ماذا وراء تشكيك هالة الوردي في وجود محمّد صلى الله عليه وسلم؟
بقلم عبد المجيد فاضل
الحمدُ لِلّهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسّلامُ على خاتم الأنبياء والمرسلين؛ وبعد، يقول الحقُّ 6تعالى-: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112] .
لقد قضى أعداءُ الإسلامِ عدّةَ قرونٍ في الطّعنِ في نُبُوّةِ مُحَمَّد -صلّى اللهُ عليه وسلَّم-؛ لتَشْكيك المسلمين في دينهم، وإبعادِ غير المسلمين عن النّورِ الذي جاء به، فاتهموه بالكذب، والجنون، وقول الشِّعْر، وتعاطي السحر والكهانة، وفي هذا العصر اتُّهِمَ بأنه كان مصاباً بمرض الصرع، والاضطرابات النفسية!
فلمّا فشلوا في خُطّتهم وخابَ سعيُهم، مِصداقاً لقوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8]؛ أصابهم اليأسُ والقنوط، وشعروا بخيبة الأمل والإحباط؛ فخطّطوا لإثارة شبهةٍ جديدةٍ، لتشكيك المسلمين في دينهم، ووجدوها عند الباحثة التونسية هالة الوردي، فاستضافوها لإلقاء محاضرة، في مهرجان ثويزا -في دورته الخامسة عشرة- بمدينة طنجة المغربية، بتاريخ 26 يوليو 2019، والتي شكّكَتْ فيها في وجود شخص النبيِّ محمّد -صلّى اللهُ عليه وسلّم-، فزعمت أنها عثرت على مصادرَ وأدلّةٍ تُشكِّكُ في وجودِ شخصِه -صلّى اللهُ عليه وسلم-! فوقعت بذلك في أخطاء، تُعَدُّ -عند أهل الفنّ بالمنطق- مُغالطات منطقية؛ وهي طُرُقٌ يلجأ إليها خصمُك عندما يفشل في إقناعك لضعفِ حجته وقلّةِ بضاعته؛ ومِن هذه المغالطات التي وقعتْ فيها:
– مغالطة تغيير الموضوع: وهي من المغالطات التي يستعملها الأشخاص، عند إحساسهم بضعف حجتهم، أو عدم قدرتهم على الردّ على حُجَجِ خصومهم!
ومعلومٌ أنّ التشكيك في وجودِ شخص النبيِّ محمّد -صلّى اللهُ عليه وسلم- هدفه الحقيقي هو تغيير موضوع النقاش، الذي يدور حول صدق نبوة محمّد -صلّى اللهُ عليه وسلم-، ولكن يبدو أنّ هذا النقاش بدأ يُخيف بعض المعاندين للحقّ؛ لأنّ الأدلّةَ على صدق نبوّته -صلّى اللهُ عليه وسلّم- قوَّتُها ساطعةٌ لا يردّها إلاّ جاحدٌ أو معانِدٌ؛ فقرّروا تغيير الموضوع فِراراً من مناقشة حُجَجَ خصومهم!
– مغالطة الرنجة الحمراء: وهدفُها هو استهلاك الخصم، في الرد على حجةٍ جديدة خارجة عن موضوع النقاش؛ فينشغل بها ويُضيِّع وقته فيما لا فائدة منه.
والبحثُ في حقيقة وجود شخصية النبيِّ محمّد -صلّى اللهُ عليه وسلّم- فيه ضياعٌ للوقت والمجهود، ممّا قد يجعل الباحث غيرَ المسلم – إن بدأ بهذا البحث- يتأخّرُ إيمانُه بالنبيِّ -صلّى اللهُ عليه وسلّم- أو قد يترك بحثَه؛ وأمّا الباحثُ المسلمُ فقد يقعُ في مِصْيَدَةِ الدوران في جدالات عقيمة حول حقيقة وجوده -صلّى اللهُ عليه وسلّم-!
– مغالطة التعمية والإرباك: وتكون بأنْ يثيرَ في نفسك الغضبَ أو الشعورَ بنقصك، أو بأنْ يستفِزّك بأكاذيبَ عن معتقدك؛ لكي يشوِّش على تفكيرك وتوجهك؛ حتى إذا غضبت، استغلّ موقفك هذا؛ ليَتّهِمَك بضعف الحجة وعدم اليقين في مُعْتقدِك!
ولقد استغل أنصارُ الباحثة الوردي غضبَ جمهور المسلمين، لمّا طالبوا بمنع مثل هذه المحاضرات التي ما هي إلاّ مُهاترات، هدفُها الأساسي هو الطعن في ثوابت الأُمّة الإسلامية؛ واتهموهم بالشكّ في صِدق نبيّهم -صلّى اللهُ عليه وسلّم- وقالت الوردي في حوارٍ لها مع إحدى الجرائد الإلكترونية: “المنعُ دليلٌ على الخوف…إذا كان الشّخص متيقّنا من نفسه، إذا سرنا بشكل طبيعي ومنطقي، لا يمكن أن يزعجهم كتاب، ولكن إذا مارست المنع فأنتَ ضعيف وتخاف حتى من كتاب” [1]!
وهذه مغالطةٌ أخرى، تخالف التفكير المنطقي السليم! فهل كلُّ مَنْ يغضَب عندما يُطْعنُ في مُعتقَدِه، سنقول عنه إنّه يشُكّ في معتقده؟ فما هو الدليل على ذلك؟
فهل إذا غضِبتْ فتاةٌ، إذا طُعِنَتْ في شَرَفِها وطهارتها، سَنشكُّ في عفافِها، ونقول لها: لو كُنْتِ عفيفةً لما غضبْتِ؟
إنّ التعبيرَ عن الغضبِ عند سماع الطعن في ثوابت الدين مطلوبٌ في دين الإسلام، وهو يُعَبِّر عن الغيرة على الدين، لا عن الشّكّ في صِدْق نبوّة محمّدٍ -صلّى اللهُ عليه وسلّم- الصادقِ الأمين!
ولقد ورد عنْ عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) [أخرجه البخاري].
وعن ابن عباس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تسبوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا) [رواه أحمد والنسائي].
ولقد اتّفق العلماءُ على أنّ نصوصَ الشريعة تُحرِّمُ سبَّ المسلمين والطعنَ في أعراضهم، ولم تُفرِّق في النهي بين الأحياء والأموات؛ واستثنوا أمواتَ المسلمين المُجاهرين بمعصيتهم أو بِبدعة، فإنّه يجوز ذكرهم بما فيهم، إذا كان في ذلك مصلحةٌ، كالتّحذير مِن قبول أقوالهم، والتّنْفير مِن الاقتداء بأفعالهم؛ وإن لم تكن هناك حاجةٌ إلى ذلك فإنّه لا يجوز ذلك.
ولا شكّ أنّ سبَّ النبيِّ -صلّى اللهُ عليه وسلّم- بعد وفاته، من أعظم الذنوب وأكْبرِ الكبائر، ولا غيرةَ لمن لا يتحرّك قلبُه ولا يشعرُ بالغضب؛ ولقد ورد في الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: (من رأى منكم مُنكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) [رواه مسلم].
وهَبْ أنّ المسلمين سكتوا، ولم يُعبِّروا عن غضبهم، فما الذي سيمْنع الباحثة الوردي أوْ أنصارَها مِن أن يحكُموا عليهم بالشّكِ في نبوة نبيّهم -صلّى اللهُ عليه وسلّم- أيضاً؟ إنّهم قد يحتجّون عليهم بأنهم ما سكتوا، إلاّ لأنّهم وقفوا عاجزين أمامَ الأدلّة القويّة، التي جاءت بها الباحثةُ الوردي؛ فأدخلت في نفوسهم الشّكّ في وجود مَن كانوا يعتقدون أنه نبيّ آخر الزمان، فأصابهم الخَرَسُ مِنْ هوْلِ الصّدمة!
وأمّا الادعاءُ بوجودِ مصادرَ تُشَكِّكُ في وجود شخص محمّد -صلّى اللهُ عليه وسلّم- فلا يشكّ عاقلٌ أنّه ادعاءٌ لا قيمةَ له في البحث العلمي؛ لأنّ البحث عن أدلّة لإثبات وجود شخص مجهول قد تقبله العقول، وأمّا البحثُ عن أدلةٍ لإنكارِ وجود شخص يؤمن بوجوده ألوف الملايين من البشر، منهم المؤمنون بنُبُوَّتِه، ومنهم الكافرون، فهذا لا يمكن أنْ يصدّقه صاحبُ عقل سليم! ولوْ كان شخصُ محمّد صلّى اللهُ عليه وسلّم وهمياً -كما زعمت الوردي- لاختلف الناسُ في وجودِه، قبل أنْ يختلفوا في نبوّته!
فكيف حصلَ أنِ اختلف الناسُ في صِدْق نُبوَّته، ولمْ يختلفوا في وجوده -صلّى اللهُ عليه وسلّم-؟
والباحثةُ بتشكيكها في وجود شخصية النبيِّ محمّد -صلّى اللهُ عليه وسلّم- تكون قد وقعت في خطأيْن آخريْن:
– الخطأ الأوّل: زعمها -مِن حيثُ لا تشعر- أن جميع أعداء الإسلام -من اليهود والنصارى وغيرهم- كانوا في عداوة مع شخصية وهْمِيّة اسمها محمد، وكانوا يقومون بمجهودات جبّارة، للطعن في نبوته، واتهامه بالكذب والجنون! ولم يتنبه أحد منهم إلى ذلك؛ لقد كانوا كلهم في “دار غفلون”، من عهد النبوة إلى هذا العصرِ، عصرِ الكذب والمجون! وهذا طعنٌ في يقظتهم، واتهامُهم بالعَتَه والخَبال!
– الخطأ الثاني: اتهامُها الغرب بتزوير التأريخ، كيف لا وكتبهم زاخرة بتاريخ محمد وصحبه، بل وبسيرته، وبالحروب التي دارت بينه وبين أعدائه!
إنّ غيْرَ المسلمين ليسوا في حاجةٍ إلى مَنْ يُشكِّكُهم في وجودِ شخصٍ لا يؤمنون برسالته، والمسلمون ليسوا في حاجةٍ إلى إثبات وجود شخصِ النبيّ -صلّى اللهُ عليه وسلّم-. ولقد ذهب مجموعةٌ من العلماء إلى عَدمِ جواز التّقليد في أمور العقيدة، ووجوبِ إعمال العقل والنّظر في المسائل المتعلقة بوجود الباري، وصِدْق نُبوّةِ رسوله، وقالوا: إنّ من شروط الإيمان الصحيح أن يكون قائما على اليقين، لا على الظن والتقليد. لقوله تعالى:{إِنَّمَا الـمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15].
وألّفوا في ذلك المؤلفات، ومن بين هذه المؤلفات كتبٌ خاصّةٌ بصدق نبوّة محمّد -صلّى اللهُ عليه وسلّم-، من بينها كتاب “دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة” للبيهقي (ت 458هـ / 1066م)؛ ولا نجِدُ في هذه المؤلفات ذِكْراً لِأدِلّةٍ على وجود شخص النبيِّ محمّد -صلّى اللهُ عليه وسلّم-؛ ولا يُعْقلُ أنْ يُطْلبَ مِنَ المرء أنْ يُعْمِلَ عقلَه للنّظر في وجودِ ربِّ العالمين، ولا يُعْمِلَه للتّأكد مِن وجود شخص محمّدٍ -صلّى اللهُ عليه وسلّم-! وما ذلك إلاّ لأنّ وجودَه لا يحتاج إلى دليل!
إنّ ادّعاءَ النُّبوَّةِ هو ادّعاءُ وجودِ واسطةٍ بين إنسانٍ وخالقِ هذا الكونِ، أو بين الأرض والسماء؛ وهذا شيءٌ عظيمٌ لا يمكن أنْ يخفى على الناس، والذي يدّعي النُّبوَّةَ لا بدّ أنْ يشتهرَ أمرُهُ وَلَوْ كان كاذباً!
ثُمّ إنّ زمنَ ظهور النبيِّ -صلّى اللهُ عليه وسلّم- ليس ببعيدٍ عنّا، بل هو قريبٌ جِداً، والتاريخُ يعترف بوجود حكماء وفلاسفة ظهروا قبل عصْر النبيِّ محمّد -صلّى اللهُ عليه وسلّم- بعدّةِ قرون، ولمْ يدّعُوا النُّبوَّةَ التي هي أعظمُ عند النّاس من الحكمة والفلسفة، فكيف يغفلُ التاريخُ عنْ أمرِ وجودِ نبيٍّ يؤمن بوجوده الملايين من البشر في هذا العصر؟
ولذلك يقول الفيلسوف ابن رشد: “فوجود الأنبياء ظاهرة تاريخية: لقد تواتر الخبر عن وجود الأنبياء في الماضي، كما تواتر الخبر عن وجود الفلاسفة والعلماء… وإذا كنا لا نَشُكُّ في وجود الحكماء مثل سقراط وأفلاطون، مثلاً، فلماذا نشك في وجود الأنبياء؟” [2].
قال أحدُ الأذكياء: “لماذا توقف التاريخ ليرصد كل حركات وسكنات النبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلّم-…؟ منذ تلك الأيام الضاربة فى عمق التاريخ، لم تتوفر معلومات هائلة وكثيرة عن شخص آخر حتى ولو عاش بعد اختراع الطباعة كما توفرت عن النبي الكريم -صلّى اللهُ عليه وسلّم- ، أليست هذه معجزة أن يتوقف التاريخ هكذا ليرصد شخصاً واحداً؟”.
فهل توقّف التأريخُ لكي يسجِّلَ جميعَ تفاصيلَ شخصِ رجلٍ وهميٍ، أمْ أنّ تلك التفاصيل كلَّها هي مِن اختلاقِ رجلٍ عبقرِيٍّ، لا يُحِبّ الظهور وفَضَّل أنْ يعمل في الخفاء الكُلّي؟
وقدْ يتساءل متسائلٌ: ولكنْ ما هو طريقُ إثباتِ النُّبوَّةِ؟
يقول ابن رشد: “وإذا قيل: نحن نعرف وجود الفلاسفة من خلال ما تركوه من مؤلفات، فبماذا نعرف الأنبياء الحقيقيين؟ وكيف نميزهم عن غيرهم من مُدَّعي النبوة؟”
ثُم يجيب: “نحن نعرفهم بالشرائع التي يأتون بها والتي تستهدف الخير والفضيلة. فليس بوسع كل إنسان وضع شرائع كشرائع الأنبياء! وإذن فكل من قال عن نفسه إنه نبي رسول من الله، وجاء بشريعة من جنس شرائع الأنبياء تتفوق في العادة على ما يمكن أن يأتيه مطلق الناس في عصره، مما يشبهها، فهو نبي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فبما أن الناس ليسوا جميعا من الذكاء والعقل والفضل بحيث يمكن أن نتصورهم يلتزمـون الفضيلة من عند أنفسهم، فإن الرسل هم من هذه الناحية ضرورة اجتماعية.” [3].
ولكنّ العلماءَ مُتّفِقون على أنّ طريقَ إثباتِ النُّبوَّةِ لا يكون إلاّ باجتماعِ أمرين [4]، وهما:
- ادّعاءُ النُّبوَّةِ.
- إظهارُ المُعجزة.
وأعظمُ معجزةٍ تركها النبيُّ -صلّى اللهُ عليه وسلّم- هي القرآن الكريم، والواقعُ يشهد لذلك؛ لأنّ كثيراً من الناس -من الشرق والغرب- لمْ يُؤمنوا إلاّ بعد دراستِهم للقرآن الكريم وتدبّرِهم لآياته؛ وفي الحديث النبويِّ عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من الأنبياء من نبي إلا قد أُعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة) [رواه البخاري].
وانظر “مُعجِزات القرآن الكريم” في كُتبِ علوم القرآن، مثل:
– كتاب “الواضح في علوم القرآن” تأليف الدكتور مصطفى البغا ومحيي الدين مستو.
– “العقيدة الإسلامية ومذاهبها” الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الدّوري، ط1 سنة 2007- مبحث “وجوه إعجاز القرآن الكريم”؛ من صفحة 391 إلى صفحة 417.
– “الإيمان”، تأليف عبد المجيد الزنداني وآخرون، راجعه مائة من العلماء.
أو انظر على صفحات الإنترنت، هنا مثلا.
وابنُ رشد نفسُه يجعلُ القرآنَ الكريمَ أهمَّ دليلٍ لإثبات نُبُوَّة محمّدٍ -عليه الصلاة والسلام- فقال: “فقد طالبَتْه قريش مراراً بالإتيان بآيات معجزات فكان رد القرآن: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلا بَشَرًا رَسُولاً} [الإسراء: 93]. ويشير القرآن إلى أن معجزة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- هي القرآن نفسه: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]. وقد تحدى قريشاً بأن يأتوا بسورة مثله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38]”.
ويضيف ابن رشد: “وإذا كان الأمر هكذا، فخارقه صلى الله عليه وسلم، الذي تحدى به الناس وجعله دليلاً على صدقه فيما ادعى من رسالته، هو الكتاب العزيز”؛ ويحتج ابن رشد بمقارنة القرآن مع الكتب السماوية الأخرى (التوراة والإنجيل) فيقول: “وبالجملة فإن كانت ها هنا كتب، واردة في شرائع، استأهلت أن يقال إنها كلام الله لغرابتها وخروجها عن جنس كلام البشر ومفارقته بما تضمنت من العلم والعمل، فظاهر أن الكتاب العزيز الذي هو القرآن هو أوْلى بذلك وأحرى أضعافاً مضاعفة وأنت فيلوح لك هذا جدا إن كنت وقفت على الكتب، أعني التوراة والإنجيل فإنه ليس يمكن أن تكون كلها قد تغيّرت. ولو قارنا بينهما وبين القرآن لاتضح فضل الشريعة المشروعة لنا، على سائر الشرائع المشروعة لليهود والنصارى” [5].
يتبيّنُ لنا -مِمّا سبق- أنّ التشكيكَ في وجود شخصِ محمّدٍ -صلّى اللهُ عليه وسلّم- لا يمكن أنْ نعتبِرَهُ إلاّ استفزازاً لمشاعر المسلمين، وإثارةً لغضبهم! ولا شكّ أنّ مثل هذه التصريحات تتجاوز الحَدَّ المسموحَ به في التعبير والنقاش، وتُعرِّض السِّلْم الاجتماعي للخطر!
ومن العجيب أنّ المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أقرّتْ أن الإساءةَ لنبيِّ الإسلامِ في النّمْسا -وهي دولة غير إسلامية- لا تدخل في حرية التعبير [6]! ويُسمحُ -في بعضِ البلدان الإسلامية- لكلّ مَن هبّ ودبّ أنْ يُسيء إلى النبيّ -صلّى اللهُ عليه وسلّم- ويقول فيه ما يشاء! ويقول “المُنشِّطون لهذه الإساءات”: “إنّهم يُمارسون حقّهم في التعبير”!
وقالت الوردي في حِوارها السابق مع جريدة هسبريس -دفاعاً عن موقفها-: “وقلتُ دعني أميّز؛ لأنني إنسانة تعتبر نفسها مكوَّنَة، وعندي الآليات التي تُخوّل لي التّمييز بين الغثّ والسّمين”!
إنّ الباحثة هالة الوردي، مُكوَّنةٌ ومتخصّصةٌ في الأدب الفرنسي، والغالبُ أنها حَصَلَتْ على آليات تُخوِّلُ لها التمييز بين الغثّ والسمين في الأدب الفرنسي؛ ولكن هل هذه الآليات يمكن استعمالها في عِلمَيْ تاريخ الأديان والتأريخ الإسلامي للتّمييزِ بين الغث والسمين؟!
لا شكّ أنّ المُتخصِّصَ في الأدب الإنجليزي له آلياته للتمييز بين الغث والسمين في الأدب الإنجليزي، ولكن هل هذه الآليات هي نفس آليات المتخصّص في الأدب الفرنسي؟ وهل ستسمح له -أيضاً- خوْضَ غِمار التمييز بين الغث والسمين في عِلْمَيْ تاريخ الأديان والتأريخ الإسلامي؟
إنّه يتوجَّبُ على الباحثة الوردي أنْ تكشفَ لنا هذه الآليات، التي توصّلتْ بها إلى الشّكِّ في وجود شخص محمّد صلّى اللهُ عليه وسلّم؛ لدراستها، وفحصها؛ ثُمّ ننظر هل هي صالحةٌ لمحوِ وجود شخصيات أخرى مشهورة في التأريخ، مثل: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى -عليهم السلام- وبوذا، وكونفوشيوس، وطاليس، وفيثاغورس، وأفلاطون؛ أمْ أنّها وُضِعَتْ لِمَحْوِ وجود شخص محمّد -صلّى اللهُ عليه وسلّم- وحْدَه من الوجود دون غيره؟!
وإذا كانت لا تؤمن بوجود شخص محمّدٍ -صلّى اللهُ عليه وسلّم-، وتؤمن بوجود غيره من المذكورين آنفاً، فعليها أنْ تُطْلِعنا على الآليات التي أوصلتها إلى الإيمان بوجودهم!
ونُذَكِّر هنا، بأنّ لِعلماءِ الحديث مناهجَ معلومةً؛ للحكم على الأحاديث بالصّحةِ أو الضعف أو الوَضْع والكذب؛ ولا يمكن خوض غِمارِ الاشتغال بالحكم على الأحاديث، والتمييزِ بين الغث والسمين إلاّ بدراسة هذه المناهج وإتقانها. ومَنْ حاول الحُكم على الأحاديث بدون الرجوع إلى هذه المناهج فإنّه -لا مَحالةَ- سيأتي بالعجائب والغرائب!
وللمفسرين -أيضاً- مناهجُ معلومةٌ لتفسير القرآن الكريم، ومن حاول تفسيرَ كلامِ اللهِ بدون اتِّباع هذه المناهج، فإنّه -بدون شكّ- سيكون مِن الذين يفترون على اللهِ الكذب!
ألاَ، إنّ كُلَّ اختصاصٍ له أهلُه، وكلَّ عِلْم له منهجُه؛ و”رَحِمَ الله امْرَأً عَرفَ قَدْرَ نَفسِه”!
لقد قام الكفار بِعِدّة محاولات لقتل محمّد -صلّى اللهُ عليه وسلّم- ظنّاً منهم أنّه بموته سينطفِئُ نور الإسلام، وخاب أملُهم، وانتشر الإسلامُ بعد موته -صلّى اللهُ عليه وسلّم- في أرجاء الأرض، وكثُرَ أتباعُه؛ وبعد مرور عدة قرون، وبعد فشل جميع المحاولات لطَمْس معالم الإسلام، فكّروا في محْوِ شخص رسول اللهِ -صلّى اللهُ عليه وسلّم- مِن تاريخ الوجود ظنّاً منهم أنّهم سينجحون -هذه المرّة- في إطفاء نور اللهِ!
قال الدكتور محمد الزحيلي “إنّ تكريم الإسلام للإنسان لم يقتصر على فترة حياته بل شمل صيانته ورعايته بعد الوفاة، وإنّ الإسلام كرّم الإنسان حياً وميتاً، واعتبر حرمة الميت واجبةً شرعاً، وكلّف الشرعُ الأقاربَ والمجتمع، والأمّة، والدولة بحماية جثمان الميت ودفنه وفقاً لأحكام دِينه، ومنع التشهير به، ونهى رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عن المثلة بالميت، والقتيل ولو كان من الأعداء المحاربين في المعركة، وقال عليه الصلاة والسلام: (كسر عظم الميت ككسر عظم الحي في الإثم) [رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وصححه النووي في “خلاصة الأحكام” (2/1035)، والألباني في “الإرواء(763)]” [7].
وإذا كان دينُنا العظيم، قد أوصى بتكريم الإنسان بعد موته، ولو كان يهوديا أو نصرانيا، فلا شكّ أنّه مِن الإهانة إنكارُ وجود شخص -ولو مِن عوامّ الناس- ومحوه من الوجود؛ وأمّا التّشكيكُ في وجود النبيِّ محمّد -صلّى اللهُ عليه وسلّم-، الذي شهِد له التأريخ بالوجود ويؤمن بوجوده ملايين البشر، فهو يدلُّ على الحِقدِ الشديد، ويُعدّ اعتداء على الكرَامةِ الإنسانية جمعاء!
ثُمّ إنّ اتّهام النبيِّ -صلّى اللهُ عليه وسلّم- بالكذب والسحر والكهانة وقول الشعر أو الجنون، يمكن أنْ يصدرَ من جاهل أو عدوٍّ للإسلام، ويمكن أن نردّ على هذه الاتهامات بالحُجَج والأدلّة البيِّنات؛ ولكن عندما تصِلُ العداوةُ إلى إنكار وجود شخص محمّد -صلّى اللهُ عليه وسلّم- الذي لا يشك في وجوده عاقل، فهنا نحتاج إلى وقفة تحليليةٍ، نُحلِّلُ فيها نفسيَّةَ هذا المُنْكِرِ، على ضوء التحليل النّفسي المعاصر.
[ففي نظرية التحليل النفسي تُعتبر الآليات الدفاعية، استراتيجياتٌ نفسيةٌ، تقوم بدورها عن طريق العقل اللاواعى، بإنكار الحقيقة أو تغييرها أو التلاعب بها من أجل حماية الشخص من الشعور بالقلق أو التوتر نتيجة الأفكار غير المقبولة، وحمايته من التهديد، ومن أجل الحفاظ على صورته الذاتية، ومن هذه الآليات المستخدمة في إنكار الحقيقة أو التلاعب بها أو إعادة تشكيلها، الإنكارُ: وهذه الحيلة تتمثل في رفضِ المواقف الواقعية المؤلمة وإنكارِ وجودها، لأنها تهدد الذات مباشرة. فمثلاً: بعض الأفراد يرفضون تقبل وفاة الشخص الذي يحبونه، ويتصرفون كما لو أنه ما يزال موجوداً وعلى قيد الحياة]!
ومثلُ هذا الإنكارِ نجدُه عند كُفّار قريش، في قوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} [الحجر: 14-15].
قال ابن كثير في تفسيره: “يُخْبِر تعالى عن قوة كفرهم وعنادهم ومكابرتهم للحق أنه لو فتح لهم باباً من السماء فجعلوا يصعدون فيه لما صدقوا بذلك بل قالوا: {إنما سُكِّرَت أبصارنا}”.
إنّ الواقع يشهدُ أنّ الإسلامَ ما زال ينتشرُ في الأرض، وما زال ملايين المسلمين يتّبعونه رغم كلِّ الجهود التي بُذِلتْ مِن طرف أعدائِه لإطفاءِ نورِه، ويبدو أنّ البعضَ لجأ إلى محاولة رفْضِ فكرة وجود شخص النبيِّ محمّد -صلّى اللهُ عليه وسلّم- هروباً مِن هذا الواقع!
والحمدُ لِلّهِ ربِّ العالمين، على نعمةِ الهدايةِ والدِّين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] : انظر حوارها مع جريدة هسبريس الإلكترونية، بعنوان: “هالة الوردي: الرسول توفي “مُحبطا” .. التراث الإسلامي كنز محنّط”، بتاريخ: 6 غشت 2019، هنا.
[2] : انظر مقالة بعنوان “ابن رشد: دليل النبوة، الإتيان بشريعة صالحة”، للدكتور محمد عابد الجابري، وهو فيلسوف مغربي كرّمته اليونسكو لكونه “أحد أكبر المتخصصين في ابن رشد” وله ما يقرب من 30 كتاباً تدور حول قضايا الفكر المعاصر، ولقد زلّ قلمُه في بعض مؤلفاته، وردّ عليه الدكتور محمد عمارة، في كتاب له بعنوان “ردُّ افتراءات الجابري على القرآن الكريم”.
[3] : المرجع السابق.
[4] : انظر: العقيدة الإسلامية ومذاهبها، الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الدّوري، ص334، ط1 سنة 2007.
[5] : المرجع السابق للدكتور عابد الجابري.
[6] : انظر الخبر في الإنترنت: “المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان: الإساءة للنبي محمد ليست حرية تعبير”.
[7] : انظر: محمد الزحيلي، حقوق الإنسان في الإسلام – دراسة مقارنة مع الإعلان العالمي والإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان، دار ابن كثير، دمشق-بيروت ،ط3، 2003، ص148.
(المصدر: مركز يقين)