مقالاتمقالات مختارة

مجزرة الحجاج الأبرياء… صفحة سوداء من تاريخ الهند

مجزرة الحجاج الأبرياء… صفحة سوداء من تاريخ الهند

بقلم د. محمد علي الوافي

الحج موسم الهجرة إلى وحدة الأمة، وموسم الشعور الانفرادي بالتضامن الإنساني والتكاتف الإسلامي، يتجمع فيه العرب والعجم، الغني والفقير، القريب والبعيد على أساس رسالة ربانية وأخوَّة إسلامية. الروح تهجر فيه الغمومَ والأحزانَ، واللسان يلهج فيه بالتلبية والغفران، والقلب يشعر فيه بالفرح والحبور. هو عبادة فريدة تتجلى فيها وحدة الأمة، يعايش الحاج في موسمه أجواء إيمانية عصية على الوصف والبيان، ومنظر البيت الحرام يمنح المسلم شعوراً لا يفوقه شعور، والوقوف بعرفة ينقله إلى حال ينسى فيها جميع الملذات الدنيوية، وجميع الناس يتمنون أن لا تنقضي دقائق السعادة والقداسة التي يعايشونها في موسم الحج. لأن رحلة الحج والمناسك ليست رحلة البدن والجسم من بلدك إلى مكة بيت الله الحرام؛ ولكن في المرتبة الأولى هي رحلة قلب ومشاعر، ورحلة روح وخواطر، قلب وروح يرحلان معاً لكي يتزودا من بركات الله وفيوضاته، ويلتقيا بشعائر الله وحرماته، وبعد أن أدى الحجاج فريضة الحج يعودون بحصيلة وافرة من الخواطر الروحانية والمشاعر الإيمانية والفيوضات الربانية التي عاشوها وعايشوها ورأوها.

ذكريات محزنة في تاريخ حج الهنود:

وجميع مواسم الحج لا تنقضي إلا أن ذكريات أليمة وقعت في تاريخ حج الهنود تلتهب في قلوب أبنائها، وهي ذكريات محزنة كاد أن يدفنها أهل الهند في رمال النسيان، مجزرة غير مسبوقة في تاريخ مناسك الحج، ومذبحة غير إنسانية لم يشهد التاريخ مثلها في صفحاته السوداء. 300 أبرياء من حجاح الهند قد قُتلوا في طريق عودتهم بعد أداء مناسك الحج؛ إذ اعترضت لهم أنياب المستعمرين الغاشمة بقيادة واسكودي جاما (Vasco da Gama). وآلام المجزرة الدامية التي احمرَّت بها أمواج المحيط الهندي ما تزال تسكن ذاكرة المسلمين في الهند.

السيطرة على البحر العربي والمحيط الهندي كانت بيد المستعمرين البرتغاليين الذين جعلوهما مرتعاً لنهب السفن والقوارب التي يسوقها التجار العرب من الهند. والقوة الاستعمارية قد أبدت، منذ بداية تاريخها، عداوتها الراسخة في قلوبها البغيضة ضد للإسلام والمسلمين؛ إذ إن الحكم كان بيد المسلمين في الديار الهندية، ولم تدع القوة الاستعمارية أي فرصة إلا وقد استغلتها ضد الإسلام والمسلمين.

الأسباب التي أدت إلى المأساة التاريخية:

الأكاديميون الذين يتخصصون في تاريخ الهند قد عزوا أسباب هذه المجزرة إلى خيانة القوة الاستعمارية البرتغالية وجشعها في الحصول على النفوذ والقيادة في المحيط الهندي والبحر العربي. وقد خطط المستعمرون البرتغاليون للسيطرة على الأسواق التجارية في سواحل البحر المحيط إلا أنهم علموا أن العرب هم الذين يديرون هذه الأسواق التجارية للبضائع الصادرة عن أرض الهند والبلدان الشرقية. ولم يتمكن لهم الغش والغدر وإغلاء الثمن للبضائع الهندية، لأن العرب كانوا يستوردون البضائع الشرقية إلى الجزيرة العربية ومن هناك، إلى سواحل البحر المحيط. وكانوا يتمتعون بقيمٍ وأخلاقٍ تجاريةٍ عالمية، وعلاوة على هذا كان التجار العرب هم الذين يحددون التسعيرة للمنتجات الشرقية والخدمات التي تُوَفَّر في السواحل الهندية.

وقد أدركت القوة الاستعمارية البرتغالية أن نفوذها في السواحل الهندية لا يتم إلا بعد إجلاء التجار العرب عن السواحل الهندية، لأن وجود العرب يمنعها من إغلاء ثمن المنتجات الهندية في الأسواق الأوروبية؛ وذلك لأن العرب كانوا هم الهيئة المعتمدة في تسعيرة المنتجات الهندية والشرقية في سواحل البحر المحيط والسواحل الهندية. فنشبت العداوة في قلوب البرتغاليين ضد العرب والإسلام. وقد أيقنت القوة الاستعمارية أن المنافسة التجارية لا تنتهي إلا بذهاب التجار العرب عن السواحل الهندية، ولا تقع مقاليد التجارة وتصدير المنتجات الشرقية في أيديهم إلا بذهاب التجار العرب الذين يديرون التجارة العالمية في القرون الوسطى، فبدأت الخيانة والغدر والمقاتلة ضد التجار العرب في أراضي الهند وبحارها.

القوة البحرية في أيدي المسلمين:

وحسب معتقدات الهندوس الدينية وعاداتهم الاجتماعية، فإنهم لا يستطيعون ركوب البحر والمشاركة في المعارك البحرية، لأن الصحف المقدسة في الديانة الهندوسية تنص على أن ركوب البحر لا يجوز لهندوسي متدين. ولهذا السبب كان الملوك الهندوسيين يختارون المسلمين في جيوشهم ويعيِّنونهم في القوات البحرية. والمسلمون كانوا في أتم الوفاء والولاء للملوك الهندوسيين، وكانوا يدافعون أعداءهم في المعارك الحربية. ولعل من أروع القصص التي تدل على التسامح الديني تلك التي يتمتع بها أهل الهند في تاريخهم المشرق ذلك بأن الملك الهندوسي ساموتري (Zamorin of Calicut) الحاكم في كاليكوت (1495/ 1500م) كان يشجع الهندوسيين في مملكته على أن يعتنقوا دين الإسلام، وذلك كي تزول عنهم المعرقلات الدينية التي تمنعهم عن ركوب البحر. والمؤرخون يقولون بأن عدداً كبيراً من الهندوسيين قد غيروا معتقداتهم واعتنقوا ديننا الحنيف لكي يتمكنوا من المشاركة في المعارك البحرية.

علمت القوة الاستعمارية بأن المانع الوحيد الذي يبعدهم عن السواحل الهندية وعن السيطرة على التجارة الشرقية هو وجود المسلمين ونفوذهم في الأسواق الساحلية. وفي محاولةٍ أولى في سنة 1498م أدرك القائد البرتغالي واسكودي جاما (Vasco da Gama) أن خططهم الاستعمارية ومشاريعهم الاستغلالية لا تتكلل بالنجاح إلا بإزالة تلك القوة البحرية التي يديرها المسلمون في البحار الهندية. وفي رحلته الأولى لم تتحقق أحلام القوة الاستعمارية، لأنها قد لاقت مدافعة منيعة من قبل المسلمين وقد تقهقر واسكودي جاما (Vasco da Gama) ومَن تبعه من الملاحين البرتغاليين المستعمرين. ولَـمَّا علم ملك البرتغال، الذي كان أشد الناس عداوة على الإسلام والمسلمين، برجوع القوة الاستعمارية وخسارتها في محاولتها الأولى؛ التهب غضباً على قوَّته البحرية بقيادة واسكودي جاما (Vasco da Gama). وفي المحاولة الثانية قد أكثرت القوة الاستعمارية أعدادها وعُدَدَها لكي تتم السيطرة على التجارة الشرقية، ولكي يتم التبشير والتنصير في البلدان الشرقية.

الأمواج الحمراء بدماء الحجاح الأبرياء:

ومن أبشع الجرائم التي ارتكبتها القوة الاستعمارية البرتغالية في حق المسلمين في الهند، التي يعتبرها المؤرخون بداية إشهار العداوة بينها وبين المسلمين، هي مجزرة قامت بها القوة الاستعمارية الخبيثة في سطوح البحر العربي، حيث اعترضت القوة البرتغالية سفينة كانت راجعة من مكة تحمل على متنها حجاجاً أدَّوا مناسك الحج والعمرة، في شهر ذي الحجة الموافق لـ 2 أكتوبر سنة 1502م. وقد خططت القوة الاستعمارية لنهب هذه السفينة التي ترجع من مكة وهي تحمل البضائع والهدايا التي أرسلها ملك مصر إلى الملك ساموتري، وكان فيما بينهم السيد جاور بيغ (Javar Beg) ممثل ملك مصر. وكانت السفينة في مِلك السيد خاجا سعيد، وهو شقيق التاجر المشهور في كاليكوت السيد خاجا قاسم، وكانت السفينة تتجه إلى ميناء بانتالاياني (Pandalayani)، الميناء المشهور في السواحل الهندية في القرون الوسطى.

وقد علم واسكودي جاما (Vasco da Gama) بأن هذه السفينة تحمل المجوهرات والذهب والهدايا التي أرسلها ملك مصر إلى الملك ساموتيري، وكذا البضائع الثمينة والمنتجات العربية، فتعرضت القوة الاستعمارية لهذه السفينة في البحر العربي على بُعْد ستين ميلاً من السواحل الهندية. ومن المؤرخين من يقول بأن هذه المجزرة قد وقعت بقرب ميناء ماداي (Madayi) الشهير. وقد توسل الحجاج الأبرياء في السفينة أن يأخذ واسكودي جاما جميع الهدايا والمجوهرات والبضائع بشرط أن يخليهم ويخلي نساءهم وأطفالهم، إلا أن هذا السفاح البرتغالي لم يلتفت إلى هذه الشروط؛ بل نهبوها واغتصبوا النساء والفتيات فيها، ثم أمروا بإحراق جميع المسلمين في تلك السفينة التي كانت ترجع من مكة. وصفحات التاريخ تقول بأن الاغتصاب والاضطهاد قد استمر مدة أسبوع كامل وبعده أمر الفتاك البرتغالي بإحراق جميع من في السفينة أحياء. ومن جانب آخر أجرى ممثل ملك مصر السيد جاور بيغ (Javar Beg) مفاوضات مع القائد البرتغالي إلا أنه قد أصم أذنيه عن عويلٍ وبكاءٍ تعالى من الأطفال والنساء والفتيات.

هكذا تم إحراق قرابة 300 مسلم واغتصاب النساء والفتيات المسلمات على يد الجيش الاستعماري بقيادة رئيسهم الخبيث واسكودي جاما (Vasco da Gama)، في واحدة من أبشع الجرائم وأشنعها بحق المسلمين الهنود. وظلت هذه الواقعة قصة حالكة السواد في صفحات تاريخ الحجاج المسلمين في الديار الهندية.

المصدر: مجلة البيان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى