هنا دور المفتي الذي وظيفته بيان الحكم الشرعي، الذي هو مقدمة ضرورية لتحقيق المناط أصلاً؛ بغض النظر عمن يحققه، فهو يقفز على بيان الأحكام ليصل مباشرة إلى اختصاص ولي الأمر بها، وكف أيدي الناس عنها؛ أي إنه يتحول إلى محامٍ عن صلاحيات السلطة دون أن يأتي على ذكر أيّ من واجباتها ومسؤولياتها مكتفيا بتوصيف الواقع وتحولاته فقط، وهي تحولات ستتحول إلى سبب لتعليق الحدود وغيرها من أحكام الشريعة؛ لأن الظروف الواقعية والمصالح الإنسانية هي المعيار الحاكم في التصرفات، بل حتى كون المصالح توقيفية (نصية) هو رأي الأكثر فقط (ولعله يشير بهذا إلى خلاف الطوفي).

اعلان

الصراع القائم أصلا في المنطقة إنما هو صراع على من يصوغ الواقع لمصلحته الجزئية، وهكذا هي السياسة، لعبة موازين قوى وإدارة للصراع ومُدافعة

ويمكن -بإيجاز- تلخيص أوجه الخلل في تنظير بن بيه في الآتي:

أولا: ثمة تَخالف بين تنظير بن بيه للواقع وبين ممارسته، ففي ظل الخلاف حول كيفية مقاربة الواقع، آثر بن بيه مقولة “فلنتعامل مع الواقع”، على مقولة خصومه “لنغير الواقع”؛ لكننا لو جئنا نطبق تعريفاته للواقع الكلي (الحاضر المؤسَّس على الماضي، والوجود الخارجي الحقيقي) لن نجد انسجاما بين تعريفه هذا والواقع الذي نبحثه ونختلف فيه معه، وهو واقع موّار بالتغيرات، والصراع القائم أصلا في المنطقة إنما هو صراع على من يصوغ الواقع لمصلحته الجزئية، وهكذا هي السياسة، لعبة موازين قوى وإدارة للصراع ومُدافعة. ثم إن الواقع بتركيبيته ليس كله “إحاطة بحقيقة” كما نقل عن ابن القيم؛ بل هو في اللحظة الراهنة واقع تأويلي (لا قَدَري) تختلف فيه الأنظار والتقديرات بحسب مواقع الناظرين (السياسية والفكرية والجغرافية) وبحسب حساباتهم لمصالحهم ولإمكاناتهم وخططهم المستقبلية، ومن هنا يغدو سلم بن بيه استسلاما: رغبة أو رهبة، وصار هو مفارقا للواقع الذي يدعونا إلى فقهه.

وبعيدا عن التنظير، لا يفرق بن بيه -في ممارسته العملية- بين كلي الواقع الذي حدثنا عنه، وبين أشكال أخرى من الواقع لم تتشكل بعد أو لم تستقر بوصفها واقعا قارا؛ فبعض فتاواه ومواقفه تواكب واقعا في طور التشكل ويتم الاصطراع عليه، فتنحاز إلى طرف فتكون جزءا من الصراع نفسه (كانحيازه لحلف الثورة المضادة وتأييده حصار قطر)، وبعض المواقف والفتاوى تمهد لواقع يُراد له أن يتشكل (كانحيازه لاتفاق التطبيع مع إسرائيل)، وقد أُنشئ منتدى السلم لهذا الغرض، وهو إمداد سياسة دولة الإمارات بالغطاء الشرعي.

فكتاب “تنبيه المراجع” جاء خادما لهذا الغرض من خلال 4 أمور: أولها: إقصاء الفقيه والمفتي عن “تحقيق المناط” في مسائل السياسة وقضايا الأمة، وثانيها: إعطاء الحكام السلطة الحصرية في مسائل السلطة والحكم، وثالثها: تعليق تطبيق أحكام الشريعة (ومنها العقوبات) على الواقع وتعقيداته التي يقدرها الحكام مجددا؛ ورابعها: معارضة حركات التغيير علنا؛ لأنه عد أن التغيير غير ممكن؛ بل مفسد ومثير للثورات والحروب العبثية في رأيه. وهي أمور تأتي على خلاف تام مع مواقف صديقه السابق الشيخ يوسف القرضاوي ومشروع الإسلاميين الحركيين عامة، وتتبنى رؤية الأنظمة وخاصة في السعودية والإمارات.

ثانيا: يخلط بن بيه بين الواقعي والمعياري؛ رغم أنه نقل عن ابن القيم أن المفتي والحاكم يحتاج في الحكم إلى أمرين: فهم الواقع وفهم الواجب في الواقع؛ أي إن المفتي بحسب ابن القيم أمام نظر مزدوج يوازن بين الواقع والواجب. لكن بن بيه يقفز إلى تحقيق المناط (تشخيص الواقع/الواقعة) قبل بيان الأحكام المعيارية نفسها، ويشغلنا بسؤال من يحقق المناط (أي جهة الاختصاص والتنفيذ) عن السؤال المركزي وهو بيان الحكم نفسه وتقييم هذا الفعل أو ذاك، ثم بيان الواجبات الأخلاقية والشرعية المترتبة على تصرفات الحاكم من واجب النصح والوعظ والإنكار إن اقتضى الأمر، أو حتى مجرد بيان المخالفة إذا ساء فعل السلطان.

بن بيه حين يقتبس نصوص الفقهاء ثم يبني عليها مطلق التفويض لولي الأمر دون أن يبحث في من هو ولي الأمر وما صفاته وكيف يحكم، لا يحقق المناط الذي يدعونا إليه

يقدم الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- نموذجا واضحا على هذا التمييز الذي شرحته؛ فرغم أنه شدد في مسألة طاعة الحكام إلا أنه كان لا يأتي الخلفاء ولا الولاة والأمراء ويمتنع من الكتابة إليهم، وينهى أصحابه عن ذلك مطلقا. وقد سأله تلميذه مهنا بن يحيى عن إبراهيم بن الهروي فقال له “رجل وسخ”، قال فقلت ما قولك إنه وسخ؟، قال “من يتبع الولاة والقضاة فهو وسخ”. وكان هذا رأي جماعة من أكابر السلف منهم سويد بن غفَلة وطاوس وإبراهيم النخعي وأبو حازم الأعرج وسفيان الثوري والفضيل بن عياض وعبد الله بن المبارك وداود الطائي وعبد الله بن إدريس وبشر بن الحارث الحافي وغيرهم. وسئل الإمام أحمد عن المفاضلة بين الإمامين مالك وابن أبي ذئب فقال “ابن أبي ذئب أصلح في دينه وأورع ورعا، وأقوم بالحق من مالك عند السلاطين؛ وقد دخل ابن أبي ذئب على أبي جعفر فلم يَهَبْه أن قال له الحق؛ قال الظلم فاشٍ ببابك. وأبو جعفر أبو جعفر”، وأحمد هنا عاب مجرد الصمت فكيف بمن يعمل مع حكام الجور ويطوّع لهم الفقه ويفصل لهم الفتاوى؟.

ثالثا: فكرة تحقيق المناط مثار كثير من الخلافات الفقهية؛ لأن الاتفاق قد يقع على أصل الحكم؛ لكنهم يختلفون في حيثيات تنزيله على الواقع والأزمنة، وقد يختلفون في تشخيص الوقائع، ومن ثم فإن هذه الأداة لو نقلناها إلى الحكام، فستساعد فقط على تقويض الاحتجاجات وبقاء الواقع على ما هو عليه إن لم تنقله إلى ما هو أسوأ؛ لأن بن بيه الذي رفض أن نسأل سؤال (من أشعل الحرائق) وطالبنا أن نبحث في سؤال (كيف نطفئ الحرائق؟)، ترك هنا سؤال (كيف) وانشغل بسؤال (من) يحقق المناط، وكان عليه أن يتسق مع نفسه، فيشرح لنا كيف نحقق المناط؟ وما المنهجية التي على الحكام أن يحققوا فيها المناط؟ بحيث ننتقل من سؤال الأشخاص إلى سؤال المنهج، الذي يضمن تحقيق أحكام الشارع، ويحول دون الاستبداد، واتباع أهواء الحكام ويوقفنا على معايير تقويم الأفعال؛ إذ إن محقق المناط قد يزل أو يضل وقد يعدل وقد يجور، وسؤال المنهج في واقع الدولة الحديثة من شأنه أن يوفر لنا وسائل عديدة تحقق العدل كالوسائل الشورية والديمقراطية (كالاستفتاء ومجالس الشورى وغيرها)، التي هي أبلغ في التعبير عن إرادة الناس بدلا من إقصائهم كليا وإناطة الأمر كلية بفرد كما هو التصور السلطاني، كما أن هناك وسائل علمية لمعرفة الواقع وقياسه (كاستطلاعات الرأي وعلم الإحصاء والعلوم الاجتماعية والسياسية).

رابعا: إن بن بيه حين يقتبس نصوص الفقهاء ثم يبني عليها مطلق التفويض لولي الأمر دون أن يبحث في من هو ولي الأمر وما صفاته وكيف يحكم، لا يحقق المناط الذي يدعونا إليه، وقد نص الحنابلة -مثلا- على أن الحاكم يشترط فيه أن يكون أهلا، وأنه هو المراد حين يُطلق في كتب الحنابلة، وأنه أندر من الكبريت الأحمر، وقد سئل الإمام أحمد فيمن عنده مال تطالبه الورثة؛ فيخاف من أمره. هل ترى أن يخبر الحاكم ويرفع إليه؟ قال “أما حكامنا اليوم هؤلاء؛ فلا أرى أن يَتقدم إلى أحد منهم، ولا يَدفع إليه شيئا”، وقد علق الرحيباني (1243 للهجرة) أحد متأخري أئمة المذهب بالقول “هذا في زمانه فكيف بحكامنا اليوم؟”.

خامسا: أحد وجوه الاضطراب التي يقع فيها بن بيه، أنه يتأرجح بين الدولة السلطانية وبين الدولة الحديثة في تنافر واضح، فحين تحدث عن طاعة الحاكم استعرض مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك، وأن الطاعة تشمل معنيين: الاحتمال؛ أي احتمال الحاكم والصبر عليه ولو كان جائرا من دون قيد أو شرط، والامتثال لأمره إذا أمر بما هو مشروع أو بما هو من اختصاصه؛ لكنه حين عرّف “الدولة” عرفها بأنها “السلطة السيادية السياسية التي تتمتع بالشخصية القانونية وتخضع لها مجموعة بشرية”، وأن الإشكالات السياسية والفلسفية والقانونية مردها إلى السلطة أصلها وشكلها، ومن أين نالت مشروعيتها؟ وما هو أصلها؟ وهل تورث أو تنتخب؟ ومن أي صورة تركب؟، ثم كيف تتصرف وتدبر وتؤلف؟.

كل هذه أسئلة هي من صميم الواقع اليوم الذي ينقسم بين أنظمة ديمقراطية يتحفظ عليها بن بيه، وأنظمة استبدادية يساندها بن بيه ويدافع عن صلاحيات رؤسائها؛ مع إدراكه بأن “الدولة الحديثة تختلف في نظامها السياسي وعلاقات الفرد مع السلطة والعلاقات بين السلطة مع ما كان سائدا منذ قرون”؛ بل يذهب أبعد من ذلك حين يتبنى مفهوم الدولة الحديثة بالمعنى الذي قدمه ماكس فيبر، وهو أن الدولة “في الماضي والحاضر” هي التي تمتلك وتحتكر الحق في استخدام القهر والقوة، وما يجعل هذا الاحتكار مشروعا وشرعيا هو العدالة في استعمال هذا الحق، والشفافية في ممارسته، ووضوح القواعد والمبادئ والأنظمة، التي تحكم استعمال القوة وحياد السلطة القضائية واستقلالها النفسي والمادي؛ لكنه لا يلبث أن يردنا إلى تحقيق المناط هنا بعبارة غامضة تفتح الباب واسعا لفكرة الاستعداد للديمقراطية، التي يشير إليها في موضع آخر، وهو الباب الموارب الذي يتركه على طول الكتاب ويفصل بين تنظيره وممارسته. يكتفي هنا مثلا بطرح أسئلة حول من هو السلطان؟ وهل ولي الأمر كل من ولي أمرا من أمور الناس؟ وهل هو الحاكم خاصة أم الحاكم والعالم؟ ومن هو الإمام في الجمهوريات؟ وما صلاحيات الحاكم؟ وما دور الأمة؟ وما دور المجالس التشريعية والهيئات المنتخبة؟ في حين أنه كان مطلوبا منه أن يقدم لنا إجابات حول هذه المسائل حتى نعقل عنه مشروعه ونزن ممارسته ضمن الهيئات الإماراتية بتنظيراته، التي يقدمها لنا ويعيب على الآخرين أنهم لا يفقهون الواقع.

زعم بن بيه أنه إنما أقام منتدى السلم بعد الثورات العربية من أجل إطفاء الحرائق؛ لكننا لم نره أطفأ حريقا واحدا أو حتى ساهم في إخماده في اليمن وسوريا وليبيا ومصر وغيرها، بل على العكس ساند من يسهمون في إشعال الحرائق، فراعي منتدى السلم (كما يقدمه موقع المنتدى) الشيخ عبد الله بن زايد خاطب الأوروبيين في مايو/أيار 2017 بأن “عوقكم في بطنكم”، وأن لديهم في أوروبا 50 مليون مسلم، وأن هناك دولا أوروبية هي حاضنة للإرهابيين وللمتطرفين، في تحريض صريح وعلني على مسلمي أوروبا. فالمنتدى الذي يزعم تعزيز السلم يُشعل الحرائق، ولا نكاد نجد في خطاب بن بيه حضورا للقوانين والدساتير والأحكام الشرعية، التي يجب على الحكام أن يمتثلوا لها سواء في تحقيق المناط أم في العلاقة مع الشعوب وإشعال الحروب الداخلية أو تمويلها خارجيا كما تفعل الإمارات في ليبيا واليمن وغيرهما، وكما ساندت إجرام النظامين المصري والسوري، ومع ذلك لن تجد له كلمة واحدة في هذا الواقع الوبيل الذي يعمل فيه ويخدمه.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى