مساجد الضرار وصناعة الفتن
بقلم د. عبدالله العمادي
البحث عن الفتن من أجل المشاركة فيها، أو صناعتها أو تأجيجها في المجتمعات، ليس عملاً جديداً في تاريخ البشر، بل كان وما زال أسلوب حياة عند البعض يتكسب من وراء ذلك، أو عمى بصيرة لا يستقر له بال حتى يرى المجتمع الذي يعيش فيه منقسماً على نفسه، أو رغبة في أن تعلو راية الباطل وزمرته وتنتكس راية الحق وأهله. وفي التاريخ الكثير من النماذج التي لن أتجول بينها كلها بالطبع، لكن تكفيني الفئة المنافقة التي ما إن ظهر شأن الإسلام في بداياته، إلا واشتغل في صناعة الفتن وتأجيجها، حتى صارت سنّة سيئة تتجدد في كل زمان ومكان من حينها حتى يوم الناس هذا..
نحمد الله أن القرآن أوضح في حينها دواخل تلك الفئة الضالة المضلة، وإلا ما كانت لدى الفئة المؤمنة تلك القدرات والوسائل على كشفها، حتى إذا ما بدأت الآيات تتنزل على رسول الله – صلى الله عليسه وسلم – بدأت تتشكل بدايات منهج كشف النفاق وألاعيب ووسائل أهله، وبدأت تتراكم عبر الزمن الخبرات والتجارب لتتحول إلى ذخيرة مهمة يستعين بها كل من تحيط به فئة منافقة، في أي مكان وزمان.
لقد ابتغوا الفتنة من قبل، وقلبوا لك الأمور.. هكذا كشف القرآن الكريم للنبي – صلى الله عليه وسلم – ما يُحاك ضده وأصحابه الكرام، كما قال ابن كثير في تفسيره:”.. قد أعملوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخذلان دينك مدة طويلة، وذلك أول مقدم النبي – صلى الله عليه وسلم – المدينة. رمته العرب عن قوس واحدة، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها. فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته، قال عبد الله بن أبي وأصحابه: هذا أمر قد توجه. فدخلوا في الإسلام ظاهراً، ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم؛ ولهذا قال تعالى (حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون).
في مشاهد غزوة تبوك تظهر لك ملامح الضعف والتكاسل عن المهام عند المسلمين، لكن الأخطر هو مشهد تغلغل الفئة المنافقة بين الصفوف.. وآيات كثيرة من سورة التوبة، تكشف لك ما كان يجري في تلك الأثناء. ومن هنا – كما يقول سيد قطب في ظلاله:” بدأ الحديث عن الطوائف التي ظهرت عليها أعراض الضعف في الصف. وبخاصة جماعة المنافقين، الذين اندسوا في صفوف المسلمين باسم الإسلام، بعد أن غلب وظهر، فرأى هؤلاء أن حب السلامة وحب الكسب يقتضيان أن يحنوا رؤوسهم للإسلام، وأن يكيدوا له داخل الصفوف بعد أن عز عليهم أن يكيدوا له خارج الصفوف “.
بدأت مسيرة النفاق وصناعة الفتنة ضد الإسلام والمسلمين من لدن صانع النفاق الأول في دولة الإسلام ومؤسسه، عبدالله بن أبي بن سلول، الذي كان يجهز نفسه ليكون ملكاً على المدينة، فكانت هجرة الرسول الكريم بالنسبة له طامة كبرى، وتبديداً لحلم كان يعد لتجسيده طويلاً، فانتكس منذ ذلك الحين.
لم يعجبه الأمر ولم يستسيغه أبداً، لكنه أضعف من أن يقف أمام تيار التغيير القوي الحاصل بالمدينة يومذاك، فكان أن خضع وطأطأ برأسه لكن إلى حين. فكان ما كان من أمره ودخول الإسلام نفاقاً، وفي الوقت ذاته عمل على وضع أسس هدم وخلخلة البنيان الإسلامي الذي بدأ يقوى أكثر فأكثر. وقصص خذلانه للمسلمين عديدة، منها يوم أحد وسحبه ثلث الجيش إلى المدينة، ومن ثم تخلفه عن جيش تبوك وبث روح التكاسل والهوان بين الجيش، ثم أعظم من ذلك كله، التعرض للسيدة عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك المشهورة، وغيرها من أفعال مخزية لكنها مزلزلة.
عبدالله بن أبي لم يكن فرداً، بل بذرة خبيثة لظاهرة بدأت صغيرة فترعرعت ونمت ثم استفحلت. تشق طريقها بكل الوسائل المتاحة. تقوى حيناً وتخفت حيناً آخر، لكنها لم تنته أو تتوقف إلى يوم الناس هذا. فأينما التفتّ يمنة أو يُسرة، ستجد منافقاً أو شلة منافقين، بصورة وأخرى. تعددت أهدافهم وتنوعت، لكن منهجهم واحد، هو بث الفرقة وروح الهوان والهزيمة في النفوس، مع إكمال مسيرة ابن أبي في خذلان المسلمين أينما كانوا.
اليوم اشتد عود المنافقين وقويت شوكتهم ولم يعودوا في حاجة إلى الاختباء والخفي من العمل. سرائرهم وبواطنهم صارت ظاهرة علانية. لا خوف يسيطر عليهم ولا رادع يردعهم. أينما وجهت وجهك، للشرق أو الغرب، الشمال أو الجنوب، ثم رأيت انتكاسات وهزائم نفسية ومادية بين المسلمين، فثق أن لتلك الشلة المنافقة، الظاهرة منها أو التي ما زالت باطنة، دورها المؤثر البالغ العميق.
المنافقون يدركون خطورة وصعوبة حرب الإسلام كدين، والظهور أمام الملأ بمظهر المحاربين للدين، لكن تجدهم يحاربون أهله، ويبثون من الأراجيف والشائعات ما يوهنون بها النفوس والعزائم، ويبذلون الجهد في شق الصفوف وخلخلتها. لا يهتم أحدهم بضياع وطنه أو جيل من شعبه.
لولا خطورة هذه الفئة، ما وجدت سورة كاملة في القرآن باسمهم. ولولا خطرهم ما وجدت آيات كثيرة في القرآن تحذر الأمة منهم. فهم – كما أسلفنا – ليست قصة تاريخية ظهرت واندثرت، بل قصة بدأت منذ بدء الإسلام وإلى يومنا هذا.
خطورتهم كامنة في قدرتهم على تزييف الحقائق والوقائع دون أن يدرك ذلك كثيرون، ثم قدرتهم على استخدام الوسائل التي تظهر في أعين الكثيرين أنها سليمة وشرعية، في هدم الأصول.. ألم يجتهد المنافقون في بناء مسجد الضرار، وقد تظاهروا أنه للعبادة وإيواء المحتاجين من المسلمين، فيما الهدف الحقيقي من بنائه أن يكون مركزاً يجتمع فيه المنافقون للتآمر على المسلمين، حتى أوحى الله لنبيه بذلك فأمر – صلى الله عليه وسلم – بهدمه وحرقه، كي يقطع شرهم وهو في المهد وقبل أن يستفحل ويتعاظم.
اليوم تكثر مساجد الضرار أينما وليت وجهك، حيث التآمر على الإسلام والمسلمين وبأيدي من يسمون أنفسهم مسلمين، سياسيين كانوا أم مفكرين أم إعلاميين أم أصحاب لحى، وأشباههم كثير كثير. إذ تنشط تلك المواقع بمعية غير المسلمين في صناعة الشرور والمآسي في صور وأشكال متعددة متنوعة. وعلى رغم أنها لم تعد خافية، ولا يحتاج الأمر إلى وحي سماوي لكشفها، إلا أن الفرق بين مسجد الضرار في ذاك الزمان، ومساجد الضرار في هذا الزمان، أنك لا تجد من يتنبه لها، وإن وجدته، فإنه لا يدعو لهدمها. وكما قيل بأن معظم النار من مستصغر الشرر، فإن شرر النفاق، صار ناراً تحرق الأخضر واليابس في أمة المسلمين. وأي دندنة حول هذا، لا تحتاج لكثير شروحات وتفصيلات.. لكن الله بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(المصدر: صحيفة الشرق الالكترونية)