مقالاتمقالات مختارة

محنة الإمام البخاري ومآل النسخة الأصلية من الجامع الصحيح

محنة الإمام البخاري ومآل النسخة الأصلية من الجامع الصحيح

بقلم محمود الشيخ

قال غنجار في “تاريخه”: سمعت أبا عمرو أحمد بن محمد المقرئ، سمعت بكر بن منير بن خليد بن عسكر يقول: بعث الأمير خالد بن أحمد الذهلي والي بخارى إلى محمد بن إسماعيل أن احمل إلي كتاب “الجامع” و”التاريخ” وغيرهما لأسمع منك. فقال لرسوله: أنا لا أذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب الناس. فإن كانت لك إلى شيء منه حاجة، فاحضر في مسجدي، أو في داري. وإن لم يعجبك هذا فإنك سلطان، فامنعني من المجلس، ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة، لأني لا أكتم العلم، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار فكان سبب الوحشة بينهما هذا”. انتهى. وقال أبو عبد الله الحاكم: “استعان الأمير بحريث بن أبي الورقاء وغيره، حتى تكلموا في مذهبه، ونفاه عن البلد”. انتهى

وقال الحاكم: “قال حريث بن أبي الورقاء وغيره: “هذا رجل مشغب، وهو يفسد علينا هذه المدينة، وقد أخرجه محمد بن يحيى من نيسابور، وهو إمام أهل الحديث، فاحتجوا عليه بابن يحيى، واستعانوا عليه بالسلطان في نفيه من البلد، فأخرج . وكان محمد بن إسماعيل ورعا، يتجنب السلطان ولا يدخل عليهم”. انتهى.

وقد شعر البخاري بظلم كبير بسبب هذه الحادثة المؤلمة خاصة وأن بعض المنتسبين للعلم كان له يد في ما حصل له وكذبوا عليه وتكلموا في عقيدته. وكان مما افتروه عليه قولهم أن البخاري يقول أن القرآن الذي هو كلام الله وصفته مخلوق، بينما كان البخاري يقول: إن القرآن المكتوب بين دفتي المصحف واللفظ المنزل مخلوق وأما القرآن الذي هو كلام الله وصفته ليس بمخلوق، وهو الحق والصواب.

قال إبراهيم بن معقل النسفي: “رأيت محمد بن اسماعيل البخاري في اليوم الذي أخرج فيه من بخارى، فتقدمت إليه، فقلت: يا أبا عبد الله، كيف ترى هذا اليوم من اليوم الذي نثر عليك فيه ما نثر؟ فقال: لا أبالي إذا سلم ديني”. انتهى.

نسخة الفربري التي بخط يده هي النسخة التي اعتمدها الإمام الصغاني لكتابة نسخته حيث أنه أثبت ما في نسخة الفربري من تهميشات وزيادات وسؤالات

فقرر رحمه الله الخروج من بخارى، وحمل كتبه معه وتوجه نحو مرو فاستقبله أحمد بن سيار، لكن البخاري لم يمكث كثيرا عنده بسبب مسألة اللفظ المنزل، فتوجه نحو فربر وبيكند فاستقبله أهلها، وأمكن للبخاري من عقد مجالس علمية هناك لتحديث الناس بالجامع الصحيح.

قال الحاكم: “سمعت أحمد بن محمد بن واصل البيكندي، سمعت أبي يقول: من الله علينا بخروج أبي عبد الله، ومقامه عندنا، حتى سمعنا منه هذه الكتب، وإلا من كان يصل إليه وبمقامه في هذه النواحي: فربر وبيكند، بقيت هذه الآثار فيها، وتخرج الناس به”. انتهى.

وهذا النص يوضح أن الكثير من العلماء قد تخرجوا من عند البخاري في تلك الفترة كمُحَمَّد بن سَلام، ومُحَمَّد بن يُوسُف ويحيى بن جَعْفَر الْكلابِي. كما يدل هذا النص أيضا أن الجامع الصحيح تم نسخه في فربر وبيكند وبقيت نسخ منه في تلك النواحي. وبيكند وفربر بلدتين بين بخارى وجيحون. قال ياقوت الحموي عند ذكر بيكند: “على مرحلة من بخارى، لها ذكر في الفتوح، وكانت بلدة كبيرة حسنة كثيرة العلماء، خربت منذ زمان” انتهى.

ثم ما فتئ أن لحقت بالبخاري المضايقات مرة أخرى، فقرر البخاري أن ينعزل عن الناس وحمل كتبه وذهب إلى قرية خرنتك سنة 256 هجري ونزل عند بعض أقاربه يسمى أبا منصور غالب بن جبريل الخرتنكي الذي كان من أهل العلم كما أفاده السمعاني في الأنساب. قال ابن عدي: سمعت عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي يقول: جاء محمد بن إسماعيل إلى خرتنك – “قرية” على فرسخين من سمرقند- وكان له بها أقرباء، فنزل عندهم. انتهى. فمكث البخاري عنده أياما من شهر رمضان فمرض. ومع ذلك فإن الذين ظلموه لم يريدوا تركه، فوجهوا من يخرجه منها وهو مريض.

وقد ذكر الذهبي القصة في السير نقلا عن محمد بن أبي حاتم وراق البخاري حيث قال: “سمعت أبا منصور غالب بن جبريل وهو الذي نزل عليه أبو عبد الله يقول: إنه أقام عندنا أياما، فمرض، واشتد به المرض حتى وجه رسولا إلى مدينة سمرقند في إخراج محمد، فلما وافى تهيأ للركوب، فلبس خفيه، وتعمم، فلما مشى قدر عشرين خطوة أو نحوها، وأنا آخذ بعضده، ورجل أخذ معي يقوده إلى الدابة ليركبها، فقال -رحمه الله-: أرسلوني، فقد ضعفت. فدعا بدعوات، ثم اضطجع، فقضى رحمه الله. فسال منه العرق شيء لا يوصف. فما سكن منه العرق إلى أن أدرجناه في ثيابه. وكان فيما قال لنا، وأوصى إلينا أن كفنوني في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة ففعلنا ذلك”. انتهى.

ومحمد بن أبي حاتم الرازي الورّاق النحوي كان من أخصّ تلاميذ البخاري وأكثرهم ملازمة له ورواية لأخباره. وكان ينسخ له ويكتب كتبه. روى عن غالب بن جبريل، ويحيى بن جعفر البيكندي وعمر بن حفص الأشقر، وسليم بن مجاهد، وغيرهم. وروى عنه محمد بن يوسف بن مطر الفربري وغيرهم. له كتاب: “شمائل البخاري” جمعه، وهو جزء ضخم.

وجاء في تاريخ دمشق ما نصه: “وروي عن أبي العباس الفضل بن بسام قال: سمعت إبراهيم بن محمد يقول: أنا توليت دفن محمد بن اسماعيل لما أن مات بخرنتك أردت حمله إلى مدينة سمرقند لأجل أن أدفنه فلم يتركني صاحب لنا من أهل سكجكث فدفناه بها”. انتهى. وجاء في السير للذهبي ما نصه: “قال محمد بن أبي حاتم: ولم يعش أبو منصور غالب بن جبريل بعده إلا القليل، وأوصى أن يدفن إلى جنبه”. انتهى.

دعوى بعضهم بأن عدم وجود نسخة أصلية بخط البخاري دليل على أن الجامع الصحيح ليس من تأليفه فهي دعوى باطلة

والصواب أن النسخة الاصلية المنقحة من الجامع الصحيح قد سلمها أبو منصور الخرتنكي لمحمد بن أبي حاتم وبقيت معه، بدليل أن الفربري كانت له مسودة بخط البخاري، فلما أراد كتابة نسخته استفاد أولا من محمد بن أبي حاتم وتلقى منه بعض الأحاديث التي أضافها البخاري لنسخته المكتملة ولم يكن سمعها منه مباشرة لتحقيق التلقي بالمشافهة.

ومن الاستفادات التي استفادها الفربري من محمد بن أبي حاتم نذكر ما كتب في النسخة المطبوعة: في كتاب المناسك: قال: محمد بن يوسف الفربري: وجدت في كتاب أبي جعفر قال أبوعبد الله الزبير بن عدي كوفي، والزبير بن عربي بصري. في كتاب المظالم: قال الفربري: وجدت بخط أبي جعفر قال أبوعبد الله تفسيره أن ينزع منه يريد الإيمان.

ثم كتب الفربري بعض التقيدات لإتمام التراجم والأحاديث الناقصة التي لم تكن في مسودة الجامع الصحيح. ثم قام الفربري بعد ذلك بتحرير نسخته كاملة مستعينا بالمسودة والتقيدات التي استفادها من وراق البخاري وعارضها على أصل البخاري المنقح. ونسخة الفربري التي بخط يده هي النسخة التي اعتمدها الإمام الصغاني لكتابة نسخته حيث أنه أثبت ما في نسخة الفربري من تهميشات وزيادات وسؤالات.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: “ثَبَتَ فِي نُسْخَة الصَّغَانِيّ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهُ قَابَلَهَا عَلَى نُسْخَة الْفَرَبْرِيّ الَّتِي بِخَطِّهِ” .انتهى. فالنسخة الأصلية بقيت مع ابن أبي حاتم ولا يعلم مآلها لقلة المصادر التي ترجمت له، وأما الفربري فقد بقيت معه مسودة الجامع الصحيح بخط البخاري ونسخة أخرى بخطه هو، مقابلة على النسخة الأصلية.

وأما دعوى بعضهم بأن عدم وجود نسخة أصلية بخط البخاري دليل على أن الجامع الصحيح ليس من تأليفه فهي دعوى باطلة لأنها مخالفة لقاعدة من قواعد التفكير العقلي وهي: “عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود” .و هذه القاعدة معروفة أيضا عند الغربيين يقولون: An absence of evidence is not an evidence of absence

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى