مذكرات الشيخ رفاعي طه (18) من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية .. بداية الانشقاق بين الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية في أسيوط
سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي
وبهذا يتبين لك أن هذا الطيف من الشباب لم يكن له موقف واحد من الإخوان، منهم من ترك هذا الجمع الشبابي وانضم للإخوان، ومنهم من كان هذا هواه في نفسه لكنه لم يفعل، ومنهم من لم يكن لينضم للإخوان أبدا، ومن هذا القسم الأخير كان أسامة حافظ.
وقد ذكرت آنفا أن أسامة كان متأثرا بصديقه عبد المتعال، المعيد في كلية الهندسة، والذي كان يحمل موقفا غاية في السلبية تجاه الإخوان، إذ كان قد سُجِن معهم سابقا ولعله كان منهم فوقع بينهم في السجن ما أحدث بينهما نفورا كبيرا، وكان عبد المتعال هذا صديقا مقربا من أسامة حافظ، وعنه أخذ أسامة هذا الموقف من الإخوان، وكان عبد المتعال أسنَّ منا، وكان ذا شهرة على مستوى أسيوط.
وقد تضافر مع تأثير عبد المتعال تأثير آخر، وهو تأثير الشيخ السويفي، وكان شيخا كبيرا في السن وفي العلم معا، وكان مشهورا في وقته كذلك إذ هو أحد الدعاة المعروفين في أسيوط، وكان مسجونا قديما مع الإخوان واختلف معهم داخل السجن فخرج مغاضبا لهم ونافرا منهم وله عليهم مؤاخذات شرعية أيضا، وقصته في الخلاف مع الإخوان قصة مؤلمة ورواها لي بنفسه، نسأل الله أن يرحمنا وإياه ويغفر لنا له ويجمعنا به في الجنة، لقد كان شديد النقد لكل التيارات الإسلامية الموجودة على الساحة ولا يكاد يسلم من لسانه أحد.
فمن هاهنا بُنِي موقف أسامة حافظ السلبي من الإخوان، ولأنه الشيخ أسامة حافظ شخصية محورية وزعامة بين شباب الجامعة فقد استطاع أن يقلب موقف مجموع الشباب ضد الإخوان، وبغض النظر عن حادثة أسامة السيد في ذاتها، أو لنقل: إن حادثة أسامة السيد كانت هي التي فجرت المخزون الرابض في النفوس. كان الأمر أشبه بالحاجز النفسي لكنه ليس حاجزا من الهوى بل هو حاجز مبني أو ملتبس بالمؤاخذات الشرعية على الإخوان.
أتصور لو كانت جماعة الإخوان أكثر حصافة في هذه المرحلة لكانت قد تمكنت من احتوائنا، الواقع أيضا أنهم أخفقوا في هذا، إن أحد أهم عناصر فشل جماعة الإخوان في هذه المرحلة أنهم فشلوا في احتواء شباب الجامعات المصرية، كان لديهم اتفاق مع النظام في هذه المرحلة أن يعملوا على تهدئة الطلاب وأن يكبحوا اندفاعتهم في وجه السادات والنظام، ولذلك فقد عملوا على هذا إلا أنهم نفذوه بطريقة استفزازية وغير احترافية، فبدلا من أن يستوعب الحالة صار يصادمها، كذلك فإن أمن الدولة في تلك المرحلة وحتى السياسيين بمن فيهم السادات لم يكونوا يدركون نفسية أبناء الحركة الإسلامية بصفة عامة، أو المخلصين منهم على وجه الخصوص، وفي تقديري أن المخلصين هم الذين يسهل احتواؤهم شرط ألا تصادمهم، فلو استمر السادات أكثر في مسرحية “العلم والإيمان” التي ابتدأها، واهتم بإتقان أدائها، لكان قد وجد له كثيرا من الشباب يحبونه ويدافعون عنه، ويقفون وراءه، ذلك أن الشباب يحتاج الإسلام.. يحتاج الدين، فهذا الشباب يرى زعيما يتكلم عن الدين والإسلام، لكن ينقصه أن يعمل كذا أو يعمل كذا.. لو أن السادات زاد في تمثيل هذا الدور لكان بإمكانه أن يحتوي هذه الطاقة الشبابية.
لكن اللغة الصدامية لا تصلح مع الشباب، فإذا أردت احتواء شاب لا يمكن أن يكون بداية هذا أن تصادمه، بل أن تعطيه قدره، وتثني عليه، فيكون هذا أول سبيل احتوائه.
أعود إلى خطبة تنحي أسامة السيد، تلك التي أدركتها من يوم المعسكر، وقد ذكرت أنها كانت عاطفية مؤثرة، وكان يلوم ويعاتب، ويقول بأن عزله هذا غير شرعي وغير صحيح، وأنه لم يزل الأمير الشرعي للجماعة الإسلامية في الجامعة، وهذا العزل وهذه الانتخابات كلها خطأ، وقال: وأنا أشكوكم إلى الله عز وجل، وسنلتقي بين يديه يوم القيامة… إلى آخر هذا الكلام.
ذهبت إليه زائرا في بيته، وسألته: ما الذي حصل يا شيخ أسامة؟
فشرع يقصّ علي قصة الخلافة من وجهة نظره، وأن المسألة قديمة في أصلها وليست حقيقتها ما يقال من أنه يعود إلى قيادة الإخوان، وأن شباب الجماعة الإسلامية لم يكونوا يرونه مؤهلا أصلا ليكون أميرهم منذ اليوم الأول، وأنه وباعتباره الأمير الذي أوكل إليه الأمر له الحق في تقدير ما الذي ينبغي أن يعود فيه للإخوان الكبار، وأن الخلاف معه على هذا ثم عزله بناء على ذلك أمر غير شرعي ولا يجوز.
قلت له: أنت تعرف يا أخ أسامة أن الإخوة الشباب الإسلامي في الجامعة ليسوا كلهم من الإخوان المسلمين، ومن ثم كان المفترض أن تتعامل مع الناس وفق هذا الاعتبار، فتفرق بين الذين لا ينتمون للإخوان والذين ينتمون إليهم، فإذا أردت أن تدخلني إلى الإخوان فاعرض عليّ الأمر بشكل طبيعي عادي: تعرفني بالإخوان وتعرض علي أن أعمل معهم جنديا بينهم، فإما أن أقبل وإما أن أرفض، فإذا قبلنا صرنا جميعا في الإخوان وإلا بقينا خارج الجماعة وروعي هذا في التعامل، لا أن يكون السبيل هو إدخالنا بنوع من المراوغة والخديعة ضمن الإخوان، وجعلنا تابعين لهم سواء رضينا عن هذا أو لم نرض!
على كل حال تركت المقابلة عندي انطباعا حسنا عن شخصه، وأشفقت عليه مما رأيت من حزنه وغضبه، وقلت له: سواء أكنت أمير الجماعة أو لم تكن فنحن وإياك ننصر الحق والدين والإسلام، وجماعة الإخوان جماعة مقدرة لها اعتبارها، وأنت أخونا وإن كنا أكبر منك سنا، ولك أن تطلب منا ما تشاء ونحن تحت أمرك، وأنا شخصيًّا سأتواصل معك كثيرا، ولا تؤاخذ إخوانك وسامحهم، فإنهم إذا أخطؤوا فإنما ذلك عن اجتهاد، فلنتسامح ولنتغافر.. وظللت أقول كلاما من هذا القبيل.
كانت زيارتي هذه وكلامي له أمر صدق ليس من قبيل المجاملة أو المداهنة أو حتى المراوغة السياسية، أبدا، إنما يلازمني في هذا الجانب الأخلاقي والإنساني في مثل هذه الأمور، فلقد بكيت لدى سماعي خطبته وتأثرت حقا، ثم كنت في زيارته هذه متأثرا به حقا وشفوقا عليه ومحبا له. هذا وأنا في نفس الوقت من أنصار الشيخ أسامة حافظ، ومن أشد المؤيدين لموقف عزل أسامة السيد، ومن المقتنعين تماما بأن العمل الإسلامي في الجامعة يجب أن يدار من داخلها لا من خارجها، وأن الجامعة يجب أن تكون مستقلة، وكان أول من رفع شعار “الجامعة تدار من داخلها” هو أسامة حافظ.
نستطيع أن نؤرخ بهذا المعسكر الذي عزل فيه أسامة السيد لحالة الانشقاق والانفصال بين الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية، هنا ظهر بوضوح أن ثمة كيانيْن إسلامييْن من الشباب في الجامعة، والفارق بينهما واضح.
لم يُسَلِّم الإخوان بأمر عزل أسامة السيد وتنصيب ناجح إبراهيم أميرا، فاستمر أسامة السيد أميرا للشباب الإسلامي التابع للإخوان المسلمين بجامعة أسيوط، وصار ناجح إبراهيم أميرا لشباب الجماعة الإسلامية في أسيوط، غير أننا (شباب الجماعة الإسلامية) كنا الأكثر عددا وانتشارا وتأثيرا، فلم يكن الانشقاق معبرا عن نصفين أو فريقين متكافئين، بل لم تزل الجماعة الإسلامية هي صاحبة الصوت الإسلامي في الجامعة، والأمير هو ناجح إبراهيم قولا واحدا، لكن الذي صار معروفا أن شباب الجماعة الإسلامية شيء وشباب الإخوان شيء آخر، لا هؤلاء يتبعون لأولئك ولا أولئك يتبعون لهؤلاء.
مثلا، لم يكن للإخوان من أمراء الكليات إلا أسامة السيد أمير كلية الطب، وأحمد كمال أمير كلية العلوم والبقية معنا، اثنان فقط في كل جامعة أسيوط! ولذلك منعناهم من الحديث أو إصدار بيانات باسم الجماعة الإسلامية، إذ كانت هذه البيانات تعبر عنا نحن.
وهذا التمايز لم يكن أيضا يعبر عن كيانيْن لكل منهما فكر مخالف للآخر، فلم نكن نحن في الجماعة الإسلامية نحمل فكرا مناقضا للإخوان، إنما هو تمايز يعرف به أن “الجماعة الإسلامية” ليسوا من الإخوان المسلمين.
حاولت فيما بعد القيام بخطوة توفق وتقرب بين الجانبين، واقترح أسامة حافظ أن نقسم معسكرا عاما نجمع فيه كل إخوة الجامعة من كان منهم من الإخوان أو من كان منهم خارج الإخوان، كأنه معسكر تصالحي، ثم اختاروني لمسؤولية هذا المعسكر على اعتباري الشخصية التصالحية التي تربط بين الضفتين!
حضر الشباب من الكيانين: الإخوان والجماعة الإسلامية، وكان المعسكر سبع مجموعات، وحضره أسامة السيد ومعه أخ آخر اسمه أحمد زياد، وتولى كلا منهما مسؤولية مجموعة، وكان مجلس شورى المعسكر يتكون من أمراء المجموعات السبعة، وبهذا كان أسامة السيد وأحمد زياد ضمن هذا المجلس، وذكرت لهم في اجتماع مجلس الشورى أنه يجب أن نعمل في الجامعة كيد واحدة، وألا تفرق بيننا الانتماءات، هذا إخوان وهذا جماعة إسلامية، واخترنا موضوعات المعسكر للتأليف بين الكيانيْن: الإخوان والجماعة الإسلامية، كما اخترناها بحيث نبتعد تماما عن ذكر الخلاف أو ذكر الجماعتين لا بخير ولا بشر، فنقتصر على الموضوعات الشرعية والمعاني الروحية والأخلاقية، وخططنا ليأتي نصف الدعاة الذين سيحاضرون في المعسكر من الإخوان ونصفهم الآخر من خارج الإخوان.
لكن ومع ذلك فقد وقع المحظور..
وهذا ما نتناوله إن شاء الله في الحلقة القادمة.