مقالاتمقالات مختارة

مخاطر الليبرالية المتحجرة

مخاطر الليبرالية المتحجرة

بقلم كلير فوكس

ترجمة: عبدالله بن خليف / تحرير: ناريمان علاء الدين

“الليبراليون الذين يقمعون الرأي تفاديًا لوقوع أذى يخاطرون بصناعة الإستبداد”

كلير فوكس

– – – – –

إن كان هناك من تجل واضح لليبرالية المتحجرة، فهو ذاك الرد الوارد على أحد المقالات. بعدما نشرت مجلة (The Economist) مقالًا بقلم كاثلين ستوك، قارئة في الفلسفة من جامعة سسيكس (University of Sussex)، تساءلت فيه بحساسية عما إن كان “الإعتراف الذاتي لوحده من الممكن أن يكون المعيار الوحيد للتحول الجنسي”، قامت نقابة الطلاب في جامعة سسيكس باتهامها بأنها ترانسفوبية (كارهة للمتحولين جنسيًا). وفي البيان الرسمي صرحت النقابة: “إننا لن نتساهل مع الكراهية في حرمنا الجامعي”، وقالوا بأن “حياة المتحولين وغير ثنائيي الجنس ليست قابلة للنقاش”.

لقد أصبحت هذه العبارات الرئيسية: “لن نتساهل” و “ليست قابلة للنقاش”، مستعملة بشكل متكرر لقطع النقاش حول المسائل التي حُكم عليها بأنها محظورة، دائمًا تحت شعار “حماية” المستضعفين من خطاب موصوف بالكراهية. إن النسخة العلمانية من التكفير هذه ناشئة عن نص مقدس كُتب من قِبَل من يدَّعُون أنهم ليبراليون، وإنك إن تجرأت على مساءلتهم فقد حُكم عليك بالهلاك.

أنا مازلت أعتبر نفسي ليبرالية بالمعنى التنويري للكلمة، لكن عليّ الاعتراف بأنه من المربك أن تكون ليبراليًا في هذه الأيام. لا أزال ألتمس الإلهام من جون لوك وجون ستيوارت مِل والمزيد من هؤلاء المحاربين عن الحرية في ستينيات القرن العشرين الذين تحدوا القمع والتيار العام. ومن نتائج تلك الجهود في بريطانيا أن أصبحت المثلية الجنسية والإجهاض في عام ١٩٦٧ مجرّمين جزئيًا فقط، وأصبح المجتمع أكثر تسامحًا وتساهلاً. تلك هي القيم الليبرالية التي أعرفها وأُعجَب بها.

على النقيض من ذلك، الغالب على من يُسمون اليوم بالليبراليين التقدميين عدم التسامح، والتشنيع الرسمي ضد من يعبر عن نظرة – كما يصفونها – غير تقدمية. إنهم يحتقرون الجميع علنًا، من مناصري ترمب واتفاقية بريكست (أولئك “الآخرين” الذين تجرؤوا على التصويت للجهة الخاطئة ولم يلتزموا قيمهم “المتسامحة”) إلى أولئك الذين يسيرون في طريقهم الخاص ويرفضون متابعة المسار الليبرالي. لقد لاحظ الكثير الحرب الأهلية المظلمة بين النسويات حول إشكالية التحول الجنسي، أو التشنيع على كل من لا يناصر حركة #MeToo بشكل كامل. نساء بارزات، كثير منهن يعتبرن أنفسهن نسويات ليبراليات، تم قلبهن واتهامهن بالخيانة لجرأتهن على المعارضة.

لقد قوبل مقال الروائية مارجريت أتوود المثير للإهتمام: “هل أنا نسوية سيئة؟” بغضب شديد من زميلاتها النسويات. لقد اتهمت الروائية البارزة بأنها ممن “يلوم الضحية ويدافع عن الاغتصاب”، وقيل أن هذا كله ناجم فيما يبدو عن “امتيازها العرقي الأبيض”. من المفارقات أن مقال مارجريت أتوود نص على أن “أي شخص لا يتّبع آرائهم يُعتبرمرتدًا وزنديقًا وخائنًا”، ولكَم كانت محقة في هذا. وحين كتبت الممثلة كاثرين دينيف رسالة تعبرعن قلقها حول تداعيات حركة #MeToo على المغازلة، وجهت الممثلة آسيا أرجينتو اتهامًا لكاثرين ونساء فرنسيات أخريات يصفهن بأنهن “نساء ميسوجنيات (كارهات للنساء) أرداهن موقفهم إلى غير رجعة”. ولأنهن تجرأن على مسائلة “فاعلية التصرف الجنسي عند الأنثى”، قيل لكاثرين والأخريات أنه قد جرى غسل أدمغتهن.

وهذا الأسلوب المشين يُستخدم أيضًا ضد الليبراليين الذين يجرؤون على النقد الذاتي لليبرالية.

نشر مارك ليلا، بروفيسور العلوم الإنسانية في جامعة كولومبيا، نقدًا لاذعًا لجماعته لتسهيل وصول دونالد ترامب للبيت الأبيض. لقد ذاع صيت مقال مارك المنشور في جريدة النيويورك تايمز بعنوان “نهاية الهوية الليبرالية” لدرجة أنه تعرض للهجوم من قبل أقرانه. واتهمته كاثرين فرانك-زميلة البروفيسور مارك ليلا في جامعة كولومبيا- بأنه “يساهم في نفس المشروع الفكري” لديفد دوك (قائد سابق لجماعة كو كلكس كلان المعروفة بـKKK)، وقالت أن “كليهما متفقان على تلميع القومية الأمريكية”. وتقول كاثرين فرانك أن “مقالة مارك ليلا تقوم بالعمل الشنيع من أجل جعل الإستعلاء العرقي الأبيض مقبولًا”. هذا النوع من القذف والتشنيع الذي يمارسه الليبراليون المتحجرون هو النسخة المطابقة لـ“خطاب الكراهية” الذي يحاولون محاربته بلا تهاون!

مارك ليلا يريد أن يخلّص الليبرالية من سياسات التحجر الفكري. يقول في أحد كتاباته: “الليبرالية الأمريكية انجرفت نحو نوع من الهلع الأخلاقي تجاه الهوية العرقية والجندرية والجنسية مما أدى إلى تشوه الرسالة الليبرالية وعرقلتها من أن تكون قوة موحِدة وقادرة على الحُكم”. مارك لديه وجهة نظر جيدة، لكني مهتم بإنقاذ أحد أهم مبادئ الفكر الليبرالي “حرية التعبير”، والذي كثيرًا ما يكون عقبة متعبة تجاه العدل، أكثر من اهتمامي بإنقاذ الليبرالية بصفتها أيديولوجية حاكمة.

حرية التعبير محتكرة لجهة واحدة من أجل قمع الآراء والأشخاص الذين يعتبرهم الليبراليون “غير متسامحين”.

في تحول صادم قام اتحاد الحريات المدنية الأمريكي (American Civil Liberties Union) مؤخرًا بنبذ موقفها الليبرالي في المساواة تجاه قضايا حريات التعبير التي سوف تدافع عنها. مبادئها الجديدة المعنونة بـ”التعارض بين القيم المتنافسة أو الأولويات” تدعم صراحةً الرأي القائل بأن حرية التعبير يمكن أن تضر المجموعات “المهمشة”، بنصها على أن “الخطاب الذي يشوه مثل هذه الجماعات يمكن أن يلحق أضرارا خطيرة”. وأردفت بأنه “يهدف، وغالبًا يحقق، عرقلة التقدم نحو المساواة”.

وهذه الحالة تمثل أحد الطرق التي يغفل، او يتغافل، بواسطتها الليبراليون عن الحق في التعبير. فقد قاموا بتعريف “الأذى” بشكل موسع ونسبي حتى اشتمل على المشاكل النفسية المزعومة الناتجة عن التعبير عن الرأي. الموضة المعاصرة المتمثلة في النظر إلى المضطهدين سياسياً على أنهم ضحايا ضعفاء، أدت إلى خفض مستوى مبادئ حرية التعبير من أجل حماية تلك “الأقليات المهمشة” من الاعتداء.

بعض الليبراليين يرون أن حرية التعبير هو بمثابة حصان طروادة لخطاب الكراهية لليمين المتطرف. إعلاميون أمثال أوين جونز يرفضون الدفاع الحاصل عن الحق في التعبير ويراه بأنه صادر عن “يمينيين، متعالين على الغير، ذكور ذوو بشرة بيضاء كارهين للغير ويحاولون التظاهر بأنهم يسعون لحرية التعبير بينما هم في الحقيقة يسعون فقط لنشر كراهيتهم بدون أن يتعرض لهم أحد”، وهذا عائد إلى الجبن الليبرالي.

نظرة سريعة على تغطية قضية “أطلقوا سراح تومي” التي تدور حول الرقابة المزعومة على تومي روبنسون، وهو من مؤسسي حملة سيئة السمعة مناهضة للإسلام، تكشف كيف يتجنب الليبراليون الدفاع عن حقوق حرية التعبير “لغير المقبولين”.

أرى أن كثيرًا من آراء تومي روبنسون بغيضة، ولكن التفرقة في إعطاء الحقوق للآراء يخون المبادئ الليبرالية. والأسوأ من ذلك، أنه يعزز الأسطورة القائلة بأن “حرية التعبير” هي قضية “يمينية”.

“نوبة ذعر الحق في التعبير: كيف يصوغ اليمين أزمة” هو مقال يقع الإقتباس منه كثيرًا، ويقول فيه ويل دايفس: “السؤال المثير للإهتمام هو لماذا أصبح الحق في التعبير مبدأ لا يقدر بثمن بالنسبة للمحافظين ؟”. ربما يجدر أن يكون السؤال: لماذا أصبح الحق في التعبير مبدأ غير مقدر عند اليسار الليبرالي؟ أحد الأسباب بالطبع هو أن الليبراليين يخشون أن يتم انتقادهم من قبل صحفيين أمثال ويل دايفس، الذي يقول أن “المدافعين عن حقوق التعبير” ليسوا أكثر من خدم لليمين المتطرف. كاتبة صحفية أخرى في جريدة الجارديان، نسرين مالك، تقول أن “حرية التعبير لم تعد مبدأ ذا قيمة”. بل أصبح ثغرة يستغلها المستفزون والعنصريون ودعاة التطهير العرقي من دون عقاب”. أما أولئك الذين لا يتيسر وصمهم بالتزمت، ولعلهم أولئك المدنيين الليبراليين التحرريين، فيجري وصمهم على نحو متهكم بأنهم “محتالو حرية التعبير الذين يسلطون سياط النقد على ثقافة الصواب السياسي بصفتها تهديدًا استثنائيًا لحرية التعبير”.

إن هذا التشاؤم الليبرالي حول دوافع أولئك الذين يدافعون عن حرية التعبير يمكن أن يشوه بِدوره شعورهم بالتسامح مع الآخرين. تقول الكاتبة البريطانية والمحامية السابقة أفوا هيرش :”الحرب الثقافية، والتي عادة ما تظهر بأنها قتال حول حرية التعبير، في الحقيقة تعود إلى رفض خوض النقاش مع وجهة نظر الطرف الآخر”، وأتفق معها تمامًا في ذلك. ومع ذلك، انتقدت أفوا هيرش وبشدة “حرية التعبير” التي يُنسب فيها القلقون من “تهديد الهجرة” إلى أسوأ الدوافع الممكنة. تتهمهم السيدة هيرش باستخدام “لغة لطيفة… لتغطية مواقفهم الشريرة”.

لكن إذا كانت وجهة النظر الأخرى التي تخالف وجهة نظر أفوا هيرش (التي هي وجهة نظري أيضًا) تُنتقد على أنها وجهات نظر مسيئة وعنصرية صريحة، فما هو الأمل في وجود ثقافة سياسية ليبرالية شاملة؟ هذا النوع من القراءة – قراءة مابين الأسطر- للآراء السياسية التي يشجبها الليبراليون باعتبارها تعصبًا وكرهًا، تخبرنا الكثيرعن الليبرالين المتحجرين وتعجرفهم وإنغلاقهم. في الواقع، سوف يصبح الليبراليون ليبراليين مرة أخرى بمجرد أن يتخلوا عن هذا النوع من الاستهتار والتلطيخ ويدركوا أن حرية التعبير – حتى بالنسبة لأولئك الذين نحتقرهم – هي المشروع الليبرالي الأساسي. وبدون ذلك ، لن يكون صعود اليمين المتطرف الذي يُخشى في كثير من الأحيان أكبر تهديدٍ لحرياتنا. بدلاً من ذلك ، فإن الليبرالية المتحجرة، وباسم الليبرالية، ستكون ستكون هي اليد اليمنى للاستبداد.

(المصدر: موقع أثارة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى