مقالاتمقالات مختارة

مخاطر في طريق العمل السياسي يجب اجتنابها

بقلم د. قاسم بن علي العصيمي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإنه إذا كان لكثير من الأعمال مبررات وعوائق، فإن لها أيضاً منزلقات ومخاطر على المسلم اجتنابها، ومن تمام النصح لمن ارتضى سلوك طريق المشاركة السياسية أن تبيّن له هذه المخاطر، التي هي واقع ملموس من تجارب الآخرين، أدركوه متأخرين فصاحوا وندموا وأوصوا بتداركه، ولا أعني هنا الكلام عن مشروعية المشاركة السياسية من عدمها، فلهذا بحثه الخاص.

وهذا الموضوع قد ينتمي إلى ضوابط المشاركة السياسية، وقد ينتمي إلى محاذير وتنبيهات، وقد ينتمي إلى غيرها من المواضيع المقترحة في أوراق هذا المؤتمر، وأياً كان فهو موضوع يستحق أن يفرد ليتمم أوراق عمل هذا المؤتمر، وهذه المخاطر كثيرة، ولكنني اخترت أبرزها فيما ظهر لي، وهي كالتالي:

الخطر الأول:

أن ينجرف السلفيون مع الأيام إلى دائرة واحدة؛ هي دائرة العمل السياسي، ويتضخم عندهم هذا الجانب على حساب الجانب العلمي والتربوي والدعوي وغيرها من الجوانب، بل قد تبتلعهم المشاركة السياسية كما ابتلعت غيرهم من الجماعات الإسلامية، ثم يدخلون في إشكالية تفسير العمل السياسي، فيصير هو الحقيقة المطلقة التي يُفسَّر الدينُ كله من خلالها أو هي الدين كله!!

يقول الأستاذ هشام جعفر رئيس تحرير موقع إسلام (أون لاين): “وهذه بالمناسبة إشكالية قائمة في الفكر الإسلامي المعاصر، وبدت واضحة في السجال الذي دار بين كل من المودودي والندوي حول التفسير السياسي والتفسير الحقيقي للإسلام، بالإضافة إلى الحوار بين فكر الإخوان وفكر سيد قطب، كما برز في كتاب (دعاة لا قضاة)”.

ثم قال: “إن اختزال الإسلام إلى سياسة وسياسة فقط، وسلطة وسلطة فقط، ودولة ودولة فقط هو أهم الأسباب الكامنة والباعثة لمسألة العنف والتغيير بالقوة..”(1) اهـ

الخطر الثاني:

التمهيد للعلمنة من خلال الأدوات التي تستخدم في الممارسة السياسية؛ لأن في بُنيتها التكوينية قدراً كبيراً من العلمنة، بل تحولت هذه الوسيلة والأدوات من وسيلة اقتضتها الضرورة إلى هدف في حد ذاته(2).

فبدلاً من أن تبقى مسألة الديمقراطية مسألة واقع مفروض غير مقبول عقائدياً إنما نتعامل معه في إطار قاعدة المصالح والمفاسد، تصبح الديمقراطية مع التنازلات هي الإسلام السياسي وهي طريقة الخلفاء الراشدين!!

وتصير المشاركة السياسية لغرض المشاركة ذاتها، ويصبح تأسيس الحزب والحفاظ عليه هو الدين كله وإن لم تتحقق به أي مصلحة.

مع تمييع المفاهيم الثابتة في الإسلام كالولاء والبراء، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنها تُذبح كل يوم باسم العمل المشترك مع الدول الكبرى الراعية للديمقراطية، وفي وسائل الإعلام تحت شعار حرية الرأي”(3).

الخطر الثالث:

أن يُهمّش دور العلماء الذين هم ورثة الأنبياء داخل الحزب، ويصبحون مجرد ديكور جذّاب للعامة من الناس، ويُقدّم من يُسمَّون بالسياسيين بحجة التخصص، كما قُدّمت تخيلات الفلاسفة وجدليّات المتكلمين على كلام الصحابة وأئمة الدين، بحجّة كون الفلاسفة والمتكلمين أرباب الحكمة والمنطق!!

وإقصاء العلماء والتضييق عليهم في الأحزاب الإسلامية ظاهر ومعروف لا يحتاج إلى دليل، وبسببه انحرفت بعض الأحزاب الإسلامية في عملها السياسي، وعرضت فيه المسائل الشرعية إلى تصويت القاعة التي فيها العالم والجاهل!!

والمقترح للخروج من هذا المزلق الخطير أن تكون الكلمة للعلماء، وأن تكون للحزب هيئة شرعية من العلماء الصادقين المتمكنين، وأن لا تعرض المسائل الشرعية لتصويت القاعة التي فيها العلماء وغير العلماء، بل يُقصر ذلك على أهل العلم، والأصل فيه النظر إلى قوة الحجة في الأقوال المختلفة، لا إلى قول الأكثرية، ويمكن أن تُضبط هذه القضية بتصور خاص، ليس هذا مقام بحثه.

الخطر الرابع:

أن يسبق العملُ السياسي التنظيرَ الشرعي، ثم يقوم التنظير للعمل السياسي المعين لاحقاً؛ لإسباغه الشرعيّة وتلبيسه بلباس الإسلام، كما هو واقع بعض الممارسات السياسية من بعض الأحزاب(4).

وسواء كان هذا العمل السياسي المعيّن صواباً أو خطئاً؛ إلا أن الإقدام عليه قبل معرفة حكمه قد يكون هو نفس ما نهى الله ورسوله عنه، كما قال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36].

وقد جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القُضاة الذين يدخلون النار: قاضٍ وافق حكمُه الحقَّ، ولكنه حكم بجهل.

الخطر الخامس:

أن يُختزل العمل السياسي بمعناه الواسع في مجرد فقهٍ سياسيٍّ يبحث في كيفية التعامل مع الأنظمة، فينحصر بمعنى أدقّ في مفهوم المشاركة السياسية في ظل هذه الظروف الاستثنائية التي تمر بها الأمة الإسلامية، فيُترك فقه الدولة بمعناه الواسع الذي يشمل العمل السياسي الذي لا يلزم منه التنظيم الحزبي كما يُترك التأصيل لبناء رؤى سياسية قادرة على التعامل مع القضايا الجزئية والكلية، وهذه النظرة المختزلة تعتريها جوانب من النقص؛ لعدم شموليتها وإحاطتها بالإطار العام للسياسة الشرعية المتكاملة.

الخطر السادس:

اضطراب الخطاب السياسي وعدم تجانسه مع الأصول أو الواقع، وهذا الاضطراب إما بثُنائيةٍ مفخّخة كما يقال أو متناقضة، كما هو واقع الآن في تونس ومصر وغيرهما، فمرّة يصرّح بقبول دولة مدنية هكذا بإطلاق، ومرة تُقيّد بمرجعيتها الإسلامية، ومرة تُرفض الدولةُ المدنية وينادى بالدولة الإسلامية.

وتسمع من الشخص الواحد: نريد تحكيم الشريعة كما تسمع منه: نريد دولة علمانية مدنية. وترى شخصاً يرفع شعار “الإسلام هو الحل”، ثم تسمع منه حينما يُسأل: ماذا تقصدون من قولكم: “القرآن دستورنا”؟ فيقول: هذا عبارة عن شعار عاطفي!!

وقد يكون اضطراب الخطاب السياسي ناتجٌ من عدم انضباط بعض المفاهيم التي مازالت محل جدلٍ حتى عند الديمقراطيين أنفسهم، كمفهوم الأمة، والسيادة، والدولة، والمواطنة، ومسألة الفصل بين السلطات.. الخ.

فيستعجل بعض الإسلاميين في التفسير لهذه المفاهيم، ثم يسبغ عليها التنزيل الشرعي، ويظهر بعد ذلك خطاب آخر يتضمن تنزيلاً آخر وهكذا.

ويسبب هذا الاضطراب ارتباكاً عند الأتباع، وسخرية عند الأعداء، وانهزامية وعدم ثقة في حَمَلة المشروع الإسلامي.

الخطر السابع:

الوصول بالممارسة في العمل السياسي من قِبل الإسلاميين إلى إسقاط القيم الحميدة في الإسلام، والتخلي عن الأخلاق الفاضلة، وترك التميز الإسلامي، والدوران مع النفعية الضيّقة، والتأثر بأخلاقيات الرأسمالية، فاليوم يُنظر إلى الشخص أو الحزب أو الجهة الفلانية على أنه أكبر عدو، وغداً يُنظر إليه كأكبر صديق أو العكس، بلا مبرر شرعي ولا مراعاة للقيم ولا تغيُّر في “الأيدلوجيات” والمواقف، بل للمنفعة الآنية، كما تفعل الدول في سياساتها.

أسأل الله تعالى أن يجنَّبنا الزلل، وأن يهدينا لما اختُلفَ فيه من الحق بإذنه، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وموافِقةً لسنّة رسوله صلى الله عليه آله وسلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر الإسلاميون وتحديات بناء مشروع ديمقراطي: ص82، وينظر ما كتبه كمال السعيد في مجلة المنار الجديد.

(2) المصدر السابق: ص(84).

(3) ينظر مجلة البيان: 205/ 12) الفكر السياسي الأمريكي والحركات الإسلامية قراءة في أوراق الشريك الإسلامي المطلوب لمحمد سليمان أبو رمان.

(4) يُنظر: إسلاميون وديمقراطيون إشكاليات بناء تيار إسلامي ديمقراطي: ص87 لمجموعة باحثين، إصدار مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام.

(المصدر: رابطة علماء المسلمين9

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى