مقالاتمقالات مختارة

مسألتان في الحسابات الجارية تخريجا وزكاة (قراءة جديدة 10)

مسألتان في الحسابات الجارية تخريجا وزكاة (قراءة جديدة 10)

بقلم د. فضل مراد

المسألة الأولى: الحساب الجاري وإشكالية التخريج..

القول بأن الحساب الجاري يخرج على أنه قرض ضعيف ، وسبب التشبث بمثل هذا الضعف هو التمسك بالعقود المتقدمة كأصل تدور عليه معاملات الدهور المتقدمة والمعاصرة ، وهذا المنزع أدى إلى أقوال عجيبة واضطرابات فقهية بين بحاثة العصر.

والصحيح أن تعرض المسألة على المؤثرات الستة الحاكمة للماليات وقد بسطناها في باب الماليات وعرفناها باستقراء تام لأصول المعاملات من الكتاب والسنن وبيناها في المقدمة في فقه العصر.

وسنبسطها في موسوعة معالم الاجتهاد في فقه العصر التي آثرنا أن نخرجها تباعا إن شاء الله، فإن وجد واحد منها في المعاملة وجودا يقينيا أو ظاهرا قضينا به بحسب ذلك الوجود.

والاستقراء التام أصل لا بد منه لمن أراد تمحيص النظر وهذه المؤثرات ت هي:

– الربا

– تحريم عين السلعة أو عين العقد

– القمار والميسر

– الغرر والجهالة الفاحشة

– اختلال الرضى

– الضرر العام أو الخاص

وإنما قلنا يقينا أو ظاهرا حتى لا يقفز متهور إلى دائرة التحريم بمجرد الهوس في بنائية النظر لديه.

وما أكثر ما حرم هذا ما أحل الله وشدد ما يسر الشرع وعسر ما سهلته الشريعة المطهرة.

وعلى ما تقدم فالحساب الجاري عقد مستجد معاصر بين طرفين قائم على التسهيل والضمان.. وانظر إلى من خرجه على القرض فإنه يشكل عليه المنافع التي يجرها الحساب الجاري لأن يحرم أن يجر القرض منفعة على المقرض.

ويتزلزل التخريج في مسألة الزكاة حيث يجعل من زكاة الديون ليس دينا على أي من مذاهب أهل الاسلام لهذا اضطروا إلى القول بأن تلك المنافع من شيكات وخدمات ورسوم مقابل عمولات خدماتية إدارية.

“ولحرج المسألة قالت منظمة الأيوفي في المعايير أن ذلك جائز ما لم يكن ملحوظا أو مشروطا”.

قلت هذا القيد لا معنى له لأن أي حساب لابد فيه من هذه الخدمات ملحوظة أو مشروطة عرفا، فلا فائدة من هذا القيد سوى تسويد الصفحات بما لا طائل تحته ولو جعلوا عقدا تسهيلا مستجدا مستقلا ما ألجأتهم أنظارهم إلى هذه المضايق.

بل من الأمور العجيبة أن المجمع الفقهي قرر أن القبض عبر التحويل البنكي إلى الحساب هو قبض حكمي يقوم مقام القبض الحقيقي باليد.. قلت إذا كان ما في الحساب البنكي مقبوضا فكيف قلتم إنه دين والدين لا يسمى دينا وهو مقبوض في يد مالكه

سارت مشرقة وسرت مغربا        شتان بين مشرق ومغرب

وصدق عمرو بن أمية

أَيُّها المُنكِحُ الثُرَيّا سُهَيلاً    عَمرَكَ اللَهَ كَيفَ يَلتَقِيانِ

هِيَ شامِيَّةٌ إِذا ما اِستَقَلَّت    وَسُهيلٌ إِذا اِستَقَلَّ يَمانِ

ولهذا يمكن تعريف الحساب الجاري بأنه عقد مالي بتوريد نقد في بنك على جهة الضمان لتسهيل التصرف به زمانا ومكانا.. والله أعلم

المسألة الثانية: زكاة الحساب الجاري

وعلى هذا فزكاته زكاة الأموال المقبوضة المضمونة لا زكاة الديون ولو كان مالك هنا أو الشافعي لتعجب من تخريجه على القرض وعجز فقهاء العصر عن إيجاد ماهية معاصرة تجمع بين عدد من العقود.

وإن قلنا تنزلنا أنه دين فهو في حكم المقبوض لأن القبض في الحساب البنكي قبض حكمي كالقبض الحقيقي باليد. فزكاته زكاة ما في اليد من الأموال.

والزكاة فرض على مالكه وهو صاحب الحساب سواء كان استثماريا أم جاريا ويخرجه البنك عنه بالوكالة.

وقول بعض الفضلاء إن الزكاة ليست فرضا على المالك بل على البنك لأنه هو المتصرف وملك المالك ضعيف فلا تجب فيه الزكاة لعدم التصرف بدعة لم تطن بها أذن الدهر لا في المتقدمين ولا في المعاصرين لا من أهل الاجتهاد ولا من المجامع.

فجعل البنك مالكا بمجرد تصرفه في المال وأضعف الملك عن المالك لعدم تصرفه مع أنه لا علاقة للتصرف بالملك إذ له طرق خمس متى حصلت دخل الملك بها وتم (بيناها في كتاب المقدمة في فقه العصر). وهذا التعليل منقوض طردا وعكسا.

فانظر إلى الولي فإنه يتصرف عن الصبي والسفيه ولم يقل أحد من أهل الاسلام أن ملك الصبي ضعيف وأن ملك السفيه ضعيف ، بل أجمعوا أن الزكاة في مال السفيه مع أنه لا تصرف فيه.. وإنما خلاف أبي حنيفة في زكاة مال الصبي لعلة الصغر لذلك قال أن في ماله الزراعي زكاة ولم يقل أحد بضعف ملكه لضعف تصرفه وأنت ترى أن الولي والوكيل يتصرفان في المال ولم يقل أحد بملكه عليه بسبب هذا ولم يقل أحد بتضعيف الملك لمن ذكرنا.

ومن مسائل العصر ملك المغمى عليه طويلا تحت أجهزة الانعاش فهو ثابت مستقر ولم يقل عالم أنه لا زكاة في ماله لأنه لا يتصرف فيه بل نص الحنفية وغيرهم على أن ابن السبيل عليه زكاة في ماله الذي في بلده مع أنه لا يتصرف فيه فهذا القول منقوض طردا وعكسا وما كان كذلك فلا يصح علة ولا شرطا لأن آية العلة والشرط الثبات وسبب هذا الخطأ هو أنهم رأوا استعمال بعض الفقهاء هذا المصطلح فظنوا أنهم استعملوه على الأطلاق وهذا خطأ فادح وإنما استعمل بعض الفقهاء هذه العبارة  في مسائل بعينها كمسألة الوقف فهي عند الحنفية لا زكاة فيه  لأن الملك عندهم انتقل لله مطلقا وقالت المالكية بل الملك انتقل للموقوف وقالت الحنابلة كذلك في وجه والشافعية واتفق الثلاثة على زكاة الوقف لمعين وإنما خالفت الشافعية في الوقف لغير معين ومعهم الحنابلة لأن المالك مجهول لا لضعف الملك.

وفي عصرنا يمكن تعيين المستحقين في الجهات الوقفية بكشوفات وبيانات معاصرة رقمية فصار مذهب الشافعي وأحمد اليوم لا يمكن القول به لأن العلة انتقضت ، وكذا قالوا بضعف الملك في مسألة زكاة مال المكاتب لاختلافهم هل يملك أم لا ، واختلفوا متى يزكي المقبوض دفعة مقدما من مال الإجارة لاختلافهم في استقرار ملكه عليه لإنه قد يفسخ العقد وقال احمد بل ملكه تام  وهو ما نختاره ونرجحه فهذه مسائل معينة قصد بها من نص من الفقهاء على  استقرار الملك فاستعملها بعض المعاصرين خطأ بشطل عام في عموم الديون.

لذلك الشافعية أنفسهم مع شرطهم هذا في مسائل يقولون بالزكاة في كل الديون المرجوة حالا و  الميوسة لو قبضها زكاها لما مضى ومعهم الحنابلة والحنفية وكذلك المالكية في زكاة الديون التجارية المدارة حالا كل عام مع ماله فإن كانت غير مرجوة زكاها لما مضى من السنين.

ولم يقل أحد منهم أن العلة هي ضعف الملك بل ملكه تام، لكن لا يجب عليه الاداء حالا حتى يقبضه وهذا من عدل الشرع فلم ينزلوا استقرار الملك على الديون البتة.

وقد تتبعت سائر مصنفاتهم المتقدمة والمتأخرة التي استطعت الوصول إليها فلم أجدهم يقولون أن ملك صاحب الدين ضعيف لا زكاة عليه بل اتفقوا على الزكاة عليه وإنما خلافهم متى يزكي وهذا من النظر العادل.

بل نص الشافعية على زكاة المغصوب والمفقود فيزكيه لما مضى عند قبضه ومثلهم الحنابلة والمالكية إلا أنهم قالوا يزكيه لعام واحد نظرا لأن عندهم أصل أهل المدينة في هذا لا لضعف الملك وإنما لم يقل الحنفية بزكاة المغصوب والمسروق عند مجهول ونحوه لأن عندهم نص في استثنائه عن علي لا زكاة في مال الضمار… وهم يعملون بمذهب الصحابي ويجعلونه مخصصا لعمومات النصوص لذلك خالفهم زفر ورد عليهم وهو حنفي مع أن هذا ليس له أصل عن علي في أي كتاب من كتب السنن والآثار لذلك قال الزيلعي غريب على عادته في كل ما ليس له أصل وقد أقر ابن الهمام بذلك.

فالمال الضمار عندهم ليست الديون ولو ميؤوسة بل المال الضمار هو المغصوب ولا بينه والمسروق عند مجهول والذي ضاع في البحر أو الصحراء وهذا يظهر خطأ بعض المعاصرين في تنزيل شرط الملك التام على مسائل الديون

بل زعم أن الدين ليس بمال وهذا باطل لا شك فيه بل سماه الله مالا في قوله تعالى: (فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم) ، وقوله: (وإن كان ذو عسرة فنظرة) فسمى الدين مالا بالنص كما سماه في قوله تعالى وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس

وقد أجمع الصحابة على زكاة الدين عملا بالعموم وقد تتبعت جميع ما نقل عنهم وحررت أسانيدها ولم يصح عنهم خلاف في ذلك ، وما نقل عن عائشة وابن عمر فلا يثبت عنهم بل روي خلاف ذلك.

وإجماع الصحابة كان إجماعا قوليا بأمر عمر الذي عممه على الأمصار وبأمر عثمان الذي عممه على الأمصار فصار قولا وعملا مستقرا مستمرا ، وهكذا زمن علي فهؤلاء ثلاثة خلفاء ولم ينقل عن صحابي واحد الإنكار عليهم مع انتشار أوامر الخلفاء في عموم البلاد طولا وعرضا وإنما استند الخلفاء إلى عموم خذ من أموالهم وإلى جميع عمومات الزكاة والدين مال

فمن أخرجه من المالية لزمه الدليل وقد قدمنا لك الدليل من القرآن أنه مال.

والحاصل أن الحساب الجاري ليس بدين بل عقد معاصر جديد تقدم ضبطه ولو كان دينا فهو يزكى على قول الخلفاء الثلاثة وأمرهم الناس به بلا خلاف ويزكي على قول جميع المذاهب ولا يرد خلاف مالك هنا لأن خلافه في الدين الحقيقي المدني خارج التجارة المدارة وهذا ليس دينا تخريجا على مذهبه وأصوله.. بل حتى تخريجا على قول الظاهري ابن حزم لأن هذا عنده ليس بدين أصلا لا عنده ولا عند غيره من المذاهب الإسلامية إذ الدين معروف في الشرع ما هو؟ وإنما انفرد المجمع الفقهي بهذا القول مخالفا لضبط الفقه الإسلامي في ماهية الدين وحقيقته العرفية بسبب أنهم لما نظروا في كون الحساب الجاري مضمونا قالوا ليس هكذا إلا الدين..

ولو أنهم قالوا أنه عقد تسهيلي معاصرة قائم على المضمونية لما كان في ذلك بأس فليس الفقيه ملزما بموافقه صورة ما.

وانظر إلى الاستصناع فإن فيه شبها من عدة عقود وهكذا البطاقة البنكية والإجارة المنتهية بالتمليك ومع ذلك لم تلحق بعقد معين بل أصدر بها قرار مستقل وتخريج مستقل لأن العقد قد يجمع صورا من غيره كالمضاربة فإن فيها معنى الشركة وفيها معنى الوكالة والإجارة ولم يضطر أحد من الفقهاء المتقدمين أن يلحقوها بأي نوع بل أعطوها اسما وشروطا مستلقة.

وبالله التوفيق

  • تنبيه: المراجع ممهورة في الأصل

المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى