كتب وبحوث

مراجعة كتاب روائع الأوقاف في الحضارة الإسلامية

مراجعة كتاب روائع الأوقاف في الحضارة الإسلامية

مراجعة قصي أبو يوسف

نقدم لكم مراجعة كتاب روائع الأوقاف في الحضارة الإسلامية، لمؤلفه د. راغب السرجاني حيث جاء الكتاب في 215 صفحة، ورُجِعت نسخة دار “نهضة مصر للطباعة والنشر”، الطبعة الأولى.

تحدّث الكتاب عن الأوقاف الإسلامية وروائع العملية الوقفية التي تتكون من: الوقف والواقف والموقوف عليهم، فبيّن الكتاب جوانبًا رائعة في هذه العملية، فمن الأهمية الكبيرة لهذه الأوقاف إلى أمثلة عنها في تاريخنا الإسلامي، مرورًا بالضوابط والقيود والآراء الفقهية؛ لضمان حماية العملية الفقهية من النقص، وليعود النفع والخير في النهاية إلى الموقوف عليهم كاملًا تامًّا قدر الإمكان.

المقدمة

أشار الكاتب في مقدمته إلى أن التشريع مهم للمجتمعات لتقويمها، ولضبط علاقات البشر بين بعضهم البعض، ولبلورة العلاقة بين الإنسان والدولة التي تحكمه.

والتشريع الإسلامي غاية في الأهمية لتطوّر المجتمعات بالاتجاه الصحيح، فهو شامل للحياة الإنسانية كاملة من دخول الخلاء إلى الخلافة والإمامة العظمى.

والوقف جزء من هذا التشريع القويم فهو يُعتبر التطبيق العملي للمنظومة الفقهية الإسلامية، التي امتدت على مدار أربعة عشر قرنًا، فالوقف لكل الناس؛ الفقير والغني، ولأهل الكتاب، ولأهل الملل، فهو يغطي المجتمع بأسره بنفعه وخيره، فيصح القول بأن الوقف انعكاس المرآة للإسلام العالمي الذي هو رحمة للعالمين.

الفصل الأول: من روائع التشريع الإسلامي في مسائل الأوقاف

الأوقاف

المشافي كانت إحدى أهم الأوقاف الإسلامية في التاريخ الإسلامي.

ناقش الكاتب في هذا الفصل قضايا عدة متعلقة بالعملية الوقفية؛ لبيان روعة التشريع الإسلامي، ودقة ما حدده الفقهاء كضوابط وشروط خاصة بالعملية الوقفية، فكانت جميعها تحاول أخذ أعلى درجات المحافظة على مقاصد الشريعة من حفظ للدين والمال والنفس.. وسنذكر بعض القضايا التي تطرق لها الكاتب وناقشها الفقهاء على مدار العصور.

بدأ الكتاب بتعداد أهميّات الوقف على المستويات كافة فيخرج بما يأتي:

  1. الأهمية الدينية: فهنا يقصد الواقفُ الأجر والثواب، وأن يكون الوقف سببًا للمغفرة، فيُحبَس الوقف لله تعالى، واشترط الفقهاء أن يكون الوقف للبرّ وأعمال الخير.
  2. الأهمية العائلية: وفي هذا الصنف يوقِفُ الرجل بعض ماله كعقار أو أرض أو ما شابه لأهله؛ حرصًا على مستقبل ذريته، وليحميهم من سؤال الناس مستقبلًا.
  3. الأهمية العلمية: ولهذا الهدف توقف المدارس ودور العلم، سواء دور العلم الشرعي أو الدنيوي؛ لينهض المجتمع بهذين العلمين، فيدعم الوقف طلاب العلم ويرعاهم والفقير منهم خاصة.
  4. الأهمية الاجتماعية: حيث تهتم الأوقاف بالقضايا الاجتماعية فتحاول أن تدعم المجتمع، فتساعد الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل، من خلال أنواع عديدة من الأوقاف.
  5. الأهمية الصحيّة: حيث يوقف الواقفون المشافي والمراكز الطبية بهدف مداواة المرضى، والفقير منهم خاصة.
  6. الأهمية العسكرية: مرّ في التاريخ الإسلامي أنواع من الأوقاف كان هدفها تقديم الخدمات العسكرية، إذ كان يُخصص جزء من ريع الأوقاف للمجاهدين وشراء الأسلحة والعتاد، وحتى مفاداة الأسرى المسلمين.

هذا جزء من الأهداف التي قامت عليها الأوقاف الإسلامية على مدار التاريخ الإسلامي، فيمكنك أخي القارئ أن تستشعر روعة أهداف الأوقاف فهي أهداف غيرية لا نفعية -تعود للشخص بالمنفعة الدنيوية- وإنما تعود لصالح المجتمع بالخير والنفع.

وذكر الكاتب نوعين من الأوقاف: الوقف الخيري والوقف الذُّرِّي، حيث الجهة الموقوف عليها تحدد أي النوعين؛ فإن كانت هذه الجهة عامّة كان الوقف خيريًا، وإن كانت جهة الوقف خاصة بالواقف كالأهل والأقارب كان ذُرِّيًّا.

روي عن عائشة -رضي الله عنها- “أن رسول الله ﷺ جعل سبع حيطان -يعني بساتين- له في المدينة صدقة على بني عبد المطلب وبني هاشم”، فهذه الحيطان تعتبر وقفًا ذُرّيًّا.

وتطرق الكاتب ليشرح لنا عما يسمى بـ “وقف الإرصاد” وهو حبس شيء من مال المسلمين بأمر ولي الأمر؛ ليُصرف ريعه على مصلحة عامّة كالمدارس أو المشافي أو غيرها من المنافع العامة.

ومن القضايا التي ذكرها الكتاب وناقشها الفقهاء شروط أهلية الواقف، والموقوف عليهم والوقف وماهيته، والتفصيل يطول في هذا السياق.

الفصل الثاني: من روائع الفقهاء في مسائل الوقف

الأوقاف

نتعرف في هذا الفصل على أمثلة ونماذج من تاريخنا الإسلامي تبين مرونة المنظومة الفقهية في التعامل مع مسائل الأوقاف، وكيف أنها أرادت في كل الاجتهادات الفقهية والفتاوى مصلحة الموقوف عليهم في ضوء التشريع الرباني، حيث لم تكن جامدة على قول أو شخص، وإنما راعت الأزمان والمصالح؛ لتخرج لنا بأحكام دقيقة تكاد لا تترك أي تفصيل من تفاصيل الأوقاف والتعامل معها إلا عالجته.

فبدأ الكاتب بالنقاشات والاجتهادات الفقهية لتعريف الوقف شرعًا، ثم انتقل ليبين لنا الخلاف على صحة الأوقاف بين أئمة الفقهاء وكلٌّ بدليله وحجته المستقاة من الكتاب والسنة، ومع هذا كان أدب الخلاف حاضرًا بكل قوة، والهدف من كل هذا مصلحة الموقوف عليهم والحفاظ على شرع الله دون تحريف أو تبديل.

فمن القضايا التي عالجها الكتاب “حكمة التشريع في استبدال الأوقاف”، ونقصد هنا استبدال الوقف كالأرض مثلًا بأرض أخرى أو حتى عقار آخر. حيث لم يوجد نصوص مباشرة يُستدل بها على صحة هذا.

إلا أن الفقهاء خاضوا غمار المسألة وأعملوا المصلحة العامّة للموقوف عليهم فأقرُّوا صحة استبدال الأوقاف. وهذا يدلّ على عدم الجمود في المنظومة الفقهية، وأن الفقهاء عينهم دائمًا على مقاصد الشريعة.

في هذه القضية السابقة نجد خلافًا فيمن أباح استبدال الوقف ومن منع هذا، وكلٌّ هدفه مصلحة الوقف والموقوف عليهم، فمن قال بالجواز أراد أن يدوم الوقف ويتمتع بالأبدية، فإن اهترأ الوقف القديم يُباع ويُستبدل بوقف آخر؛ ليدوم النفع على الموقوف عليهم من الفقراء أو المساكين أو أي من كان الموقوف عليهم.

أما من قال بعدم جواز الاستبدال فأراد عدم التلاعب بالأوقاف، فقد يهمل الناظر -المسؤول عن الوقف- عمدًا الوقفَ، أو يشترك مع من يريد شراءه في تخريبها، فتضيع مصلحة الموقوف عليهم، فكانت حجة من قال بعدم الجواز، قطع الطريق على الغش وخيانة الأمانة.

ومن القضايا الأخرى التي ذكرها الكتاب “مرونة التشريع في تأجير الأوقاف”، ودارت هنا الأقوال والاجتهادات الفقهية أيضًا، وهذا دليل حيوية المنظومة الفقهية أيضًا، فوُضِعت الشروط والضوابط للتأجير، ومنها “أنه لا يصح لناظر الوقف أن يؤجّر الوقف لأشخاص لا تُقبل شهادتهم له، وهم الأصول والفروع والزوجة؛ وذلك بُعدًا عن التهمة والتحيّز والاستغلال”.

فتأمل يا رعاك الله دقة الضابط لدى الفقهاء وخشيتهم على مصلحة الموقوف عليهم!

وآخر قضية أردت نقلها لكم هي “العدول عن رأي الأستاذ”، حيث يذكر الكاتب عدول أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري عن رأي شيخه أبي حنيفة في مسألة وجوب الأوقاف من عدمها، حيث يرى أبو حنيفة ببطلان الوقف ومنعه، أما أبا يوسف فرأى بوجوبها بعد قدومه للحج ورؤيته لأوقاف الصحابة -رضوان الله عليهم-.

وقضيتنا ليست الخلاف القائم، ولكن إظهار مرونة المنظومة الفقهية وحيويتها ونظرتها الثاقبة لمصلحة الموقوف عليهم وعدم تمسكها بأقوال الأشخاص، وإنما التشريع على ضوء القرآن والسنة.

القضايا في هذا الفصل وتعامل الفقهاء معها تطول فنكتفي بهذا القدر وما ذُكر لا يغني عن قراءة الكتاب حتمًا.

الفصل الثالث: إدارة الأوقاف الإسلامية.. تنظيم وإبهار

الأوقاف

تحدث الكتاب في هذا الفصل عن إدارة الأوقاف الإسلامية، فبيّن التنظيم في العملية الوقفية وكشف عن الخفايا في هذا المضمار، فأضاء لنا عن عالم تأخذُ الدقة والحرفية والتقوى منزلة عالية فيه، وتغلب مصلحة الموقوف عليهم فيه الأولويات على حساب الواقف، على عكس الطابع المادي الذي نراه في المنظومات الغربية والتي تُعلي شأن صاحب المال فتحقق رغبته وتنفذ مراده وإن خَبُث.

سنبين في الآتي بعض اللمحات العظيمة التي وردت في الكتاب في مجال إدارة الأوقاف بعون الله.

بداية حققت المنظومة الفقهية في دور الواقف على وقفه، فمنهم من ذهب إلى حبس الوقف إلى الموقوف عليهم، ومنهم من ذهب إلى حق الواقف في النظر (الإشراف) على وقفه، وتوزيع خيراته على الموقوف عليهم، فيضمن وصول النفع لهم وليحافظ على الوقف بنفسه، فمن أحفظ على ماله من نفسه.

وذهب الحنابلة إلى مراعاة المصلحة العامّة فوضعوا ضوابطًا للولاية:

  • إذا كان الموقوف عليهم مُعيّنين، ويمكن حصرهم ومعرفتهم فإن الولاية تكون لهم.
  • إذا كان الموقوف عليهم جهة عامّة كالمساجد أو الفقراء وما شابه، فالناظر في هذا الوقف هو الحاكم، والحاكم يولّي النظارة لمن هو كفء.

نرى مما سبق ضبط المنظومة الفقهية للعملية الوقفية، ودقتها في عملية نقل الملكية من الواقف للموقوف عليهم.

وذهب الكاتب في هذا الكتاب لما هو أبعد من هذا، فقد جمع الشروط التي وضعها الشرع لاختيار الناظر على هذه الأوقاف، فيذكر منها:

  • العقل
  • البلوغ
  • الإسلام
  • العدالة: فيجب أن يكون الناظر عدلًا أمينًا ذو استقامة مشهودًا له؛ ليحمل أمانة الموقوف عليهم.
  • الكفاءة للتصرف: فلا تكفي الصفات الحسنة في الناظر، وإنما الكفاءة شيء مهم؛ ليستطيع الناظر تنمية الوقف، واستثمار غلّته، وتوزيعها على الموقوف عليهم.

ولكي يُسأل الناظر على تقصيره لا بد من وضع قائمة بمهامه، فذكر الكاتب بعض من هذه المهام وهي:

  • عمارة الوقف والمحافظة عليه.
  • الدفاع عن حقوق الوقف: حماية الوقف والدفاع عنه ضد الاعتداءات، فله أن يلجأ إلى القضاء ليأخذ حق الوقف من المعتدين.
  • أداء ديون الوقف إن كان عليه ديون.
  • أداء حقوق المستحقين من الوقف، وهنا تأتي أهمية صفة العدالة في الناظر، فلا يحابي أحدًا على أحد، كلٌّ بحقه، فيقسم عائد الوقف بالعدل.
  • تنفيذ شروط الواقف الصحيحة المعتبرة شرعًا.

مع أن المنظومة الوقفية تُولي اهتمامًا كبيرًا لشروط الواقف في الوقف إلا أنها أعطت في الآن نفسه الناظر بعض المرونة للتصرف بالوقف، بما يعود فيه النفع على المستفيدين، فله أن يؤجره إن كان عقارًا، وله أن يزرعه إن كان أرضًا تصلح للزراعة، حتى أعطى الشرع الناظرَ المرونة في تشييد المباني في أرض الأوقاف إذا كانت غير صالحة للزراعة.

لحرص الشرع على مال الواقف ومصلحة الموقوف عليهم، وضع قيودًا على الناظر يذكر الكاتب منها:

  • عدم محاباته أحدًا، فهذه أمانة يجب أن تصل لأهلها.
  • ليس له أن يستدين على الوقف.
  • ليس له أن يرهن الوقف.
  • لا يجوز إعارة الوقف لأي شخص دون مقابل ذلك؛ ليعود النفع على الموقوف عليهم.

ومن روائع هذا الشرع العظيم أن اتفق الفقهاء على أن الناظر وكيل لا أصيل، ووكالته تقتضي المحافظة على الوقف وإدارته وتنميته وإصلاح خرابه، بما يعود على الموقوف عليهم بالنفع المؤبد، فلا ينقطع الخير إلى يوم القيامة.

الفصل الرابع: روائع الأوقاف في الحضارة الإسلامية

الأوقاف

وقف مزرعة سلمان الفارسي.

يعرض الكتاب في هذا الفصل روائع الأوقاف في الحضارة الإسلامية الممتدة لأكثر من 14 قرنًا؛ لنرى التقدم الحضاري الكبير الذي أحرزته الحضارة الإسلامية متقدمة على أمم الأرض بقرون عدة في المجال الوقفي.

ذكر الكاتب الكثير من الأمثلة على الأوقاف خلال هذه المسيرة الكبيرة ضمن تصنيف العصور، وسوف نتطرق لبعض هذه الأمثلة الفريدة:

الخلافة الراشدة

الصحابة هم السباقون بالخيرات اقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام، فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: “قد أصاب عمر أرضًا بخيبر. فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستأمره فيها. فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبر، لم أُصِبْ مالًا قَطُّ هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ فقال: إن شِئْتَ حَبَّسْتَ أصلها، وتصدقت بها. قال: فتصدق بها، غير أنه لا يُباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث. قال: فتصدق عمر في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف. لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقًا، غير مُتَمَوِّلٍ فيه”، وفي لفظ: «غير مُتَأثِّلٍ». (صحيح – متفق عليه).

قال الكاتب في هذا الفصل مادحًا الصحابة: “ونحن لا نعجب من أوقاف صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فرغم الفقر والعوز الذي ألم بكثير منهم رضي الله عنهم، إلا أننا وجدناهم من أحرص الناس على إقامة الأوقاف النافعة ونشرها، ولقد توفي كثير منهم ولم يذروا من الأموال إلا أقل القليل، لكن ذلك لم يُثنهم عن أعمال البرّ والخير المتمثلة في الأوقاف”.

ومن الوعي المتقدم للصحابة أن أوقفوا دورهم على أولادهم بما يسمى “الوقف الذُّرّي” مثل الصحابي الزبير بن العوام -رضي الله عنه-، إذ وقف دوره على بنيه بحيث لا تُباع ولا تورث، وهذا ليُعين الذراري على مشاق الحياة ومصاعبها، وتيمنًا بالرسول الكريم الذي أوقف سبعة حيطان صدقة على بني عبد المطلب وبني هاشم كما أسلفنا.

عصر الخلافة الأموية

الأوقاف

جامع بني أمية الكبير، ويعرف اختصاراً بالجامع الأموي.

أولت الخلافة الأموية المجال الصحي اهتمامًا كبيرًا منذ القرن الأول الهجري، فكان الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك أول خليفة يوقف البيمارستانات (المشافي) فأوقف أول مستشفى بالإسلام.

ويعتبر الجامع الأموي في دمشق شاهدًا تاريخيًا على اهتمام الخلافة الأموية بالأوقاف الدينية، وكذلك اهتموا بالأوقاف العامة كحفر الأنهار وإصلاح الطرقات وإقامة البيوت والمنازل (كالفنادق في زمننا) ليأوي إليها عابروا السبيل، واهتموا بإنشاء الجسور والقناطر.

عصر الخلافة العباسية

على نهج الأموية فقد اهتمت الخلافة العباسية بإنشاء البيمارستانات واستقدموا كبار الأطباء ليقوموا عليها، وكذلك أولوا إيقاف الكتب الطبية أهمية كبرى فأوقفوها في المشافي ليدرس منها الأطباء.

ينقل الكاتب عن كتاب تاريخ العرب والمسلمين الآتي: “.. فكان العلاج مجانًا لجميع المواطنين، وكان المريض يلقى العناية الفائقة في المستشفى من الثياب الجديدة النظيفة، ومن الأغذية المتنوعة، والأدوية اللازمة، وبعد شفاء المريض، كان يُعطى نفقة سفرياته ليستطيع العودة إلى بلاده”.

ومن العناية المتقدمة في الخلافة العباسية لرعاياها آنذاك؛ إيفادها للقوافل الطبية أو العيادات المتنقلة إلى القرى النائية والبعيدة عن مراكز المدن لتقدم العلاج والطبابة لمن يحتاجها.

وهذا غيض من فيض في الأوقاف التي اهتموا بها، وهناك الكثير من الدرر تجدونها مدفونة في الكتاب، فابحثوا عنها.

عصري الخلافة الزنكية والأيوبية

الأوقاف

المدرسة الصلاحية، أنشأها السلطان صلاح الدين الأيوبي.

على الرغم من الحروب التي خاضها المسلمون في هذه الفترة العصيبة من تاريخ الإسلام، إلا أن الخلفاء لم ينسوا أن يوقفوا الأوقاف لتبني المجتمع والدولة، فقد كان الاهتمام كبيرًا على الوقف العلمي، حيث أُنشئت الكتاتيب أو مكاتب الأطفال ومنهم الأيتام من المسلمين، حيث أُجريت عليهم إلى جانب العلم الكسوة والمال.

والاهتمام زاد إلى أن بلغت المدارس والمكاتب الوقفية مراكز علم كبيرة بمثابة الجامعات والكليات المتخصصة في كافة ألوان العلوم.

ومن الشواهد التاريخية على هذه الحقبة والاهتمام العلمي المدرسة الصلاحية في القدس والتي أنشأها القائد الناصر صلاح الدين الأيوبي عام 588هـ، حيث دُرّست فيها العلوم الشرعية، والكونية كالهندسة، والفلك، والاقتصاد.

ويقول الكاتب: “من غريب الأوقاف وأجملها قصر الفقراء، الذي عمّره في ربوع دمشق نور الدين محمود زنكي، فإنه لما رأى ذلك المنتزه مقصورًا على الأغنياء، وعزّ عليه ألا يستمتع الفقراء مثلهم بالحياة، فعمر القصر ووقف عليه قرية (داريّا) وهي أعظم ضياع الغوطة وأغناها”.

دول المغرب والأندلس

من الأوقاف المميزة التي عرضها الكاتب في هذا الفصل من الكتاب؛ هو وقف من وقع عليه زيت المصباح أو تلوّث ثوبه بشيء آخر، فيذهب إلى هذا الوقف ويأخذ منه ما يشتري به ثوبًا آخر!

ما أعظم هذا التشريع الإسلامي الذي أوصل حب الخير والمسابقة لنشره أن يصل لهذا المستوى من الرقي والدقة في التفاصيل، وتحري ما يُوقف لإيقافه!

عصر الخلافة العثمانية

الأوقاف

سكة حديد الحجاز هي سكة حديد ضيقة، تصل بين دمشق والمدينة المنورة، وكانت قد أسست في فترة ولاية السلطان العثماني عبد الحميد الثاني.

كانت هذه الفترة من الخلافة الإسلامية فترة عصيبة خصيصًا في آخر سنينها، فقد عمل الاحتلال الغربي على تجزيء البلدان الإسلامية واحتلالها، وكان يكيد بالإسلام والمسلمين ليُسقط خلافتهم المتمثلة بالدولة العثمانية آنذاك.

فوجد الخليفة السلطان عبد الحميد الثاني وقفًا يوحّد فيه أرض الدولة ويثبت أحقية الخلافة فيها، ويربط الولايات بقلبها ونبضها مكة. فربطها بوقف سكة حديد الحجاز حيث سهّلت على الحجّاج قضاء فريضة الحج ووصولهم إلى بيت الله الحرام، إلى أن دمرها “لورانس العرب” معلنًا انفصال العرب عن الدولة العثمانية.

ومن عجائب الأوقاف العثمانية، أوقاف مخصصة لعلاج الحيوانات ورعايتها، ووُجدت أوقاف لإعارة الزينة والحلي في الأعراس والأفراح!

الفصل الخامس: من روائع الأوقاف في عالمنا المعاصر

حوربت الأوقاف الإسلامي في أواخر القرن التاسع عشر بسبب احتلال أراضي المسلمين وغزوها من قبل الغرب، فقد أيقن الغرب مدى أهمية الأوقاف في تماسك المجتمع ونهوضه فعمد إلى محاربتها والسطو عليها، وعندما اضطر للخروج من أراضينا أوكل المهمة إلى الأنظمة الاستبدادية التي فرضت القوانين والقيود على العملية الوقفية لمنعها من الانتشار.

ولكن مع هذا ما زالت الأوقاف تنتشر وتظهر ويذكر الكاتب نماذج جميلة يسطع منها النور لأوقاف معاصرة نذكر اثنين منها:

الصناديق الوقفية

الصندوق الوقفي هو وعاء تجمع فيه أموال موقوفة تُستخدم لشراء عقارات وممتلكات وأسهم وأصول متنوعة، يُدار كمحفظة استثمارية لتحقيق أعلى عائد ممكن، والعائد يرجع إلى التخصص الموقوف عليه.

ويتخصص كل صندوق برعاية خدمة مجتمعية معينة، ومن هذه الصناديق التي أُقيمت في دولة الكويت:

  • الصندوق الوقفي للقرآن الكريم وعلومه.
  • الصندوق الوقفي للتنمية العلمية والاجتماعية.
  • الصندوق الوقفي للتنمية الصحية.
  • الصندوق الوقفي لرعاية المساجد.

مشاريع أسهم النور الخيرية

تقوم فكرة هذه المشاريع على نقل الأوقاف إلى عموم المسلمين، حيث يستطيع كل مسلم أن يُساهم بأسهم في وقف خيري على حسب قدرته.

هذه الأسهم ليست أسهمًا تداول في سوق البورصة وإنما طريقة لتقسيم الأوقاف وإعطاء كل المسلمين الفرصة للمشاركة في الخير والأجر، ولا يحق للمساهم بسحب سهمه أو التدخل في طريقة استثمار الوقف.

خلاصة المراجعة

روائع الأوقاف في الحضارة الإسلامية كتاب مميز سهل الكلمات، لين التعابير، وغير اختصاصي، يمكن لأي شخص مهتم أن يقرأه، يساعد على الاطلاع على عظمة العملية الوقفية في تاريخنا الإسلامي، واهتمام الفقهاء الكبير لحفظ الأوقاف، واعتبارهم مسألة الأوقاف مسألة حفظ مقاصد الشريعة؛ ففي العملية الوقفية وغاياتها تتقاطع مقاصد الشريعة.

فوضع الفقهاء القيود والضوابط في تبديل الأوقاف واختيار الناظر ليحفظوا الوقف من التلف والتخريب وهو من حفظ المال، وكذلك نجد أن أهمية الأوقاف في المجتمع لحفظ النفس إن كانت عسكرية أو صحيّة، ولحفظ العقل إن كانت علمية أو ما شابه.

فالأوقاف جزء في غاية الأهمية في نسيج المجتمع المسلم المتكاتف، فهي التجسيد العملي لمقولة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا.

المصدر: موقع تبيان

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى