منهجية الشيخ القرضاوي في معالجة ظاهرة الغلو في التكفير
لاشك أن الأمة الإسلامية تواجه في زماننا هذا أزمات وتحديات كبرى، تهدد كيانها ووجودها، وتستهدف عقيدتها وحضارتها، بالبتر والاجتثاث مرة، وبالمسخ والتشويه أخرى، وبالطعن والتجريح ثالثة، ولعل من أبرز هذه التحديات النابتة في داخل الجسد الإسلامي (ظاهرة الغلو في التكفير)، والتي استفحل خطرها وانتشر شررها وتعاظم ضررها، فصارت لها مذاهب وجماعات، وتأسست عليها كيانات وبلدات، راحت تكفر ذات اليمين وذات الشمال، بلا خطام من علم ولا زمام من فهم، فعاثت في الأرض فسادا وتقتيلا.
لقد تسببت هذه الظاهرة في زيادة فرقة الأمة وتمزقها، واختلال الموازين وتبدلها، حتى أصبح الغلاة يرون البر فاجرا، والأمين خائنا، والمصلح مفسدا، بل وتطاولوا بالقتل والإيذاء على صفوة أجلّاء؛ فخسرت الأمة ولازالت تخسر صفوة من قادتها وعلمائها ومصلحيها ممن ذهبوا غيلة وغدرا على يد صبية حدثاء الاسنان وسفهاء الأحلام، كما هو حال الغلاة منذ أن ابتدؤوا جريمتهم باغتيال خيرة الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمثال عبد الله بن خباب بن الأرت ثم خليفة المسلمين علي بن ابي طالب رضي الله عنهم، ولاتزال جرائمهم تضرب في الامة وتثخن، وتعطي أعداء الملة والأمة الذرائع لمزيد من الأذى للمسلمين ؛ بحجة مكافحة التطرف!
لقد جرَّ هؤلاء البغاة الغلاة على هذه الأمة الكثير من المصائب والويلات، وأحدثوا العظيم من الجرائم والمهلكات، من أسوئها تشويه صورة الاسلام أمام العالمين، وإجهاض مشاريع التحرر والتخلص من الاستبداد والظالمين، وخدمة الغزاة الطامعين وإعطاءهم المسوغ للتدخل في شؤون المسلمين، إضافة إلى خسارة الامة لكثير من شبابها وفتيانها، الذين ذهبوا وقودا وحطاما لحروب ومعارك خاسرة بائرة.
ومن هنا تأتي أهمية هذه الدراسة التي حاوَلت تناول هذه الظاهرة وتفحّصها، ونقدها وتصويبها، في محاولة لتقديم النموذج الأنجع، والمنهجية الافضل، ولن نعدم خيرا أو نحرم فضلا، فالخير في هذه الأمة ماض إلى قيام الساعة، وقد وجدنا جهودا مبذولة، وأعمالا مشكورة، قام بها بعض العلماء والدعاة من أجل محاصرة هذه المشكلة، فقدموا مقاربات ومعالجات ناضجة ومتميزة، وكان الأسبق في الطرح والأوقع في التأثير والأصلح في الواقع من تلك المعالجات المعاصرة؛ ما قدمه الشيخ العلامة يوسف القرضاوي، وهو من كبار علماء الإسلام العاملين في العصر الحديث، بما آتاه الله من علم مؤصل واستقلال مؤثَّل، وخبرة طويلة، إضافة إلى وعي بالواقع وتداخلاته ومآلاته، ونظرة تجديدية متزنة، لا تجمد على القديم لمجرد قدمه ولا تسارع للجديد لمجرد جِدّته، فكان بحق أحد أعمدة الصحوة الإسلامية المعاصرة، وممن أسهم بعمق في بعثها واستمرارها وترشيدها، حتى عُدّ بحق فقيه أمة لا فقيه دولة أو حزب أو طائفة.
الكتاب من تأليف أ. عمار الفارس.