مقالاتمقالات مختارة

مدخل إلى الفقه السياسي الإسلامي.. النسب القرشي

بقلم محمد الصياد

يتميز الفقه السياسي الإسلامي كونه فقها ديناميكيا يتفاعل مع الواقع، وليس فقها جامدا، أو مثاليا مجردا عن الواقع وصراعاته وأولوياته، ورماله المتحركة، ذلك أنه -في شقه الأكبر- قائم على اجتهادات وظنيات لا على قطعيات وثوابت.

لذا، فإن معظم نظريات الفقه السياسي الإسلامي هي نظريات تكتيكية وليست استراتيجية، تتحاكم إلى الواقع ودوافعه وخلفياته وأبعاده، لا إلى المثُل والأخلاق فحسب. ومن هنا وجدنا زلة البروفيسور وائل حلاق ومن لفّ لفيفه حول الدولة المستحيلة، لأنه بنى في ذهنه نموذجا ماضويا وقولب الواقع الراهن عليه، وارتأى أن هذا الواقع شيء مغاير تمام المغايرة للصورة التقليدية التي في ذهنه، وبغض النظر عن حقانية تلك الصورة التقليدية التي في ذهنه، التي زعم فيها أن الفقهاء كانوا فوق الأمراء، وأن الأخلاق المحضة كانت هي المتحكمة في رسم السياسات الداخلية والخارجية، وبغض النظر كذلك عن تجاهل سقطات كبرى للدولة العباسية والأموية من قبلها، وبغض النظر عن هذه الدول المتعاقبة التي لا يمكن اعتبارها حجّة على الإسلام نفسه وليست هي النموذج المنشود لدينا.

لأنها دول تعاملت وفق معطيات عصرها وتحدياته وخرائط صراعاته، وتياراته الفكرية والفلسفية المختلفة عن تيارات اليوم وصراعات اليوم، بغض النظر عن مدى صوابية وحقانية كل ذلك لأن هذا بحث طويل يحتاج إلى إفراد، فبغض النظر عنه فإن دراسة الفقه السياسي الإسلامي من زاوية العلم؛ أي علم الفقه والنصوص الواردة ودلالاتها وعللها ومقاصدها، وليس من زاوية الممارسة العملية للدول الإسلامية المتعاقبة يظلّ أمرا مهما جدا ومفتقَدا بأصالة ومنهجية حتى يومنا.

ويُمكن القول إنه بعد ابن خلدون لم يأت مُنظّر حقيقي للفقه السياسي، سوى ما اقترن بالمدارس الإحيائية والإصلاحية في بدايات القرن العشرين، وإن كانت في معظمها ارتكزت على الفقه التقليدي المتوارث في الجانب النظري، وعلى التوليفية والتلفيقية في الجانب العمليّ. ولا يفوتنا هنا أن المقاربة الحلاقية -نسبة إلى وائل حلاق- هي نفس مقاربة داعش، وهي نفس مقاربة العلمانيين، وهي نفس مقاربة بعض أجنحة الحركة الجهادية، وجميعهم متفقون على أن عالم اليوم لا يصلح لتطبيق الإسلام أو إقامة دول معبّرة عنه.

وترى وجهة النظر تلك أن الدولة الأموية والعباسية أفضل من يمثل التجربة الإسلامية في الحكم، حتى وجدنا بعض الإسلاميين يدافع عن يزيد ابن معاوية وأفعاله، ووجدنا آخر ينصف الحجاج بن يوسف في رسالة دكتوراه بعنوان “الحجاج المفترى عليه”، فيزيد ابن معاوية صاحب حقانية في مواجهة الحسين بن عليّ الذي خرج عليه، والحجاج لم يخطئ في قتل ألوف التابعين ممن خرجوا عليه، وبهذا يُفهم التاريخ فهما أيديوجيا، لا ابتغاء تعلم الدروس منه، ولكن ابتغاء المكايدة وفرض وجهة النظر المقتطعة من السياق التاريخي. وهنا في هذه السلسة نحاول تفكيك مداخل الفقه السياسي، وإيضاح عناصر ديناميكيته.

أولا.. اشتراط النسب القرشي

اشترط جماهير أهل العلم النسب القرشي لتولي منصب الإمامة العظمى، وهو رأي الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء الأربعة. واستدلوا بحديث: “الأئمة من قريش”، وزعم بعض الفقهاء الإجماع على ذلك، وهو إجماع لا يصحّ ولا يستقيم، ولو سلّمنا به فهو إجماع مبني على العرف لا على النص، وفارق بين الإجماعين.

ويكفي معارضة الباقلاني والجويني وابن خلدون لهذا الرأي، فكيف انعقد الإجماع إذن؟ والتفت ابن حجر إلى بطلان دعوى الإجماع، وقال: “ويحتاج من نَقَلَ الإجماع إلى تأويل ما جاء عن عمر من ذلك”. وكأن ابن حجر يشير إلى أن المسألة خلافية اجتهادية قابلة للأخذ والرد، وكذلك يرفض الجويني دعوى الإجماع ويُدلل على أن المسألة اجتهادية ظنية، وليست قطعية ورودا ودلالة. فحديث “الأئمة من قريش” لم يبلغ -بحسب الجويني- مبلغ التواتر ولا حتى المستفيض المقطوع بثبوته، ورغم أن أكثرية الأمة تلقته بالقبول إلا أن الجويني اعترض عليه، وردّ متنه، فقال: “إنا لا نجد من أنفسنا ثلج الصدور، واليقين المبتوت بصَدَر -أي بصدور- هذا من فلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما لا نجد ذلك في سائر أخبار الآحاد، فإذن لا يقتضي هذا الحديث العلمَ باشتراط النسب في الإمامة”. والذي يبغيه الجويني من وراء ذلك إثبات أن المسألة برمتها اجتهادية ظنية، ولم تُبن في الأساس على نص مقطوع به. فالنسب القرشي ليس له عند الجويني مستند من العقل ولا من النقل، ولكنه وجد تطابق الأمة عليه، فوافقهم من باب الواقع لا من باب النظر.

وفي نظري أنه لا خلاف بين الفريقين، فمن اشترط النسب القرشي نظر إلى المتوارث -السيرة العملية للمسلمين- لأنها أقوى من حديث الآحاد، لأن الدليل لو انحصر في حديث الآحاد ما اتفقت الأمة عليه، بل انضم إلى الحديث سيرة المسلمين العملية، أو ما يُمكن تسميته بالظاهرة التاريخية، أما الجويني وغيره من المعترضين فنظروا إلى الظاهرة الروائية فقط. وباب الجمع بين الفريقين أن هذا الشرط إنما وُضع أولا قبل انتشار بقعة الإسلام، لأن مقبولية المؤمنين منحصرة في قريش زعيمة القبائل وأمها وقتئذ، ولكن لما انتشرت البقعة، وخرجت الحدود شرقا وغربا، وجب إدخال المؤمنين الجدد والكثر في محل الولاية على أنفسهم وعلى النظام، فتم إلغاء هذا الشرط الذي انعقد عليه الإجماع من قبل، وهذا ما ألمح إليه ابن خلدون.

الحق الذي لا حق غيره في عصرنا هذا أن الإمامة أو الرئاسة أعلى هرم السلطة التنفيذية لا يُشترط فيه نسب قرشي، بل تنتخب الأمّة من تشاء، ومن ترى فيه الأهلية لتولي أمورها وإمساك زمامها

أي إنه إجماع عُرفي لا نصي، وفارق كبير بين الإجماعين، فالأول ينتهي العمل به إذا تغيرت العوائد والأعراف بخلاف الثاني. وفي هذا السياق يُحمل قول مالك: “ولا يكون الإمام إلا قرشيا، وغيره لا حكم له، إلا أن يدعو إلى الإمام القرشي”. وربما يعضد ذلك أن أبا بكر الباقلاني وهو رأس المالكية في عصره لم يقبل اشتراط النسب القرشي.

 وهنا ملمح مهم آخر، إن كثيرا من الفقهاء أجازوا الخضوع للمتغلّب، ولم يشترطوا في هذا الخضوع أن يكون المتغلب قرشيا، لأن في اشتراط هذا الشرط تضييع للعلة التي عللوا بها الخضوع، وهي درء المفسدة وتجنب المضرة. هذا كله بالإضافة إلى وجود أحاديث أخرى معارضة لأحاديث النسب القرشي مما يستوجب النسخ أو الترجيح أو الجمع. والنسخ لم يقل به أحد والتاريخ غير معلوم، والترجيح وارد في حال وجود راجح ومرجوح وصحيح وأصح، فلم يبق هنا سوى الجمع بين الأدلة باعتبار المقاصد والعلل والسياقات.

وأخيرا، فلا يجوز الاستدراك هنا بالسيرة العملية لجمهور الصحابة والتابعين، هذا على فرض التسليم بها، وإلا فتلك السيرة العملية مُتَنَازَعة ومتجاذبَة بين القوم، فالصحابة أنفسهم اختلفوا حول من يخلف النبي صلى الله عليه وسلم، واختار بعضهم نفرا من الأنصار ولم يُعارَضوا بشرطية قريش حينئذ، بل عورضوا بمبررات أخرى.

الخلاصة

والخلاصة أن شرط القرشية كان في بادئ الأمر وصدر الإسلام نظرا لقوة العامل القبلي وقتئذ، وانتفاء العامل المؤسساتي، ومن ثم انعقد الإجماع المبني على الأعراف والعوائد لا الإجماع النصي، ومن ثم تغير الإجماع وانتهت فعاليته بانتهاء العرف الذي انبنى عليه، علاوة على انتفاء الإمامة العظمى في هذا العصر، واشتراط القرشية في ولاة الأقاليم ورؤساء البلدان لم يقل به أحد. وإن الحق الذي لا حق غيره في عصرنا هذا أن الإمامة أو الرئاسة أعلى هرم السلطة التنفيذية لا يُشترط فيه نسب قرشي، بل تنتخب الأمّة من تشاء، ومن ترى فيه الأهلية لتولي أمورها وإمساك زمامها، أما وضع قيود على اختيار الأمة ومقبولية المؤمنين فهو ما لا يمكن قبوله عقلا ونقلا. وإن تلك العقليات التي تفهم الدليل منزوع الصلة عن سياقاته وتاريخه وظروفه وملابساته هي سبب ما تتعرض له الأمة من تشتت وتفتت وضجيج.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى