مقالاتمقالات مختارة

مرض العصر

مرض العصر

بقلم عبد العزيز مصطفى الشامي

المرض حالة غير سوية تصيب الإنسان فتؤثر فيه بضعفٍ في قواه أو إقعادٍ عن السعي، أو قد تؤدي به إلى الغياب القسري والرحيل عن الدنيا. وإذا خسر الإنسان عمره فقد خسر رأس ماله كله، وضاع منه أغلى ما يملك؛ إذ الأيام مطايا للأعمال، والدقائق والثواني مراحل يطويها ابن آدم أو تُطوى منه دون إدراك أو تمييز.

وإن من أسوأ أمراض العصر – لا في الأبدان وإنما في القلوب والأرواح – مرض الغفلة، والغفلة تعني: أن يضيع من الإنسان شيء كبير من وقته في ما لا طائل من ورائه ولا جدوى منه؛ فيظل في يومه وليله مضيعاً لأفضل ما يملك، من صحته وجهده ووقته في غير ما ينفعه، ولا يفيد أمته، ولا يعود عليه وعلى من حوله بالخير.

إن قلَّة التبصُّر والاعتبار بما يقع من أحداث، وعدم تأثُّر الإنسان بالآيات والعبر التي تجري من حوله، والركون إلى الدنيا والاطمئنان بها، والثقة بالنفس والاعتماد على الأسباب وحدها، كل ذلك من معاني الغفلة.

إن الغفلة تعمي القلب وتصم النفس وتعمي الروح عن التطلع في آيات الكون المقروءة والمنظورة، فتسكن اليبوسة في النفس، ويقل تطلع الروح للمثل الأعلى، وتضمحل في الأرواح الآمال العظيمة كـ {وَعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]، وعندها تسكن الشهواتُ النفوسَ وتكون هي غاية الأجساد، وأقصى آمال التراب المتحرك أن يملأ من الدنيا شهواتها ورغباتها، وآمالها وأموالها، ونسائها وأراضيها وقصورها… ولا تنقطع الآمال بابن آدم فلا يفيق إلا على معاينة صفحة وجه ملك الموت، وصدق ربنا – سبحانه وتعالى -: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: ٢٢].

الغفلة نزيف العمر وإيدز الأرواح:

إذا كان المريض بمرض فَقْد المناعة (الإيدز) يصير جسده بعد فترة من المرض مفتحاً؛ تتكالب عليه الجراثيم وتسكنه الفيروسات وتبدو عليه التقرحات والأوبئة الظاهرة منها والباطنة، فكذا تصير روح الغافل بعد مرور مدة من الغفلة؛ لا يشعر بانتعاش الروح وسرور النفس ولذة القرب والمناجاة، يفرح للدنيا، ويحزن لها، ويعطي لها، ويوالي ويعادي عليها، وعندما تستحكم الغفلة يرى المنكر معروفاً والمعروف منكراً، ولا يفرق بينهما إلا بما أُشرِب من هواه.

لقد لجأ كثير من الناس في هذا الزمان إلى الحمية والوقاية من المهالك في الأبدان والأموال، وسلكوا كل سبيل ينجِّي أبدانهم وأموالهم وأولادهم، وغفل كثير منهم عن حمية الروح ووقاية النفس من أسباب الخسران؛ فولج كثير منهم أبواب الغي ثم لا يُقصرون، وأتوا بغرائب الذنوب وعجائب الآثام في شتى شؤون حياتهم؛ في أفراحهم وأحزانهم، وسائر أعمالهم وعلاقاتهم في الأعمال والبيوت وغيرها، وتأتيهم الموعظة من ربهم من كل مكان وكل حين {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49]؛ عبر خطبة يسمعونها، أو حكمةٍ تُلقَى إليهم، أو عبرةٍِ من حادث، أو موت قريب أو صديق، ومع كِبَر عمر الإنسان يسمع كل فترة يسيرة عن موت فلان، وحادثة لفلان، حتى يضرب الموت بأطنابه في بيته، فيصيب الموت زوجه أو أخاً أو ابناً له، حتى يشعر بفقد هذا القريب كأنه قد فَقَد بعضه، وسُلب شيئاً من جسده، ويبدأ في العظة والاعتبار، وينظر لنفسه. ويا ليت هذا الأمر يدوم ويستمر؛ فلعله ينتفع بالموعظة ويصلح الله حاله وهو القائل – سبحانه وتعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد: 11]؛ وإنما هي أيام ويعود إلى سيرته الأُولَى، وتلك هي الغفلة!

وإذا نظر كلٌّ منا في حاله وجد نفسه غافلاً؛ فقد تمرُّ عليه أوقات طويلة وربما ساعات لم يحرك فيها لسانه بذكر ربه وسيده ومولاه، وقد يجلس مجالس طويلة يتحدث في أمور كثيرة وفنون متعددة. وانشغل الناس وغفلوا، ولو سألت أحدهم ما معنى اسم الله (الصمد) في السورة التي يصلي بها، أو سألته عن معنى {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَبَ} [الفلق: ٣]؟ قد لا يعرف لماذا؟ هي الغفلة التي تحيط بالإنسان فقد يضيِّع الساعات أمام الشاشات وفي الأعمال، وقد يبحث عن الدراما وغيرها مما يزيده غفلة، وما أطول الرقاد في القبور.

الغفلة ونسيان الله:

إن غفلة النفوس عن ربها وسيدها ومولاها ومن لا غنى لها عنه طرفة عين هو أسرع طرق الغبن والخسارة، والله – تعالى – حذَّر عباده من الغفلة عن الذكر وعمل الخير النافع للعباد والبلاد في الدنيا والآخرة، فقال – تبارك وتعالى -: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19]، وأقبح النسيان نسيان الخالق المنعم المتفضل؛ الذي يتقلب العبد في خيره وأفضاله ونعمه ومننه كلَّ طرفة عين، وهي التي لا يحصيها العباد عدّاً فضلاً عن أن يشكروها. يقول سيد قطب – رحمه الله -: «وهي حالة عجيبة، ولكنها حقيقة. فالذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشده إلى أفق أعلى، وبلا هدف لهذه الحياة يرفعه عن السائمة التي ترعى. وفي هذا نسيان لإنسانيته، وهذه الحقيقة تضاف إليها أو تنشأ عنها حقيقة أخرى ، وهي نسيان هذا المخلوق لنفسه فلا يدخر له زاداً للحياة الطويلة الباقية ، ولا ينظر في ما قدَّم لها في الغداة من رصيد»[1].

وقال – جل وعلا -: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْـجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]. قال سيد قطب أيضاً – رحمه الله -: «… الغافلين عن ذكر الله لا بالشفة واللسان، ولكن بالقلب والجنان. الذكر الذي يخفق به القلب؛ فلا يسلك صاحبه طريقاً يخجل أن يطلع عليه الله فيه؛ ويتحرك حركة يخجل أن يراه الله عليها، ولا يأتي صغيرة أو كبيرة إلا وحساب الله فيها.. فذلك هو الذكر الذي يرد به الأمر هنا؛ وإلا فما هو ذكر لله، إذا كان لا يؤدي إلى الطاعة والعمل والسلوك والاتباع. اذكر ربك ولا تغفل عن ذكره، ولا يغفل قلبك عن مراقبته؛ فالإنسان أحوج أن يظل على اتصال بربه، ليتقوى على نزغات الشيطان»[2].

كم من حسرات في بطون المقابر!

لقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الغفلة عن الواجبات الشرعية في أحاديث، منها: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ»[3]. ومن الغبن ألا يقدِّر الإنسان ما في يده ولا يعرف قيمته على الحقيقة، وقد ضُربَت الغفلة على كثير من الخلق من هذين البابين، فقد ترى الإنسان في جانب الوقت: إما أنه فارغ عاطل، أو بلغ سن التقاعد يكاد الفراغ يقتله لا يجد ما يملؤه به من عمل نافع! وآخر يعمل معظم يومه وليله يكد كدّاً عجيباً! فالأول قد غُبِن في وقته والآخر غُبِن أيضاً، وكذا في جانب الصحة؛ فقد ينعِم الله على إنسـان بالصـحة والعافية والرجولة فيسـتغلها في معاصيـه لا مراضيه فهو مغبون، والآخر لا يجد قوة ولا يستطيع سبيلاً فيشعر بالغبن والضعف النفسي والجسدي.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِي صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ، تَأْمُلُ الْبَقَاءَ وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلاَ تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا وَلِفُلاَنٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ»[4].

ومن الحديث أن يعمل المرء في صحته وعافيه ولا يمهل ولا يهمل حتى إذا نزل به الموت فكر في الصالحات، فيقول: أعطوا فلاناً كذا… وصدق ربنا إذ يحذر من هذه الغفلة المطبقة فيقول: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْـمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِـحِينَ 10 وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 10 – ١١]. يفيق من الغفلة عند الموت ويتمنى التزود من الصالحات ولكن هيهات هيهات بعد أن أطبقت الغفلة سنين عدداً يجيء طالباً العودة والأوبة ولا حرج على فضل الله، ولكن الموت ساعة مضروبة وآجال معدودة، وكم من حسرات في بطون المقابر!

وفي مشهد رائع يوجه النبي صلى الله عليه وسلم زوجته أم حبيبة إلى شيء رائع في الدعاء؛ فقد قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ – رضي الله عنها -: (اللَّهُمَّ! مَتِّعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكِ سَأَلْتِ اللَّهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ وَآثَارٍ مَوْطُوءَةٍ وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لاَ يُعَجِّلُ شَيْئاً مِنْهَا قَبْلَ حِلِّهِ وَلاَ يُؤَخِّرُ مِنْهَا شَيْئاً بَعْدَ حِلِّهِ، وَلَوْ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ لَكَانَ خَيْراً لَكِ»)[5].

وهذا توجيه رائع أن لا يغفل المرء في سائر أقواله وأعماله عمَّا ينفعه، ولا يغفل في أشياء قد لا تفيده. فهذه أم حبيبة لما انشغلت بالدعاء في أمور مقطوعة مقسومة وجهها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الانتباه إلى الأَوْلى والأفضل في الأعمال.

وعن ابْنَ مَسْعُودٍ – رضي الله عنه – قَالَ: (مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلاَمِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الآيَةِ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16]  إِلاَّ أَرْبَعُ سِنِينَ)[6].

قال سيد قطب – رحمه الله -: «إنه عتاب مؤثر من المولى الكريم الرحيم؛ واستبطاء للاستجابة الكاملة من تلك القلوب التي أفاض عليها من فضله؛ فبعث فيها الرسولَ يدعوها إلى الإيمان بربها، ونزَّل عليه الآيات البينات ليخرجها من الظلمات إلى النور؛ وأراها من الآيات في الكون والخلق ما يبصِّر ويحذِّر.

عتاب فيه الود، وفيه الحض، وفيه الاستجاشة إلى الشعور بجلال الله، والخشوع لذكره، وتلقِّي ما نزل من الحق بما يليق بجلال الحق: من الروعة والخشية والطاعة والاستسلام، مع رائحة التنديد والاستبطاء في السؤال {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْـحَقِّ} [الحديد: 16] وإلى جانب التحضيض والاستبطاء تحذير من عاقبة التباطؤ والتقاعس عن الاستجابة، وبيان لما يغشى القلوب من الصدأ حين يمتد بها الزمن بدون جلاء، وما تنتهي إليه من القسوة بعد اللين حين تغفل عن ذكر الله، وحين لا تخشع للحق : {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]. وليس وراء قسوة القلوب إلا الفسق والخروج.

إن هذا القلب البشري سريع التقلب، سريع النسيان. وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور، ويرف كالشعاع؛ فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكُّر تبلَّد وقسا. وانطمستْ إشراقته، وأظلم وأعتم. فلا بد من تذكير هذا القلب حتى يذكر ويخشع، ولا بد من الطرق عليه حتى يرقَّ ويشف؛ ولا بد من اليقظة الدائمة كي لا يصيبَه التبلد والقساوة. ولكن لا يأس من قلب خمد وجمد وقسا وتبلد؛ فإنه يمكن أن تدب فيه الحياة، وأن يشرق فيه النور، وأن يخشع لذكر الله. فالله يحيي الأرض بعد موتها، فتنبض بالحياة، وتزخر بالنبت والزهر، وتمنح الأكل والثمار. كذلك القلوب حين يشاء الله»[7].

ومن أقوال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في التحذير من الغفلة المطبقة قوله: «مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ إِلاَّ قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً»[8].

وعَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَـةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ – عَزَّ وَجَلَّ – مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللَّهُ – عَزَّ وَجَلَّ – لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ – عَزَّ وَجَلَّ – مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللَّهُ – عَزَّ وَجَلَّ – بِهَا عَلَيْهِ سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

قَالَ فَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ: كَمْ مِنْ كَلَامٍ قَدْ مَنَعَنِيهِ حَدِيثُ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ! وصدق علقمة – رحمه الله – فكثيراً ما تصيب الغفلةُ الإنسان فيقع في كبائر لسانية عدة؛ فقد يقع الغافل بلسانه في أكثر من عشرة كبائر: من الحلف بغير الله، والشرك به، ودعاء غير ربه، والسبِّ واللعن، والغيبة، والنميمة، والكذب، والفجور في الخصومة، وسب الوالدين، وسب الدين عياذاً بالله. فينبغي للمرء العاقل أن ينتبه للسانه وحواسه وجسده لئلا يقع في الغفلة المهلكة حتى لا يندم يوم لا ينفع الندم ويقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِـحَيَاتِي} [الفجر: 24].

ماذا تفعل في دقيقة من عمرك؟

صدق شوقي عندما قال:

دقاتُ قلبِ المرء قائلةٌ له:

إن الحياةَ دقائقٌ وثواني

العمر لحظة والحياة دقيقة، ولو نظر العاقل في حياته فلن يجد إلا أمس واليوم وغداً، وأمس لو تعلق الإنسان بالجبال لن يعود أبداً، والغد غير مضمون، فليس لك من عمرك إلا الآن، ليس لك من رأس مالك إلا اللحظة التي تحياها، وهي دقيقة من العمر. والإنسان يستطيع خلال دقيقة من عمره أن يحرك فمه المطبق بذكر ربه، وفي خلال دقيقة من عمره يستطيع صلة رحمه بالهاتف، يستطيع في دقيقة صلاة ركعتي سنة، في دقيقة يستطيع الاستغفار ثلاثاً، في دقيقة يستطيع قراءة سورة الإخلاص ثلاث مرات، في دقيقة يستطيع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عشر مرات فيصلي الله عليه مائة مرة، في دقيقة يستطيع أن يوصي أخاً له بالمعروف وينهاه عن المنكر، في دقيقة يستطيع معانقة ولده والمسح على رأسه وتقبيله، في دقيقة يستطيع الحنو على امرأته، في دقيقة يستطيع مصافحة أخيه وجاره والسلام عليه… إلخ.

هناك كثير من الأعمال الصالحة لا تكلفك شيئاً؛ فلا يلزمك لها طهارة أو تعب أو بذل جهد، بل تقوم بها وأنت تسير على قدميك، أو راكب سيارتك، أو مستلقٍ على ظهرك، أو جالس تنتظر أحداً. ولو أننا استطعنا بصدق أن نوظف ونفعِّل الحكمة التي نعلقها في بيوتنا وأعمالنا وشوارعنا «املأ أوقات الانتظار بالاستغفار»؛ لحولنا الأوقات الغافلة إلى أوقات حية نفعل فيها الخير ونغرس فيها النافع، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟

ولو رجعنا إلى ما حثت عليه النصوص الشرعية من الذكر، مما يسمى بعمل اليوم والليلة لوجدنا أن الالتزام بذلك يجعل المسلم لا يكاد ينفك عن تسبيح وتحميد وتهليل واستغفار وتضرع ودعاء، ما دام مستيقظاً. إن كثرة ذكر الله – تعالى – تولِّد لدى المسلم الحياءَ منه وحبه، وتنشِّطه للسعي في مرضاته، كما تملأ قلبه بالطمأنينة والأمان والسعادة؛ لينعم بكل ذلك في أجواء الحياة المادية الصاخبة.

إن الصلة بالله – تعالى – هي أساس كل عبادة، وإن أدب الوقت يقتضي من المربين والعلماء الناصحين التوجيهَ إلى إثراء حياة الشباب والناشئة بالأعمال الروحية وعلى رأسها الذكر حتى لا يقعوا في مصيدة النسيان واللهو والإعراض عن الله تعالى.

 [1] في ظلال القرآن: 7/171.

 [2] في ظلال القرآن: 3/356.

 [3] صحيح البخاري (6412).

 [4] سنن أبي داود (2865) وصححه الألباني.

 [5] صحيح مسلم، ص2663.

 [6] صحيح مسلم،  ص3027.

 [7] في ظلال القرآن: 7/ 133.

 [8] أبو داود (4855)، وصححه الألباني.

(المصدر: مجلة البيان)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى