مقالات مختارة

مسجد البرازيل .. حضارة وعلم وريادة

بقلم الشيخ خالد رزق تقي الدين – إسلام أون لاين.

بدأت هجرة المسلمين للبرازيل بداية القرن العشرين، كان المهاجرون يسعون لتحسين أحوالهم المعيشية والعودة للأوطان في أقرب فرصة ممكنة، لكن الهجرة امتدت لسنوات طويلة، كانت كفيلة بأن يفكر المسلمون بإنشاء كيان يوحد قوتهم وينظم صفوفهم، فأسسوا ” الجمعية الخيرية الإسلامية ” في 10 يناير 1929م بمدينة ساو باولو.

ظل حلم بناء أول مسجد في أمريكا اللاتينية يراود أذهان الكثيرين من أبناء الجالية المسلمة في البرازيل إلى أن تبنت الفكرة “الجمعية الخيرية الإسلامية”، وتمكنوا من شراء قطعة أرض في “شارع الولاية”، وأقاموا مشروع بناء أول مسجد في أمريكا اللاتينية عام 1941م، وتم وضع حجر الأساس بحضور مسؤولين من حكومة البرازيل وبعض القناصل من الدول العربية، ووجهوا رسائل للملوك والأمراء خارج دولة البرازيل في ذلك الحين للتبرع لمشروع المسجد، وقد تبرع الملك فاروق بمبلغ 500 جنيه، والأمير محمد علي باشا توفيق بشيك بمبلغ 100 جنيه.

عام 1956م قامت وزارة الأوقاف المصرية بإرسال مسؤول العلاقات الخارجية الدكتور عبد الله عبد الشكور كامل رحمه الله ليكون أول مبعوث لها إلى البرازيل وأمريكا اللاتينية، والذي باشر الإشراف على الانتهاء من تشييد المسجد، وأرسلت مصر المنبر والنجف وخطاط متخصص هو الأستاذ أحمد شديد لتزيين قبة وجدران المسجد بالخطوط العربية والزخارف الإسلامية، وتم افتتاح المسجد رسميا 20 مايو1960م، بحضور السيد حسين ذو الفقار صبري ممثلا عن المؤتمر الإسلامي  وسفراء الدول العربية والإسلامية وحاكم وعمدة مدينة ساوباولو ورجال الدين المسيحي، وقد تتابعت كلمات الحضور لتؤكد على حسن المشاركة العربية -إسلامية ومسيحية- في تشييد هذا الصرح الكبير الذي أصبح معلما حضاريا في كل أمريكا اللاتينية.

وامتد دور مسجد البرازيل من خلال القائمين عليه لتنشيط دور الجاليات المسلمة في البرازيل وجمع قوى الجالية لتأسيس المساجد والمدارس والمؤسسات التي ترعى شؤون الجالية، فتم تأسيس “المدرسة الإسلامية البرازيلية” عام 1986م في حي فيلا كارون بمدينة ساو باولو، و”المقبرة الإسلامية” بحي غواروليوس، والنادي الإسلامي بحي سانتو أمارو، وتم وضع حجر الأساس لأكثر من مسجد في أكثر من ولاية (مسجد باريتوس ومسجد برازيليا ومسجد كوريتيبا ومسجد بارانجوا ومسجد لوندرينا ومسجد ريو دي جانيرو ومسجد كولينا)، وامتد دور مسجد البرازيل ليشمل دول أمريكا اللاتينية وتشييد المساجد بها “الأرجنتين وفنزويلا وتشيلي ودول الكاريبي”.

وتعاقب على رئاسة الجمعية الخيرية الإسلامية وهي المشرفة على مسجد البرازيل كثير من الرؤساء الذين عملوا جاهدين للحفاظ على هذا الإرث الحضاري والتاريخي والعلمي، وبذلوا من الوقت والمال فجزاهم الله خيرا.

وفي عام 2014م تولى رئاسة الجمعية الخيرية الإسلامية السيد ناصر فارس فنظر إلى الماضي وتطلع للمستقبل، وتقدم بمشروع كبير للحفاظ على شكل المسجد كما تم بناؤه وقام بعمل أكبر توسعة للمسجد من خلال شراء البيوت المجاورة، وصيانة شملت جميع المرافق وأصبح المسجد يعمل على أرقى الطرق العلمية والتكنولوجية، وامتدت الصيانة لتشمل المقبرة الإسلامية حيث تم توسعتها، وكذلك المدرسة الإسلامية البرازيلية، وتكلف مشروع الصيانة 50 مليون ريال برازيلي ما يعادل 16 مليون دولار أمريكي.

وقد قامت الجمعية الخيرية الإسلامية بمنح مساحة كبيرة لتكون مقرا للمجلس الأعلى للأئمة والشؤون الإسلامية في البرازيل وهو تجمع يضم مشايخ وعلماء البرازيل، ومقرا لممثلية دار الفتوى اللبنانية، وهذا يتوافق مع رؤية رئيس الجمعية المستقبلية أن يكون مسجد البرازيل حاضنا لجميع المؤسسات والمساجد الإسلامية في البرازيل كما كان العهد في الماضي.

يؤدي مسجد البرازيل دورا علميا وثقافيا واجتماعيا هاما للجالية المسلمة والمجتمع البرازيلي، فإضافة لصلاة الجماعة توجد دروس ثابتة يومي الثلاثاء والجمعة بعد صلاة العشاء يتولاها إمام المسجد الشيخ الدكتور عبد الحميد متولي، ويحضرها عدد كبير من البرازيليين وكانت سببا في هداية أكثرهم لدين الإسلام، ويعد المسجد أنشط الأماكن داخل البرازيل في حالات اعتناق الإسلام، وتوجد 4 فصول دراسية في المباني الملحقة بالمسجد مجهزة على أرقى المستويات لتدريس اللغة العربية والثقافة الإسلامية واللغة البرتغالية والإنجليزية للبرازيليين وأبناء المسلمين.

أما على المستوى الاجتماعي فقد تم خلال السنوات الأخيرة توزيع 12 ألف سلة غذائية، 5 آلاف غطاء للبرد، ودفع إيجار40 منزلا لعائلات مسلمة بسيطة الحال، وتقديم خدمات قانونية للاجئين، وهذا النشاط يمتد للعائلات البرازيلية القريبة من المسجد.

أما على المستوى الثقافي فقد تم طباعة وتوزيع آلاف النسخ من ترجمة معاني القرآن وكتاب الرحيق المختوم، وحقق موقع مسجد البرازيل على شبكة “فيس بوك” معدلا لم تصله الكثير من المؤسسات العاملة، فقد وصل عدد المتابعين 2.700.000 وهو عدد كبير جدا أغلبهم من البرازيليين الذين يتعرفون على سماحة الإسلام وحضارته.

إن الرؤية المستقبلية والاستراتيجية للجمعية الخيرية الإسلامية تتمثل تصريح رئيسها السيد ناصر فارس في إنشاء 4 مدارس بمدينة ساو باولو، وجامعة إسلامية ووقف إسلامي يعود ريعه على إدارة المشاريع التي يتولاها مسجد البرازيل، وهذه الرؤية تحتاج لتضافر الجهود داخليا وخارجيا، والمؤسسات في العالم الإسلامي مدعوة للوقوف والمساهمة بكل قوتها للمحافظة على هذا الكيان الشامخ، وخصوصا الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف المصرية ورابطة العالم الإسلامي ودار الفتوى اللبنانية، حيث يتم استثمار تلك الجهود وآفاق التعاون المشترك لمستقبل أفضل للإسلام والمسلمين في البرازيل.

تحية حب ووفاء لكل من ساهم في رفع لواء التوحيد والعلم والثقافة والحضارة الإسلامية في البرازيل، رحم الله من سبقوا وبارك الله فيمن بقي على العهد وصابر واحتسب الأجر من الله تبارك وتعالى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى