مقالاتمقالات مختارة

مستقبل الإسلام بين منهج الرفض ومنهج الاستيعاب – د. أحمد الريسوني

مستقبل الإسلام بين منهج الرفض ومنهج الاستيعاب – د. أحمد الريسوني

وأعني بمنهج الرفض، ذلك التوجه الفكري -والسلوكي أيضاً- الذي يبالغ في إظهار المخالفة والتعادي والمفاصلة والتنافي بين الإسلام وما سواه، مما يسود في المجتمع، وفي العالم، من معتقدات وأفكار ونظريات ومواقف وتصرفات… وهو ما يجعل الإسلام يبدو وكأنه يرفض كل شيء ويدين كل شيء ويتميز في كل شيء، ويصبح كأنه يرفض الجميع ويرفضه الجميع.
وهكذا يصبح “الإسـلام” في حالة تنافر وتنافٍ مع كل شيء، ومع كل الناس…
–  رفض وصراع مع المسلمين لأنهم متمذهبون، أو لأنهم مبتدعون، أو لأنهم فاسدو العقيدة، أو لأنهم أشاعرة، أو رافضة، أو ناصبة، أو..
–  رفض وصراع مع الأنظمة وكل ما يأتي منها وما يندرج فيها…
–  رفض وصراع مع الديمقراطية والانتخابات والبرلمانات…
–  رفض وصراع مع الحريات وحقوق الإنسان وحقوق المرأة…
–  رفض وصراع مع الفنون والآداب بالجملة والتفصيل…
أنا لا أقول إن كل ذلك خطأ ولا ينبغي أن يكون منه شيء، ولكني أتحدث عن نزعة مبالغة في الرفض والتحريم والتبديع… مبالغة في المخالفة والمفارقة والمفاصلة… بل أجدني أحياناً أحدث نفسي عن هواية التحريم والتجريم…
ولهذا أصبح من الواجب المتعين إظهار الوجه الآخر للإسلام، وإظهار التوجه الآخر في الفكر الإسلامي، وهو التوجه الذي يخدم توسع الإسلام ويخدم مستقبل الإسلام، إنه الوجه الاستيعابي.

من المعلوم -أولاً- أن الإسلام استوعب الرسالات الدينية السابقة عليه، فهو لم يأت لإماتتها وإزاحتها، وإنما أمدها بحياة جديدة، فهو قد جاء من أجل إحيائها وتخليصها من التحريف والتزييف، ومن الآصار والأغلال، يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.

فالإسلام وارث الشرائع السابقة ومستوعب لها.

وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “وكان رسول الله يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به”.
وفي صحيح مسلم أيضاً، من نماذج الوجه الاستيعابي في الإسلام، ما رواه “عن عبد الملك بن شعيب بن الليث، حدثني عبد الله بن وهب، أخبرني الليث بن سعد، حدثني موسى بن علي عن أبيه قال: قال المستورد القرشي عن عمرو بن العاص: سمعت رسول الله يقول: “تقوم الساعة والروم أكثر الناس، فقال له عمرو: أبصر ما تقول، قال: أقول ما سمعت من رسول الله، قال: لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك”.
وكلها صفات مسوقة مساق المدح والثناء والدعوة إلى الاقتداء، مع أن هؤلاء خصوم ومنافسون تاريخيون للإسلام والمسلمين!
من جهة أخرى فإن الإسلام حين تنزل في عرب الجاهلية، بكل ما نعرفه من وثنيتهم وسائر قبائحهم، لم يعمد إلى محو آثارهم واستئصال عاداتهم وأعرافهم، والتشطيب على كافة نظمهم ومعاملاتهم… لم يعتبر ذلك كله شراً ورجساً وجاهلية، بل أقر من أخلاقهم وأعرافهم ونُظم حياتهم الشيء الكثير، سواء كانت أصوله دينية نقلية أو فطرية كسبية، فكل ذلك من سنن الله في هداية خلقه.

ومن لطائف السنة ونفائسها في هذا الباب ذلك الحديث الطويل المعروف بحديث أم زرع، وهو حديث قال عنه القاضي عياض “لا خلاف في صحته وأن الأئمة قد قبلوه، وخرجه في الصحاح البخاري ومسلم فمن بعدهما”، وخلاصته أن إحدى عشرة امرأة من نساء الجاهلية جمعهن مجلس لهن، فاتفقن على أن تتحدث كل منهن عن خصال زوجها وماله وما عليه، واتفقن على أن يكون حديثهن صدقاً لا كذب فيه، ثم تحدثن بذلك كلهن، وكانت آخرهن هي “أم زرع” ذات التجربة الشيقة مع زوجها السخي الكريم “أبي زرع”، وهي التي سمي الحديث باسمها.
وفي هذا الحديث أن رسول الله قال لعائشة رضي الله عنها: “يا عائشة كنت لك كأبي زرع لأم زرع، فقالت عائشة: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، بل أنت خير لي من أبي زرع”… .
وقد أفرد القاضي عياض هذا الحديث بشرح خاص سماه (بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد).

قال القاضي رحمه الله عن هذا الحديث “وفيه من الفقه جواز الحديث عن الأمم الخالية، والأجيال البائدة، والقرون الماضية وضرب الأمثال بهم، لأن في سيرهم اعتباراً للمعتبر، واستبصاراً للمستبصر، واستخراج الفائدة للباحث المستكثر.
فإن في هذا الحديث –لا سيما إذا حُدث به النساء- منفعة في الحض على الوفاء للبعولة، والندب لقصر الطرف والقلب عليهم، والشكر لجميل فعلهم، كحال أم زرع وما ظهر من إعجابها بأبي زرع، وثنائها عليه وعلى جميع أهله، وشكرها إحسانه لها، واستصغارها كل شيء بعده… مع ما فيه من صبر الأُخر اللاتي ذممن أزواجهن والإعلام بما تحملنه من سوء عشرتهم وشراسة أخلاقهم، لتقتدي بذلك من النساء من بلغها خبرهن في الصبر على ما يكون من الأزواج وتتأسى بمن تقدمها في ذلك”.

وأورد القاضي عياض قول الفقيه المالكي المهلب بن أبي صفرة عن هذا الحديث “فيه من الفقه جواز التأسي بأهل الإحسان من كل أمة…” ثم علق عليه قائلا “وأما قوله بجواز التأسي بأهل الإحسان من كل أمة فصحيح ما لم تصادمه الشريعة “.

وبهذه الروح المتفتحة وبهذا المنهج الاستيعابي، تعامل المسلمون –من الصحابة فمن بعدهم- مع الثقافات والحضارات والتجارب البشرية التي لاقوها واحتكوا معها، من رومية وفارسية ومصرية وهندية وصينية ويونانية وغيرها، فقد أوسعوا لها قلوبهم وعقولهم، فأخذوا وردوا وترجموا واستفادوا…

ونحن حينما نكون مسلحين بإيماننا وواثقين بأنفسنا، يجب أن نكون مع الديمقراطية والديمقراطيين، بل في طليعتهم، وحينما نكون محصنين بأخلاقنا وقيمنا، يجب أن نكون مع الحداثة والحداثيين، ونحن حين نتشبع بمقاصد الإسلام في العدالة والكرامة، لا يسعنا –مبدئياً- إلا أن ننخرط في حركة حقوق الإنسان، ونقف مع كافة المظلومين والمستضعفين، من مسلمين وغير مسلمين.

ونحن اليوم يجب أن نفتح حوارات وعلاقات مع أرباب الديانات الأخرى، وفي مقدمتها الديانة المسيحية بمختلف مذاهبها وكنائسها، لنتفاهم ونتعاون على تثبيت المعتقدات والقيم المشتركة، وعلى إنجاز الأهداف المشتركة، ومواجهة الأخطار المشتركة، ولقد كان للكنائس الفرنسية مؤخراً موقف تاريخي مشكور، حينما عارضت منع المسلمات في فرنسا من ارتداء الحجاب، وراسلت الرئيس الفرنسي بذلك، وكان للبابا يوحنا بولس الثاني موقف جيد في هذا الاتجاه أيضاً.

نحن اليوم –ومستقبلاً- بحاجة إلى أن نقوي ثقتنا في نفوسنا وثقتنا بديننا، بقوته الذاتية، وبقدرته الاستيعابية، وبأنه لا يمنعنا أبداً من أن نتحاور ونأخذ ونعطي، ولا يمنعنا أبداً –بل يوجب علينا- أن نبصر ما عند غيرنا من خير وحق ومن فضل وسبق، وأن نمدحهم عليه وننافسهم فيه، ونستعين بهم عليه، واثقين في الوقت نفسه بأحقية دين الإسلام وشريعة الإسلام، وأنه رحمة الله وهداه وعدله بين عباده، وأنه لذلك يعلو ولا يعلى عليه.

(المصدر: مؤسسة رؤية للثقافة والإعلام)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى