مقالاتمقالات مختارة

مدى جواز زرع قلب خنزير لإنسان .. رؤية فقهية مقاصدية

مدى جواز زرع قلب خنزير لإنسان .. رؤية فقهية مقاصدية

بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد

نجح جراحون أمريكيون في زرع قلب خنزير معدل وراثيًّا داخل جسم إنسان، في سابقة عالمية أعلنت عنها كلية الطب في جامعة ميريلاند الأمريكية، الاثنين: 11 يناير 2022م، وكانت هذه التجربة قد بدأت في أكتوبر من عام 2021م، وأثارت وقتها جدلا طبيا واسعا، وها هي اليوم بعد نجاحها تثير الجدل نفسه، لكن الجدل الفقهي ازداد واتسع لنجاح التجربة، ما بين مانع ومبيح.

مبادئ إفتائية مهمّة

ولكي نستطيع أن نصل إلى حكم شرعي لهذا التصرف بمنهجية صحيحة يجب التأكيد على عدد من الأمور:

أولا: أن هذه نازلة جديدة أو مستجد من المستجدات، ومن ثم تحتاج إلى اجتهاد جديد بإفتاء منهجي في ضوء نصوص الشريعة الإسلامية ومقاصدها، وفي ضوء فهم فقه أئمة المذاهب.

ثانيا: أن الاجتهاد والفتوى لمثل هذا المستجد لا يصلح فيه الفقهاء وحدهم، ولا أفراد الفقهاء، وإنما لابد من اجتهاد جماعي عبر المجامع الفقهية، مثل: مجمع البحوث الإسلامية في مصر، ومجمع الفقه الدولي في جدة، والمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، وغيرها، فاجتماع الفقهاء معًا وتداول الرأي في النوازل والمستجدات وتقليبه على الجوانب كافة يكون أدنى للسلامة وأقرب للصواب إن شاء الله.

ثالثا: أن الفقهاء (ولو اجتمعوا جماعيًّا) لا يستطيعون إصدار أحكام وحدهم في هذه النازلة، كما سبقت الإشارة إليه، بل لا بد من الالتقاء بالخبراء، وهم هنا الأطباء والمختصون في كل ما يتعلق بهذه العملية الطبية؛ حيث يجب السماع منهم والإنصات التام لحقيقة هذا التصرف، والسؤال عن كل ما يمكن أن يكون له صلة أو تأثير في الحكم الشرعي، ثم الصدور بعد ذلك عن رؤية بصيرة تنبني فيها فتاوى الفقهاء على تقارير الخبراء.

ماذا نريد من الخبراء؟

حين يلتقي الفقهاءُ مع الخبراء (الأطباء والمختصين) ينبغي أن يستمعوا باهتمام وإنصات، ويسألوا عما بدا لهم، كي يتصوروا الواقع تصورا دقيقا مطابقا لحقيقته؛ حتى يكون حكمهم الشرعي في مناطه الصحيح بحيثيات سليمة، ويمكن أن يفيدَ الأطباءُ الفقهاءَ بالآتي على سبيل المثال لا الحصر:

أولا: مدى “استحالة” –يعني تحوّل– القلب الخنزيري إلى مكونات وجينات وراثية وخصائص خَلْقية تنقله من وصف “الخنزيرية” إلى وصف يفارق هذا الوصف، والاستحالة معروفة لدى المختصين فيها من علماء الصيدلة والجينات الوراثية وغيرهم، فهل الخنزير الذي سيؤخذ منه القلب، أو هذا القلب “تحول” أم لا يزال يتمتع بكل أوصاف “الخنزيرية” و”جيناتها”؟؛ لأن لهذا تأثيرا في الحكم الفقهي كما سيأتي.

ثانيا: إلى أي حد يصلح طبيًّا هذا القلبُ “الخنزيري” لجسم الإنسان، هل جيناته صالحة لمكانها في جسم الإنسان؟ هل سيصلح مدة قصيرة أم طويلة أم أبدية؟ هل هو غير صالح أصلا؟ كل هذه أسئلة مهمة تستدعي إجراءات طبية وبحثية للوصول إليها؛ لما لها من أهمية في تصوير المسألة، وابتناء الفتوى عليها.

ثالثا: هل امتنع كل سبيل، واختفت كل وسيلة، وانتهت كل آلية طبية لإنقاذ الإنسان بحيث يتعين زرع هذا القلب الخنزيري للإسنان بما لو لم يزرع له هلكت النفس، أم أن هناك وسائل أخرى يمكن إنقاذ المريض بها وحفظ نفسه؟!

كيف سيفتي الفقهاء؟

إذا اتضح تصور المسألة لدى الفقهاء من خلال ما عرضه الأطباء، وسألوهم عن كل ما له صلة بالاجتهاد في إصدار حكم بما يمثل حالة منهجية للإفتاء الصحيح هنا، فإن المتبع شرعًا وإفتاءً في مثل هذه الحالات ما يلي:

أولا: ينبغي أن يقرر الفقهاء في البداية تعظيم الشريعة الإسلامية للنفس البشرية، حتى جعلتها كلية أساسية من الكليات الضرورية لمقاصد الشريعة، وأباح الله لهذه النفس بعض المحرمات حال الضرورة، وأمر بالتداوي من أجلها، وفرض حدا شرعيا لقتلها، وقدم بعض الأصوليين حفظها على حفظ الدين من وجه ما، إلى آخر هذه المعاني التي تمثل مهادا وأصلا للانطلاق في الاجتهاد والإفتاء في هذه المسألة.

ثانيا: توضيح أن حرمة لحم الخنزير قطعية لا مجال فيها للاجتهاد، فقد ثبت حرمته بالنص القرآني في أكثر من موضع، وجاءت صيغته بلفظ “التحريم” الصريح، وهذه من أقوى الصيغ في التحريم، نذكر من ذلك على سبيل المثال، قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَیۡكُمُ ٱلۡمَیۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِیرِ وَمَاۤ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَیۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَیۡرَ بَاغࣲ وَلَا عَادࣲ فَلَاۤ إِثۡمَ عَلَیۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمٌ﴾ [البقرة: 173]، وانظر: [المائدة: 3، والنحل: 115].

ثالثا: أن “عين” الخنزير نجسة عند جمهور الفقهاء، أما عند المالكية فالخنزير طاهر العين ما دام حيًّا، فإذا مات أصبح نجسًا، وذلك مثل اختلافهم في “عين” الكلب باختلاف يسير؛ فرأى الشافعية والحنابلة أن أي جزء من الكلب نجس، وكذلك الحنفية غير أنهم يحصرون نجاسته في لعابه وبوله وعرقه وسائر رطوباته “عرقه وغيره”، وما سوى ذلك منه طاهر، وأما عند المالكية فالكلب عندهم طاهر كله، هو وسائر رطوباته ولا يُنجس أحدًا.

رابعا: أن مسألة “الاستحالة” لا بد من التأكد منها والاستفسار عنها من الخبراء، فإذا كانت الاستحالة حاصلة فيجوز التداوي بأي أجزاء “متحولة” دون حرج، ودون الوصول لحال الضرورة؛ لأنه باستحالته أصبح حلالا، وأما إذا كانت الاستحالة لم تتم فيرجع الحكم لأصله وهو الحرمة التي لا تباح مطلقا إلا للضرورة، وهنا يأتي البند الثالث من المراد من الخبراء، ويستحضر الفقهاء مدونة النصوص الشرعية في إحياء النفس، وكذلك مدونة القواعد الفقهية في الضرورة والضرر وما يتعلق بها ويندرج تحتها.

خامسا: إذا كان القلب الخنزيري غير صالح للزرع والبقاء في جسم الإنسان نتيجة لأسباب جينية وطبية، فيبقى الحكم على حرمته؛ لأن القلب -والحالة هذه- يكون هو والعدم سواء، أما إذا كان صالحًا لمدة قصيرة أو طويلة أو أبدية فلكل حالة حكمها، وهذا يقدره الفقهاء مع الخبراء.

إن الإفتاء في مثل هذه النوازل يجب أن يكون منهجيا ودقيقا بعيدا عن التسرع الطبعي والنزق الفكري والشبق الإعلامي؛ فقد يكون في إجازتها إنقاذ لنفوس كثيرة، والعكس صحيح؛ فهذه أحكام شرعية دقيقة، ومسؤولية أمام الله تعالى، فلْيعلَمِ المفتي عن مَن ينوبُ في فتواه، وليوقن أنه موقوف ومسؤول غدا بين يدي الله.

المصدر: الجزيرة مباشر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى