مقالاتمقالات مختارة

ماذا كانت عقيدة العثمانيين الأوائل؟

ماذا كانت عقيدة العثمانيين الأوائل؟

بقلم مصطفى محمود زكي

من المسائل الجوهرية عند الحديث عن أي دولة على وجه الأرض معرفة نشأة هذه الدولة، وعقيدتها، والمرحلة الزمانية التي نتحدث عنها. ولمسألة العقيدة أهمية كبرى في هذا الصدد؛ إذ بمعرفتها تتضح وتنجلي أمور عدة. فعلى سبيل المثال عند الحديث عن أوروبا، لا بد أن نحدد الوقت الذي نتحدث فيه، أفي العصور الوسطى أم بعد ذلك؟ فإذا كان في العصور الوسطى فبذلك نكون حددنا الدولة والزمان ونأتي لمسألة العقيدة، فسنجد أن أوروبا في ذلك الوقت يتزعمها المذهب الأثناسيوسي، بينما يسود الشرق المذهب الأريوسي [1]، ولذلك قامت الحروب على هذا الأساس، بل عند فهم مصدر المذهب وأساسه سنفهم كيف تطرف المسيحيون في عقيدة السيد المسيح ووصلت للتأليه والتثليث، وما شابه ذلك، بل وسنفهم جذور الصراع الحالي في العصر الحديث، وكذلك نفهم سر كره كثير من الدول الأوروبية لتركيا، ولم يصرون على منعهم من دخول الاتحاد الأوروبي.

وبإسقاطٍ على محور حديثنا، وهو الدولة العثمانية، حيث العصور الوسطى أيضًا، فلا بد أن نفهم عقيدة هذه الدولة التي قامت بالفتوحات، ونشرت الدين الإسلامي، وبسطت قوتها على مدار ستة قرون وفي ثلاث قرات، ذلك لأنه بفهم عقيدة الدولة العثمانية سنفهم أمورًا عدة، مثل لماذا قامت حروب الدولة؟ وعلى أي أساس تأسس ملكها وفكرها؟ ولماذا عادت بعضَ الدول وأقامت التحالفات مع أخرى؟ ولماذا عفت عن بعض الأفراد ووقعت العقوبات على آخرين؟ وغير ذلك من الأمور التي لا تتضح إلا بمعرفة العقيدة الرئيسية للدولة.

وبنظرة أولية، قد يظن البعض أن الإجابة على التساؤل القائل: “ما عقيدة الدولة العثمانية؟” سهلة ويسيرة، ولكن الحقيقة أن المصادر ضعيفة جدًا في هذه الفترة وخصوصًا قبل عثمان، حيث أن الإجماع في عهده أن الدولة كانت تدين بالإسلام. أو بمعنى أدق، ففي أواخر الثلث الأول من عهد عثمان كانت دولة مسلمة، فهذا هو ما عليه الإجماع، أما ما قبل هذه الفترة فيوجد اختلاف كبير، الأمر الذي يتيح لنا أن نتساءل: هل كان عثمان منذ بداياته مسلمًا أم لا؟ أي أنه وُلِد من أبوين مسلمين أم أنه اعتنق الإسلام بعد ذلك؟ وكذلك هل كان أرطغرل مسلمًا أم لا؟ وينسحب الأمر إلى سليمان شاه والد أرطغرل، وعلى هذا نطرح السؤال: هل كان العثمانيون من المسلمين أم كانوا غير ذلك؟

بداية، وللإجابة على هذا التساؤل، لا بد أن نفرق بين الأتراك وبين العثمانيين؛ حيث إن العثمانيين فرع من الأتراك، وعلى ذلك نفرق عند تناول هذه المسألة بين أمرين: الأول هو إسلام الأتراك، والثاني هو إسلام العثمانيين؛ حتى لا يحدث أي لبس.

إسلام الأتراك

فاستنادًا إلى رواية محمد بن جرير الطبري، فإن دخول أول جماعة تركية في الإسلام كان في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وتحديدًا سنة 22هـ | 642 م، حين احتكت جماعة من الترك بقيادة ملكها شهربراز بالقائد المسلم عبد الرحمن بن ربيعة، وذلك عندما وصلت غزوات المسلمين إلى بلاد الترك، وتحديدًا بلاد ما وراء النهر. فطلب ملك الترك شهربراز الصلح من القائد عبد الرحمن بن ربيعة الذي وافق عليه مبدئيًا، لكنه أحال شهربراز إلى القائد العام، وهو سراقة بن عمر الذي وافق على الصلح بشرط أن يوافق عليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي أقر الصلح [2]، وعلى ذلك دخل الترك في الإسلام، وقاتلوا مع الجيش المسلم ضد الجماعات الأرمنية النصرانية في المنطقة، وكانت تلك بدايةَ ترك الجماعات التركية العقائدَ الوثنية، وتطبعت بخلق الإسلام، وتمرست في المؤسسات الإسلامية، خاصة الدينية والعسكرية؛ ما ساعد الترك في المستقبل من الترقي، وخصوصًا في سيادة مبدأ أنه “لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى”. ولذلك ازدادت الجماعات التركية في الدين الإسلامي تدريجيًا في عهد الخلافة الراشدة، ثم الأموية، وصولًا إلى العهد العباسي، وخصوصًا بعد ازدياد فتوحات ما وراء النهر، حيث الموطن الأصلي للأتراك. وقد تمكن الأتراك بقوة من التغلغل في الدولة والمناصب الإدارية والعسكرية منها في عهد الخليفة المعتصم، الذي سلم الأتراك المناصب العليا، وأسس مدينة سامراء لتكون لهم وتُبعِدهم عن العرب نتيجة لظهور كثير من المشاكل التي نتجت عن اختلاطهم بالعرب آنذاك [3].

إسلام العثمانيين

أما عند تناول مسألة إسلام العثمانيين، وذكر ما قيل فيها من آراء، سواء من متعصبين للدولة العثمانية (حتى أننا سنجد من ينسب آل عثمان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا كذب وافتراء)، أو من أعدائهم الذين يقولون إنهم لم يدخلوا الإسلام لفترات طويلة، حتى بعد تأسيس دولة آل عثمان (وهذا أيضًا كذب وافتراء)، ولكن، وحتى تتضح الصورة بجلاء، يجب الاطلاع ولو بقليل من الذكر على دين العثمانيين قبل اعتناق الإسلام.

العثمانيون قبل الإسلام

كانت القبائل التركية المهاجرة والمتنقلة، ومن بينها قبيلة القايي وهي قبيلة عثمان بن أرطغرل، تؤمن بدين الشامانية أو الكوك تنجري.

وليس لهذه الديانة نبي ولا كتاب مقدس ولا معبد ولا عبادة منظمة، ولكن لها معبودًا واحدًا وهو تك تنجري أو تك تنكري، وهو رب الأتراك فقط، وليس ربًا للعالمين كما لدينا في الإسلام. ويقدس أتباعها السماء والماء والأرض [4]، ويدفنون الموتى، ويمكن تحنطيهم ودفن معهم حاجياتهم الضرورية لاستعمالها في الحياة الأخرى، وذلك مثل القدماء المصريين. ولا يجوز لأي فرد في المجتمع التركي أن يصبح عبدًا أو جارية داخل مجتمعه التركي، ولذلك استخدم الأتراك آنذاك العبيد والجواري من الأقوام الأجنبية، فكل تركي حر، وكلهم محاربون، حتى المرأة تمتطي الحصان وتستعمل السلاح ولا تتحجب وتختلط بالرجال ولا تنفر منهم. ولا يُربى الخنزير؛ حيث أن تربيته وأكل لحمه علامة من علامات المغول؛ فلا يؤكل إلا عند المجاعة. ويهتم المجتمع التركي بالبكارة وعفة المرأة اهتمامًا كبيرًا، فعدم الاكتراث بالغير وإكرام النساء للغير من علامات المغول أيضًا؛ ولذلك كانت العقوبة الوحيدة لهتك العرض هي الإعدام، إلا إذا وافقت المرأة التي اعتدى عليها بالزواج ممن اعتدى عليها، وذلك في حال كانت غير متزوجة أو أرملة [5].

دخول العثمانيين الإسلام

اختلفت النظريات المقدمة في هذا الصدد، فمنها ما يقول إن الإسلام قد دخل إلى الدولة العثمانية، وذلك بإسلام عثمان بن أرطغرل، أي أن أرطغرل كان على الوثنية، ومنها ما يرى أن أرطغرل كان على النصرانية، ومنها ما يرى أن سليمان شاه هاجر مسلمًا مع قبيلته، وكانت مسلمة آنذاك، ولكن أهم هذه الآراء، والتي تؤخذ في كثير من المراجع هي آراء جيبونز، ولذلك لا بد من عرضها ونقدها.

وقبل أن نعرض لذلك الرأي، فلا بد من التذكير بقصة التقاء أرطغرل بالسلاجقة، لأن من هذه النقطة تنبني عليها عدة أمور تعد غاية الأمة، على رأسها بداية تأسيس ملك الدولة العثمانية.

فقد كان أرطغرل مهاجرًا مع قبيلته الصغيرة التي انفصلت عن القبيلة الكبيرة، وذلك بعد موت سليمان شاه. وأثناء هجرته هذه وجد جيش علاء الدين السلجوقي يواجه جيشًا آخر من النصارى، وفي رواية أخرى من المغول، ولكن الأصح لدي أنها كانت من النصارى. فدخل المعركة وانتصر مع جيش علاء الدين الذي منحه قطعة أرض، والإذن بالفتح على حساب الروم.

القول الأوّل: آراء جيبونز

يرى جيبونز أن أرطغرل في هذا الوقت وقبيلته كانوا على الوثنية، وكانوا في طور البداوة من حيث المقياس الحضاري، ووظيفتهم الأساسية هي الرعي والتنقل من مكان لآخر في سبيل كسب الرزق. ويرى جيبونز أن سبب دخولهم الإسلام أنهم احتكوا بالدولة السلجوقية بعد ذلك، واختلطوا بهم، فدخلوا في الإسلام كأبناء جلدتهم من السلاجقة، وأثار فيهم هذا الدين الجديد رغبة في إدخال الناس فيه؛ فأرغموا جيرانهم الإغريق الذين كانوا يعيشون في صداقة معهم على الدخول في الإسلام أيضًا، ولم يكن تحت إمرة عثمان آنذاك سوى أربعمائة محارب يقيمون في دورهم ويزاولون حياة فارغة وادعة. وقد ضوعف عدد العثمانين ما بين 1290 و1300م، وامتدت حدودهم حتى قاربت حدود البيزنطيين، وأدى ذلك لظهور جنس جديد، هو الجنس العثماني، وكان جنسًا مختلطًا ناشئًا عن ذوبان العناصر الأصلية، وقوامه الأتراك والوثنيون والإغريق والمسيحيون. ويستمر في عرض وجهة نظرة بأن عثمان دخل الإسلام وقبيلته بعده مستندًا على قصة تُروى في الأساطير والحوليات، ولا أساس لها ولا مرجع صحيحًا يستند عليه [6].

الأسطورة التي يستند عليها جيبونز

وتقول القصة إن عثمان قضي ليلة في دار أحد الزهاد المسلمين، وقبل أن ينام جاء صاحب الدار ووضع كتابًا على رف فسأله عثمان: ما هذا الكتاب؟ فقال له: إنه القرآن. ثم أجابه حين سأله عن محتواه بأنه: كلمة الله أُنزِلت للناس بطريق النبي صلى الله عليه وسلم. ثم نام ورأى فيما يرى النائم كأن ملاكًا يبشره بأنه وذريته سيعلو قدرهم لقاء احترامه للقرآن [6].

نقد نظرية جيبونز

بداية، فإن أمثال جيبونز وغيره من المستشرقين إنما يريدون أن يجدوا مبررًا منطقيًا لدخول العديد من الناس تحت لواء الإسلام طوعًا وحبًا، بل ويبذلون الغالي والنفيس نظير نصرة دين الله تعالى وبغية رفع لوائه عاليًا خفاقًا في شتى بقاع الأرض.

ولذلك ستجد هؤلاء يضعون نظريات توافق ما عرفوه وما تعلموه في حياتهم وخبراتهم، وليس ما يوافق الحدث الحقيقي؛ نظرًا لبعدهم عن الإسلام وتعاليمه.

فإنه يزعم أن قبيلة عثمان كانت قبيلة صغيرة تتكون من أربعمائة فارس. على الرغم من أن الذي كان معه أربعمائة فارس هو أرطغرل، والذي عاش لسن التسعين عامًا في قبيلته، فكيف استمر هذا العدد على ما هو عليه دون زيادة أو نقصان؟! وأن الزيادة حدثت في عهد عثمان؟! بل ويقرر أن عثمان جاء وأرغم الجيران النصارى الذين كانوا يعيشون في سلام، حتى قبل اعتناق عثمان للإسلام، الذي حوله إلى طاغية يجبر الناس على دين غير دينهم؛ فيدخلونه ويحاربون لأجله رغمًا عنهم.

ربما هو يقرر ذلك نظرًا لأنه كان السائد لدى بعض الدول والحضارات. ففي النصرانية، نجد قنسطنطيوس، الذي عرف بولائه للمذهب الأريوسي المسيحي [7]، قد فرض هذا المذهب على أجزاء الإمبراطورية العربية كرهًا وغصبًا. أو من السائد في هذا العهد لدى التتر من إرغام الدول المهزومة بالدخول تحت لوائهم والمحاربة في جيشهم، بل وفي مقدمة الجيش حتى يكونوا درعًا حاميًا لهم.

فهذه الرواية الواهية التي يستند عليها، وهي قصة الشيخ الذي بات عنده عثمان السابق ذكرها، إنما ستجد لها متنًا آخر مخالفًا لما ذكر فيها، وفي ذات المصدر، وهو الأساطير والحوليات.

وذلك بأن عثمان طلب من الشيخ أده بالي -وفي هذه المرة ذكر اسم الشيخ، ولم يأتِ مجهلًا كما أوردها جيبونز- أن يزوج ابنته، فرفض طوال عامين. وفي إحدى الليالي، وفد إلى ذلك الشيخ الزاهد ونام في بيته، فرأى فيما يرى النائم أن قمرًا يخرج من صدر أده بالي ويقع في صدره هو، ثم تخرج من سرته شجرة يغطي ظلها الأرض، ولما قص ذلك على الشيخ قال له إنه سيحكم العالم، وزوجه ابنته.

اقرأ أيضًا: وصية عثمان أرطغرل: دستور دولة سادت العالم 4 قرون 

وهذه الرواية بذات المتن أو متن مقارب له قيلت في حق تأسيس دولة السلاجقة وليس العثمانيين، ذلك لإن الأساطير التي قيلت في تأسيس الدول لا تعد ولا تحصى، ففي تأسيس الدولة العباسية قيلت مثل هذه الروايات، وفي تأسيس الدولة الغزنوية حيث تذكر الأساطير والحوليات أنه، وقبل أن يولد فاتح الهند محمود الغزنوي بساعة واحدة، رأى أبوه سووك تكين فيما يرى النائم كأن في بيته شجرة تخرج من موقد نار وتظلل الأرض كلها، وأنبأه عابر الرؤى أن ابنه سيكون غازيًا وفاتحًا [8].

بل إذا عدنا بالتاريخ إلى عهد الإمبراطور الروماني قسطنطين فستجد مثل هذه الرؤى، حيث يُروى أن قسطنطين أثناء زحفه لمحاربة خصمه رأي هالة من النور على شكل صليب أثناء غروب الشمس، فلما نام رأى رؤية وكأن المسيح ومعه الصليب، وقد أتي ليأمره باتخاذ الصليب شعارًا له، والزحف على عدوه، وأنه سينتصر بفضل هذا الصليب؛ لذلك اعتنق قسطنطين النصرانية [9].

فمثل هذه الروايات لا يجب أن تؤخذ على محمل الجد، بل إن هذا نوع من أنواع التزوير والتزييف للحقائق، ولكن بطريق المدح وليس الذم؛ ذلك لأن التزوير لا يحمل معنى التشويه وفقط، بل إن للتزوير نوعين: الأول يكون بالتشويه، وهو المعلوم لدى الجميع. والثاني يكون بخلق روايات وقصص لتمجيد شخصية ما أو دولة ما أو لتبرير فعل ما، ولذلك فهذه الرواية -أي رواية إسلام عثمان- رواية مزيفة. حتى لو أخذناها على محمل الجد فهي مضطربة ومليئة بالضعف الذي يرتقي لدرجة الإنكار، أي لا يجوز الأخذ بها حتى ولو على سبيل الاستحسان.

وبالعودة إلى كلام جيبونز وما يقرره بأنه قد نشأ جنس جديد يسمى العثمانيين، فهذا قول خاطئ. فمصطلح العثمانيين إنما هو مصطلح سياسي يطلق على الدولة وليس على العرق أو الجنس، حتى ولو اندرج تحت لواء هذه الدولة أكثر من دولة أو عرق أو جنس آخر، فالدولة العثمانية بسطت لوائها على أكثر من ثلاثين دولة في ثلاث قارات، فهل هذا يعني نشوء عرق أو جنس جديد؟ بالتأكيد لا، ولكن هذا يعني نشوء دولة جديدة، فالحال مشابه لدولة السلاجقة أو الدولة البيزنطية، أو مثل تأسيس الدول الأوروبية كفرنسا أو ألمانيا وغير ذلك. فالمصطلح السياسي ليس له علاقة بنشوء جنس أو عرق جديد.

ومن عجيب الأمر أن جيبونز يتناسى القبائل التركية التي كانت متواجدة في ذلك الوقت، ودخلت بعد ذلك تحت لواء الدولة العثمانية، وزادت من عدد وقوة العثمانيين، ويضع نظريته على أن تزايد أعداد الدولة نتيجة إجبار النصارى على الدخول في الإسلام، وبهم فُتِحت الدول. أي ينسب الفتوحات الإسلامية إلى قوة النصارى، وهذا القول كله معطوب ومغلوط، فالقبائل التركية بشتى فروعها التي دخلت تحت لواء الدولة العثمانية هي التي عُوِّل عليها في الحروب، ثم بعد ذلك الجيش الإنكشاري الذي أسلم أبناؤه الذين رُبوا على عقيدة الجهاد في سبيل الله، ثم دعوات الجهاد التي كانت تجد من يلبيها من سائر الأقطار الإسلامية، ثم آخر شيء هو الاعتماد على الدول النصرانية، مثلما كان يفعل بايزيد من إدخال جنود من الدول التابعة له عند الحاجة إليها.

القول الثاني: أنهم كانوا نصارى

وهذا القول ضعيف في كل أركانه للدرجة التي لا ترتقي لمستوى عرضه. فأربابه يوردونه، وعند ذكر الموقعة التي وقعت بين الجيش السلجوقي وبين الجيش البيزنطي الآنف ذكرها، والتي شارك فيها أرطغرل مع الأربعمائة فارس وقلبوا موازين الحرب التي انتهت بنصر المسلمين على النصارى، فإنهم لا يفسرون لماذا شارك أرطغرل مع المسلمين ضد بني عقيدته رغم ما يذكرونه من شهامته وشجاعته وتعصبه لعقيدته، وغير ذلك من الأمور التي تتنافى مع ما يقولون. إلا أن ردهم يكون في بعض الأحيان أن أرطغرل لم يكن يعلم عن عقيدة الجيش، بل هو تحرك لنصرة المظلوم بعيدًا عن العقيدة التي عرفها بعد الحرب. فأي عقل يستوعب ذلك؟! فالجيوش ترتدي أزياء وتطلق صيحات وترفع أعلامًا، وأرطغرل خبير عسكري في القتال، فكيف يجهل كل هذه الأمور ولا يعلم لأي حرب يأخذ كل جنوده إليها؟!

القول الثالث: أنهم كانوا مسلمين

بداية، فإن معرفة الأتراك بالإسلام ليست جديدة، فكما ذكرنا أن الأتراك عرفوا الإسلام منذ عهد عمر بن الخطاب، وانتشر فيهم في عهد الدولة الاموية والعباسية بشدة، واحتك الأتراك بقوة في عهد الدولة العباسية بالإسلام والمسلمين، حتى كانت للأتراك شوكة كبيرة في مثل هذه العهود وفي ظل هذه الأوقات.

ولذلك من يبني نظرياته على كون العثمانيون على جهل بالإسلام، وأنهم جاءوا إلى تلك الأراضي ففوجئوا بوجود دين جديد يسمى الإسلام فهذا قول مغلوط ومعيب.

ولكن الراجح في هذا الصدد هو كون العثمانيين على الإسلام إبان مجيئهم إلى الأناضول، بل توجد بعض الأقاويل في هذا الصدد توضح أن الأتراك، وتحديدًا قبيلة عثمان، كانوا ممن جاءوا مع السلاجقة إبان فتح تلك الأراضي، بل وشاركوا في موقعة ملاذكرد مع ألب أرسلان، أو ممن جاء بعد ذلك على غرار هذا الفتح لتلك المناطق، ولذلك فهم كانوا يعرفون عن الدولة السلجوقية السنية، ودخلوا تحت لوائها واختلطوا بها، وعرفوا الإسلام وأسلموا على أيدي هؤلاء منذ زمن بعيد، أي أن سليمان شاه جد عثمان ووالد أرطغرل كان مسلمًا على أرجح الأقوال.

بل إن مشاركة أرطغرل الجيش السلجوقي ضد الجيش البيزنطي أكبر دليل على كونه ينتمي إلى الإسلام، بعيدًا عن كل الترهات التي تذكر في هذا الصدد.

اقرأ أيضًا: دراسة: النظام الاجتماعي في الدولة العثمانية 

بالإضافة إلى أن كل الأقوال التي تحاول تشويه صورة العثمانيين بأنهم كانوا على غير الإسلام بلا أي دليل يذكر، وكل من يستند على تلك الحوليات أو هذه الأساطير إنما هو قول لا أساس له، كمثل الذي يستند على حديث موضوع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي ويقول كيف للإسلام أن يأمر بمثل هذه الأفعال!

ونختتم بأسباب دخول الأتراك إلى الإسلام، الذي يرجع لعدة أسباب، بل يمكننا القول إن الإسلام في ذلك الوقت كان ينتشر بصفة عامة وبقوة للأسباب الآتية:

  1. كانت للمسلمين قوة تحمي هذا الدين، حتى ولو كانوا في منطقة أو في بلد ذوي ضعف، فستجدهم ذوي قوة في مكان آخر. بل كانت الدول الإسلامية تنشأ بين الحين والآخر، وما تنهدم دولة حتى تظهر الأخرى على الساحة بسرعة وبقوة، فتجد الإسلام قويًا في الهند والسند والعراق والشام ومصر وغير ذلك، فإذا ضعف هنا قوي هناك. وحتى مع ظهور تلك القوة التتارية أو الصليبية، فقد كان المسلمون يتصدون بكل حسم وحزم لأي من هذه الهجمات، وكانت في مناطق أخرى حروب سجال بين القوتين. فخلاصة القول إن قوة الإسلام كانت ظاهرة على الساحة وبقوة.
  2. التقدم العلمي في ديار الإسلام كان قويًا للدرجة التي تجعل القاصي والداني ينبهر انبهارًا شديدًا بالدرجة التي عليها هذه المجتمعات؛ ما جعلنا في وقت من الأوقات مثالًا للتحضر والرقي، وتتمني كل الدول أن تتشبه بنا، حتى الكارهين لنا.
  3. حسن التعامل في كثير من الدول الإسلامية مع الرعية المسلمة، وعدم الطغي على الحقوق؛ نظرًا لمكانة القاضي القوية، ومنزلة الشيخ المؤثرة في المجتمع.
  4. حسن معاملة الدول الإسلامية للبلاد المفتوحة، سواء في السلم أو الحرب، الأمر الذي يرفع شأن هذه الدول ويسهل دخول الآخرين في الإسلام.
  5. الأسر المشردة نتيجة الحروب، حيث كانت الدول الإسلامية تأخذها وتحسن رعايتها وتعامل الأبناء فيها بأفضل معاملة، وأخرجت من بينهم جيشًا قويًا على عقيدة صحيحة.
  6. توافق الإسلام وأحكامه مع الفطرة السليمة والطبائع البشرية النظيفة، ولذلك ستجد في عادات الأتراك كثيرًا من أحكام الإسلام، الأمر الذي جعل دخولهم الإسلام أمرًا ميسورًا وسهلًا؛ لأنهم وجدوا من يخاطب عقلهم وقلبهم وعاداتهم الفطرية السليمة.

وقد أردنا أن نوضح هذه النقاط في عجالة؛ نظرًا لأن البعض يسند مسألة إسلام العثمانيين إلى أمور في غير نصابها، وكذلك من باب رفع الظلم، بل وأوجزنا أسباب دخول الأتراك وغيرهم للإسلام لنعلم أسباب عزوف الكثير في أيامنا هذه عن الإسلام؛ فالأمور معكوسة تمامًا؛ فالمسلمون اليوم في شتات وتشرذم وضعف وهوان على الناس، بل وحكامهم أذلّة لدى الغرب الذي يرفع أصواته عليهم عيانًا بيانًا، ويعلن بكل فخر أن الحكام العرب ضعفاء بدون حماية الغرب!

اقرأ أيضًا: سليمان القانوني: بين حقيقة الأمجاد وكذب دراما الأحفاد

فأي مهانة هذه التي وصلنا إليها؟ وأي ذل ذلك الذي نحن فيه؟ وأي مستوى علمي انحدرنا إليه؟ وأي تخلف اقتصادي نعيش فيه؟ وأي مستوى صحي واجتماعي وأخلاقي ينحدر بنا؟ ثم نتساءل: لماذا يبتعد الغرب عن الإسلام؟! باختصار شديد، فقد كانت هناك صورة مشرفة للإسلام وأهله قديمًا تشجع على الدخول فيه رغم كل الصراعات والحروب التي خاضتها الدول الإسلامية التي كانت ترفع رايات الجهاد عالية خفاقة، بينما الآن ونحن في سلم وهمي كاذب وبدون حروب مباشرة، نعيش في ذل وهوان، أي كغثاء السيل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»، فقال قائل: ومِن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن»، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن ؟ قال: «حب الدنيا، وكراهية الموت» [10].

وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف حالنا وعلاجه في قوله عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ:

سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ) [11].

Did you find apk for android? You can find new Free Android Games and apps.
المصادر

(المصدر: موقع “تبيان”)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى