مقالاتمقالات مختارة

مرحلة الأزمة الأولى والصراع في الدولة العثمانية (1403 -1413م)

مرحلة الأزمة الأولى والصراع في الدولة العثمانية (1403 -1413م)

 

د. علي محمد الصلابي

 

تناولنا في مقالات سابقة سلاطين الدولة العثمانية قبل محمد الفاتح، وآخر هؤلاء السلاطين الأقوياء السلطان بايزيد «الصَّاعقة»، وقد لقب بذلك لأنه كان شجاعاً شهماً كريماً متحمِّساً للفتوحات الإِسلاميَّة، ولذلك اهتمَّ اهتماماً كبيراً بالشؤون العسكريَّة، فاستهدف الإِمارات المسيحيَّة في الأناضول، وخلال عام واحد أصبحت تابعةً للدَّولة العثمانيَّة، فكان بايزيد كمثل البرق في تحرُّكاته بين الجبهتين البلقانيَّة، والأناضوليَّة، لكن السلطان بايزيد وقع في صدام مع تيمورلنك  الذي جلس على عرش خراسان عام 1369م، واستطاع أن يتوسَّع بجيوشه الرَّهيبة، وأن يهيمن على القسم الأكبر من العالم الإِسلاميِّ، فقد انتشرت قوَّاته الضَّخمة في آسيا من دلهي إِلى دمشق، ومن بحر آرال إِلى الخليج العربي، واحتلَّ فارس، وأرمينيا، وأعالي الفرات، ودجلة والمناطق الواقعة بين بحر قزوين إِلى البحر الأسود، وفي روسيا سيطر على المناطق الممتدَّة بين أنهار الفولجا، والدُّون، والدنيبر، وأعلن بأنّه سيسيطر على الأرض المسكونة، ويجعلها ملكاً له، وكان يردِّد: «أنَّه يجب ألا يوجد سوى سيِّد واحد على الأرض طالما أنَّه لا يوجد إِلا إِلهٌ واحدٌ في السَّماء».

ولأسباب عدة تقدَّم تيمورلنك بجيوشه، واحتلَّ سيواس، وأباد حاميتها الَّتي كان يقودها الأمير أرطغرل بن بايزيد، والتقى الجيشان قرب أنقرة في عام 804هـ/1402م وكانت قوات بايزيد تبلغ 120000 مجاهدٍ لملاقاة خصمه، وزحف تيمورلنك على رأس قوَّات جرارة في 20 يوليو 1402م (804هـ) وانتصر المغول، ووقع بايزيد في الأسر، وظلَّ يرسف في أغلاله حتَّى وافاه الأجل في السَّنة التَّالية.

بعد ذلك تعرَّضت الدَّولة العثمانيَّة لخطرٍ داخليٍّ تمثَّل في نشوب حربٍ أهليَّةٍ على العرش بين أبناء بايزيد، واستمرَّت هذه الحرب عشر سنوات (806 – 816هـ/1403 – 1413م).

كان لبايزيد خمسة أبناء اشتركوا معه في القتال، ونشبت الحرب بين ثلاثة منهم، كانوا يتنازعون بينهم أشلاء الدَّولة الممزَّقة، والأعداء يتربَّصون بهم من كلِّ جانبٍ.

لقد كانت هذه المرحلة في تاريخ الدَّولة العثمانيَّة مرحلة اختبارٍ، وابتلاءٍ سبقت التَّمكين الفعليَّ المتمثِّل في فتح القسطنطينيَّة، ولقد جرت سنة الله تعالى ألا يمكِّن لأمَّةٍ إِلا بعد أن تمرَّ بمراحل الاختبار المختلفة، وينصهر معدنها في بوتقة الأحداث، فيميز الله الخبيث من الطَّيب، وهي سنَّةٌ جاريةٌ على الأمَّة الإِسلاميَّة لا تتخلَّف، فقد شاء الله ـ تعالى ـ أن يبتلي المؤمنين، ويختبرهم، ليمحِّص إِيمانهم، ثمَّ يكون لهم التَّمكين في الأرض بعد ذلك.

وابتلاء المؤمنين قبل التَّمكين أمرٌ حتميٌّ من أجل التَّمحيص، ليقوم بنيانهم بعد ذلك على تمكينٍ، ورسوخٍ، قال تعالى: {أَلَمّ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ } [سورة العنكبوت:3].

 «الفتنة: الامتحان بشدائد التَّكليف من مفارقة الأوطان، ومجاهدة الأعداء، وسائر الطَّاعات الشَّاقة، وهجر الشَّهوات، وبالفقر، والقحط، وأنواع المصائب في الأنفس، والأمور، ومصابرة الكفَّار على أذاهم، وكيدهم»

قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: «والاستفهام في قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ}، ومعناه: أنَّ الله سبحانه لا بدَّ أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإِيمان»

كما جاء في الحديث الصَّحيح: «أشدُّ النَّاس بلاء الأنبياء، ثمَّ الصَّالحون، ثمَّ الأمثل، فالأمثل. يُبتلى الرَّجل على حسب دينه، فإِن كان في دينه صلابةٌ، زيد له في البلاء».

ولقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنَّ الابتلاء صفةٌ لازمةٌ للمؤمن، حيث قال: «مثل المؤمن كمثل الزَّرع لا تزال الرِّيح تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتزُّ حتَّى تُسْتَحْصَدَ».

إِنَّ سنَّة الابتلاء جاريةٌ في الأمم والدُّول، والشُّعوب، والمجتمعات، ولذلك جرت سنَّةُ الله بالابتلاء بالدَّولة العثمانيَّة.

صمد العثمانيُّون لمحنة أنقرة بالرَّغم ممَّا عانوه من خلافاتٍ داخليَّةٍ إِلى أن انفرد محمَّد الأوَّل بالحكم في عام 1413م، وأمكنه لمَّ شتات الأراضي الَّتي سبق للدَّولة أن فقدتها. إِنَّ إِفاقة الدَّولة من كارثة أنقرة يرجع إِلى منهجها الرَّبانيِّ الَّذي سارت عليه، حيث جعل من العثمانيِّين أمَّةً متفوِّقةً في جانبها العقديِّ، والدِّينيِّ والسُّلوكي، والأخلاقيِّ، والجهاديِّ، وبفضل الله حافظ العثمانيُّون على حماستهم الدِّينيَّة، وأخلاقهم الكريمة.

ثمَّ بسبب المهارة النَّادرة الَّتي نظَّم بها أورخان وأخوه علاء الدِّين دولتهما الجديدة، وإِدارة القضاء المثيرة للإِعجاب والتَّعليم المتواصل لأبناء وشباب العثمانيِّين، وغير ذلك من الأسباب الَّتي جعلت في العثمانيِّين قوَّةً حيويَّةً كاملةً، فما لبثت هذه الدَّولة بعد كارثة أنقرة إِلا أن بعثت من جديدٍ من بين الأنقاض والأطلال، وانتعشت، وسرى في عروقها ماء الحياة، وروح الشَّريعة، واستأنفت سيرها إِلى الأمام في عزمٍ، وإصرارٍ حيَّر الأعداء، والأصدقاء.


المراجع:

– الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط،  د. علي محمد الصلابي . الطبعة الأولى 2003م
– الدَّولة العثمانيَّة في التاريخ الإِسلامي الحديث، د. إِسماعيل ياغي مكتبة العبيكان، الطَّبعة الأولى 1416هـ/1996م.
– محمَّد الفاتح، د. سالم الرَّشيدي، الإِرشاد، جدَّة، الطَّبعة الثَّالثة، 1989م/1410هـ.
– في أصول التَّاريخ العثماني، أحمد عبد الرَّحيم مصطفى، دار الشُّروق، الطَّبعة الثَّانية، 1986م ـ 1406هـ ـ
– تاريخ الدَّولة العثمانيَّة، د. علي حسُّون، المكتب الإِسلامي، الطَّبعة الثَّالثة 1415هـ/1994م.
– تاريخ الدَّولة العليَّة العثمانيَّة، محمَّد فريد بك، تحقيق الدُّكتور إِحسان حقِّي، دار النَّفائس، الطَّبعة السَّادسة، 1408هـ/1988م.
– تفسير النَّسفي (3/249).
– تفسير ابن كثير (3/405).
– سنن التِّرمذي (4/601).

(المصدر: ترك برس)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى