مقالاتمقالات مختارة

مسلمو فرنسا والسترات والشعبوية الصاعدة

مسلمو فرنسا والسترات والشعبوية الصاعدة

بقلم أمير سعيد

دليل المنطق يومئ إلى مسلمي فرنسا، كآخر المندرجين في قائمة المتطلعين لجني ثمرات احتجاجات السترات الصفراء، لسبب جوهري وحاسم يتعلق بالبديل الديمقراطي لحكومة الرئيس ماكرون التي تواجه اختباراً قاسياً في الشعبية.

ولهذا كانت الكوميديا السوداء لأرباب التفسير التآمري “الإسلامي” في كل شاردة وواردة، فاقعة إلى حد بعيد؛ فخلافاً لمعظم وسائل الإعلام الفرنسية والغربية، التي تجنبت “أدلجة” الاحتجاجات، وتجييرها باتجاه المسلمين أو غيرهم، جاءت فصول هذه الكوميديا – كالعادة – من بلادنا المسكينة؛ حيث استباح بعض “الباحثين” والكتاب أن يدمغوا هذه الاحتجاجات بالإسلامية المتطرفة، حيث قدروا أن نحو 250 جمعية ومنظمة إسلامية في فرنسا، زُعِم أن عمار لصفر (رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية الفرنسية) يقودها لإحداث فوضى في باريس مدفوعة من تركيا!

تصفية حسابات إدانة “مذابح الأرمن”، وغيرها، التي وسعت الهوة بين تركيا وفرنسا، منحت “خيال كتاب الكوميديا” خصوبة، زادتها تعليقات من الرئيس التركي على أحداث الشانزليزيه بالعاصمة الفرنسية وبعض مدن فرنسا الكبرى، والتي حاولت لمز الحكومة الفرنسية لجهة تعاملها شرطتها الخشن وسلطتها العدلية مع المحتجين، مقارناً بين التداعي الأوروبي لإدانة الشرطة التركية في أحداث غزني قبل خمسة أعوام، وانقلاب تركيا الفاشل 2016م والصمت المقابل في أحداث سترات فرنسا الصفراء.

أبدى أردوغان قلقه من أحداث فرنسا وقال: “نعارض مشاهد الفوضى التي تسبب بها متظاهرون والقوة المفرطة تجاههم على حد سواء”، وأكد أن “المشهد يكشف فشل أوروبا في امتحان الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات”. لكن إن كانت تصريحاته تلك يمكن تصنيفها في خانة المكايدة السياسية، والرد المكافئ أو حتى المبالغ على اتهامات فرنسية لحكومته بانتهاك حقوق الإنسان؛ فإن تصريحاته التالية تلك هي قراءة تدعو للتأمل جيداً وربما الاتفاق معها. قال الرئيس التركي: إن “الذين أثاروا معاداة اللاجئين والإسلام من أجل الشعبوية السياسية وقعوا في الحفرة التي حفروها”، ولفت إلى أن “جدران الأمن والرفاهية التي تغنوا بها بدأت تتزعزع على يد مواطنيهم بالذات وليس من قبل اللاجئين والمسلمين”.

بالفعل، لم يكن المسلمون موجودين ككيان متحد خلف حركة السترات الصفراء، بل إن رأس حربتها كما يقول أستاذ العلاقات الدولية في جامعة السوربون خطار أبو دياب – في تصريح لـ DW عربية – كان هو أقصى اليمين ” ثم انضم إلى الحركة أناس من أقصى اليسار ومؤخراً أصبحت خليطاً متنوعاً جداً يشمل كل الحانقين على السياسة الضريبية والرافضين لشخص ماكرون”، أو “موزاييك” متنوع من الشعب الفرنسي، وحركة “طبقية” (أفقية) وليست “هوياتية” (عامودية: دينية أو عرقية أو جنسية وغيرها) على حد وصف يونس بن فلاح أستاذ الاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية في جامعة ليل الفرنسية. بل إن صحيفة التايمز البريطانية في تقرير أعدّته عن احتجاجات “السترات الصفراء” التي تشهدها فرنسا أنحت باللائمة على مجموعة من الحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي تعمل على الدفع باتجاه الفوضى وإن تلك الحسابات متصلة بروسيا.

والحق أن ابتعاد مسؤولية هذه الفوضى في فرنسا عن المسلمين لا تحتاج إلى شهادة خبراء أو صحف غربية أو تصريحات أردوغان، بل إن دليل المنطق – كما ذكرت بأول هذه السطور – يؤيد ذلك، لأن نجاح حركة السترات الصفراء سواء أكان اليمين هو من فجر شرارتها، وهذا صحيح بالفعل، أو غيره، لن تصب إلا في صالح اليمين المتطرف؛ فعلينا أن نتذكر أن ماكرون رغم كونه معادٍ للمسلمين في فرنسا، ويقفز بخطواته من أجل تقييد حريتهم وفرنسة دينهم كما يسعى لذلك منذ وصوله للحكم قبل عام ونصف عبر تعديل قانون 1095 وغيره من الإجراءات الهادفة إلى إفقار المؤسسات الإسلامية وتدجينها وحشرها داخل أطر الرقابة الشديدة من وزارة الأديان والداخلية، ومصادرة حريات نحو 13% من سكان فرنسا، وهم أكبر جالية مسلمة في أوروبا وتكاد تجاوز عدد مسلمي دول يوغسلافيا السابقة بالبلقان، وتعد نموذجاً لتجربة الأوروبيين في التعامل الخشن مع مسلمي غرب أوروبا.. رغم كل هذا، إلا أن “نار ماكرون ولا جنة اليمين المتطرف” بالنسبة لمسلمي فرنسا. والكل يعلم أن ماكرون جاء للسلطة في مقابل هذا اليمين الذي تقوده الآن بشكل معلن المتطرفة لوبان، والتي تعد إحدى الواجهات السياسية لليمين المتطرف الذي تختفي خلفه العديد من التنظيمات السرية الأخرى التي يتمتع قسم منها بحماية من بعض أجنحة الاستخبارات في دول أوروبيا، وربما فرنسا ذاتها.

شعبية ماكرون التي تآكلت بسرعة لحساب اليمين ليست في صالح المسلمين أبداً، ربما صب صعود اليمين في صالح المسلمين في المستقبل البعيد، لكن القريب فيه لا يعزز مصالح كتلة إسلامية كبيرة غير جاهزة للتعامل مع أي تحدٍ عنصري. ولهذا كان متفهماً بوضوح محاولة نأي حكماء الجالية الجزائرية بأنفسهم عن حركة الشارع، ودعوتهم للجالية لعدم الخروج من منازلهم لقطع أي ذريعة لتصيد اليمين لأخطاء الجالية أو استفزازها أو الاعتداء على أفرادها.

من دون مواربة، يسهل الخلوص إلى أن نجاح السترات الصفراء في حركتها الفوضوية هو وضع للشعبوية الأوروبية واليمين المتطرف في موضع الصدارة والقدوة والنفوذ، ولا يحتاج هذا الاستنتاج لمزيد عناء لإثبات أن ذلك يلح الضرر بأكبر كتلة مسلمة في أوروبا الغربية والمهاجرين اللاجئين في أوروبا على وجه العموم.

بأي حال، لابد من أن يرى المسلمون في أوروبا مستقبلهم جيداً في بلاد لن تصبر طويلاً على وجودهم وتمتعهم بحريتهم ودعوتهم الدينية، ولا تقبل أبداً بما هو دون الاندماج الكامل وذوبان هويتهم، أو بالأدق والأصدق والأنقى: “حتى تتبع ملتهم”.

(المصدر: المنهل)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى