بقلم عمر الشيخ
استثمر عدد من المشتغلين في “صحافة النظام” -قبل الثورة السورية- المساحة الغائبة عن ضوء الرقيب في الإعلام الخاص، فانطلقت أصوات صحفية تنتقد -بشكل مباشر- أداء الهيئات المسؤولة عن الدين، الثقافة، والتلفزيون وبعض مواضيع “الصحافة الصفراء” التي تستهوي السوريين عادة! ربما صار لتلك الأصوات في حينها مكانة لدى الشارع، خصوصا بعد أن تشاركت مع صحفيين “هاربين” من “التجنيد الصحفي” في إعلام النظام. أبرز تلك المنابر كان موقع “الجمل” الذي يديره “مشاغب” من صحفيي النظام؛ سوف يصبح لاحقا عضوا في (مجلس الشعب السوري).
لعب هذا “المشاغب” دور “الشهيد” بعد أن منعته جريدته التي يعمل بها “تشرين” من النشر؛ بسبب مقال ساخر أثار سخط الأجهزة الأمنية -على حد زعمه-؛ فأطلق الرجل رده إلكترونيا بفتح هذا الموقع الذي يموّله “مجد سليمان” ابن رئيس فرع المعلومات بدمشق -سابقا- بهجت سليمان، حيث أدار “المشاغب” الذي كان سجينا سياسيا سابقا، حربه ضد إعلام النظام عبر موقع “الجمل” بنشر زاوية ثابتة بعنوان “شغب”، لم يوفر فيها ظاهرة أو مؤسسة أو نشاطا أو أشخاصا في الثقافة والسلطة والحياة السياسية السورية إلا وتناولهم بسخرية وتحقير؛ مثل رؤوساء الحكومة من نوع “ناجي العطري ومصطفى ميرو” آنذاك.
الكارثة هي أن يتسلم بعض “المثقفين” مناصب سياسية وهم لم يعملوا يوما سوى في الثقافة المحلية أو التلفزيون والتسلية والترفيه، فكيف يديرون البلاد؟ |
كان الموقع يكرس مساحاته لنشر كل ما ترفض الصحف المحلية نشره، بسبب انتقاد مسؤول في بنية السلطة من “عيار” وزراء ومسؤولين صغار. وما إن بدأت الثورة في سورية حتى كشف “المشاغب” عن موقفه حيال ما يحدث، فنشر زاوية استجداء بعنوان “يا حافظ الأسد” التي يعتبر فيها أن رئيسه الدائم هو “حافظ” فقط..! كما وصف كل من خرج للتظاهر ضد النظام بأنهم “فقدوا رشدهم وشارفوا على ارتكاب أسوأ آثامهم” ربما وجد هذا الصحفي أن الكفر بدين الطغيان ومخابراته الثقافية يعتبر “إثماً وطنيا”!
بينما هو حرص على تربية مكانه في كنف سادته بشكل لائق لمثقف “معارض” بجينات “أسدية” وصاحب صوت في “برلمان البعث السوري” الذي يسمّيه النظام هناك “مجلس الشعب”. كان صاحب موقع “الجمل” نموذجا لصورة “المناضل” الذي يعتمد على خرائط أمنية ذكية لكسب ثقة الشارع المثقف، وذلك عبر شمّاعة “الجرأة”. تعاطفت معه الأقلام التي بقيت حتى الآن في المنطقة الرمادية والمترددة بشأن الثورة، على عكس ممثل تلفزيوني آخر حوّل صفحته الشخصية في فيسبوك، إلى “منبر إخباري” ينقل الحدث قبل التلفزيون السوري، وأطلق عليها اسم “طائر الفينيق”. رغم أن أدوار هذا “الطائر” في المسلسل التلفزيوني الشهير “مرايا” كانت دائما تعكس صورة البلاهة في الشكل والمضمون التمثيلي لسحنته، لكن المكافأة الجدية كانت “عضوية برلمانية” نسي من منحه إياها أنه عمل بيدقا برتبة “مخرج” في التلفزيونات الخليجية؛ ليقدم أعمالا هزلية راح يشتمها في مؤتمر إنقاذ الدراما السورية في “أيلول/سبتمبر عام 2014” بدمشق!
هاهو اليوم تحت قبة التشريعات، يصنع القرارات مع زميل آخر لوّث المخيلة الدرامية للسوريين بصراعات “الجوارح والكواسر والبواسل”، إنه الرجل الذي اخترق “المؤسسة العامة للسينما” في دمشق مع ملايين الليرات وبات يُخرج أفلاما تخدم آلة النظام السوري الإعلامية، مثل شريط “فانية وتتبدد” الذي يحكي من جهة قصصا خيالية عن “داعش” الساقطة من السماء فجأة! والتي تركها النظام تعيش في مدينة الرقة وتنمو بهدوء! ومن جهة أخرى حاول شيطنة الثورة السورية عبر حكايات تجاوزت الإجرام الإنساني وهي تخلط الأوراق وتجعل المعارضة صفا واحدا مع التطرف الديني والمليشيات الأجنبية الحليفة لأطراف الصراع التي اخترعها النظام لتبرير القتل وسحق معارضته.
لم تتسع مجالس القرار تلك لهؤلاء جميعا، إذ وجد أحدهم متنفسا “قصصيا” لنشر كتاباته وأخباره “الفنية” عبر موقع يدعى “سورية النصر” الذي يديره بنفسه، بعد أن بدأ حياته كضابط في جيش النظام، قتل زميله في الكلية الحربية منتصف السبعينات ثم أصبح لاحقا “ممثلا” يتقن أدوار الإجرام والخبث والفساد والتغطرس في الدراما، ولايزال حتى الآن يمثل في “الوطنية الأسدية” من خلال لقاءاته وهو يتجاهل أسلحة القاتل وجرائمه ويساهم في كل ما يكتب منذ الاحتجاجات السورية، بتشويه وجه الضحية للأبد.
دائما كان المثقف في سورية إمّا صامتا يعمل ويجاهر في موقفه، متملصا من الحدث؛ وإما منغمسا في لعبة توزيع كراسي القيادة في مؤسسات الثقافة والإعلام، وهو لايقدم للمشهد الثقافي أي تجربة مختلفة، ولو افترضنا أن النخب هي الأجدر بالمساهمة في تغيير المجتمع؛ فلماذا تقف تلك النخب في صف القاتل بهذه الشدة من الإصرار على التلوث؟
أليس من بدهيات الإنسانية الترفع عن النحيب على العجز من غياب الحلول والتفاهم؟ على الأقل الوقوف بجانب الناس كأمثال عشرات المثقفين الذين ما زالوا في الداخل السوري يعملون بصمت، لن تطلب الثورة من أحد أن يكون في صفها ما لم يؤمن بها، لكن الكارثة هي أن يتسلم بعض هؤلاء “المثقفين” مناصب سياسية وهم لم يعملوا يوما سوى في الثقافة المحلية أو التلفزيون والتسلية والترفيه، كيف يديرون البلاد، يا إلهي؟! وهناك عشرات الأصابع؛ منها ما يحرك مؤخرة دماغهم، ومنها ما يصفع الدماء على وجوه الشباب لتضحك عليهم وتسميهم “شقائق نعمان”، وفي رواية بعثية “شهداء”…!
(المصدر: مدونات الجزيرة)