ماذا تريد فرنسا من الساحل المسلم؟
بقلم أ. د. حلمي محمد القاعود
أقامت فرنسا بعد ظهر 25 نوفمبر- تشرين الثاني 2019م الماضي، تكريماً وطنياً لجنودها الـثلاثة عشر الذين قتلوا يوم الثاني من الشهر ذاته في عملية عسكرية بجمهورية مالي الإفريقية الإسلامية التي تقع في غرب إفريقية أو ضمن ما يسمى دول الساحل الإفريقي. ترأس الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الاحتفالات بمبنى الأنفاليد بحضور مسئولين سابقين وعائلات الجنود المتوفين وبعض من رفقائهم العسكريين. وسمح لنحو ألف فرنسي بحضور هذا التكريم الرسمي، كما أفادت قناة فرانس 24.
أثار مقتل الجنود صدمة كبرى في فرنسا التي لم يتكبّد جيشها خسائر بشرية بهذه الفداحة منذ التفجير الذي استهدف مقر قيادة القوات الفرنسية في بيروت عام 1983م وأوقع 58 قتيلاً.
وتخوض قوات فرنسية منذ سنوات قتالاً عنيفاً ضد جماعات إسلامية تصفها فرنسا بالإرهابية في منطقة الساحل الإفريقي المسلم.
وقد أعلن ماكرون عقب مقتل الجنود الفرنسيين الثلاثة عشر أنه ينوي إعادة النظر في استراتيجية قواته في المنطقة التي تشهد وضعاً أمنياً متفجّراً، مطالباً الدول الأوروبية بمساندة أكبر لفرنسا.
وتبلغ القوات الفرنسية المقاتلة في الساحل4500 جندي فيما يسمى عملية برخان، إلى جانب قوات إفريقية من دول الساحل تبلغ نحو خمسة آلاف مقاتل عمادها الأساس قوات من تشاد، وبعد مرور ست سنوات على القتال فلا يزال المسلحون المحليون ينشطون في شمال مالي ومناطق أخرى، وقد تمدّدوا إلى بوركينا فاسو والنيجر المجاورتين.
لقد شنت فرنسا الحرب على الجماعات الإسلامية في إقليم أزواد, لمنعها من التقدم نحو العاصمة المالية باماكو بعد أن سيطرت هذه الجماعات على مدينة كونا التي تبعد 60 كلم عن العاصمة, وطردها من الإقليم تحت لافتة مكافحة الإرهاب.
والواقع أن الإرهاب مجرد ذريعة للتدخل في منطقة الساحل الغربي المسلم، حيث تطفو المنطقة على مناجم اليورانيوم التي تزود فرنسا بثلث حاجاتها من الكهرباء، وكميات هائلة من النفط والغاز التي تستثمر فيها الشركات التجارية الفرنسية مع دول في غرب إفريقيا وشمالها, مثل : ليبيا , ونيجيريا , وموريتانيا , والجزائر , وكوت ديفوار , والسنغال.. وتقوم بعض الدول العربية للأسف بتمويلها ودعمها.. وهناك مناجم واعدة بكميات هائلة من المعادن الثمينة والثروات النفطية والغازية مثل: الذهب، البوكسيت، اليورانيوم، الحديد، النحاس، الليتيوم، المنجنيز، الفوسفات، الملح..، ويقع معظمها على مقربة من حقول النفط الجزائرية التي تشكل مطمعًا كبيرًا للفرنسيين، وعلى مقربة أيضًا من أماكن التنقيب ذات المؤشرات الإيجابية في موريتانيا، لقد زار الرئيس ماكرون باماكو عاصمة مالي مرتين في شهر واحد مما يظهر المكانة التي تحظى بها مالي في سياسته الخارجية، حيث يعدّ الذهب أهم المصادر المعدنية للاقتصاد المالي، ويضع مالي في خانة أكبر منتج للذهب في إفريقيا بعد جنوب إفريقيا وغانا.
قضية الإرهاب إذا مرتبطة بعملية السيطرة على المناجم والثروات التي تملكها مالي ودول الساحل الإفريقي المسلم ومعها بعض دول شمال إفريقية، والرئيس الفرنسي ماكرون أكثر صراحة من سابقيه في إعلان أهداف فرنسا وغاياتها تجاه الإسلام والمسلمين وإفريقية.. فهو متعصب شديد التعصب ضد الإسلام، ويعمل على التشهير به من خلال الترويج لما يسمى الحرب ضد “الإرهاب الإسلامي”، ومن هذا المنطلق يدعو إلى نبذ تركيا، بسبب مواجهتها لقوات الإرهاب الكردية في شمال سورية، وإلقائها خارج حلف الناتو، وعدم انضمامها للاتحاد الأوربي لأنها دولة إسلامية! وبينما يبيح لنفسه محاربة الإرهاب المفترض خارج بلاده على أرض الساحل الإفريقي، فإنه يحرم على تركيا أن تدافع عن نفسها من خطر يهدد حدودها ومدنها!
ولا يكف ماكرون عن التضييق على المسلمين في فرنسا بإصدار التشريعات ضد الحجاب والنقاب والمدارس الإسلامية والمساجد.. في الوقت الذي يتحرك بفاعلية في التحالفات الغربية والأمريكية ضد الدول الإسلامية التي توجد فيها قلاقل وصراعات، مثل سورية والعراق وأفغانستان.. وعلى سبيل المثال رفض بشدة انسحاب أمريكا من شمال شرق سورية التي يوجد بها معدن السيلكون بنسبة نقاء 75%، مما يجعل هذه المنطقة أفضل من منطقة السيلكون في الهند التي يبلغ نقاؤه هناك حوالي 39%،وحوّل الهند إلى إحدى الدول المتقدمة في مجال الإلكترونيات والرقائق الإلكترونية.
ويسعى الرئيس الفرنسي إلى الانفراد ببسط النفوذ الفرنسي على قارة إفريقية بوصفها إرثاً استعمارياً خالصاً لفرنسا في مواجهة النفوذ الصيني والروسي، وبحكم أنها قوة استعمارية سابقة في إفريقيا وكانت من وراء المذابح البشعة في رواند وإفريقية الوسطى؛ لم تقبل فرنسا أن تفقد مناطق نفوذها السابقة لصالح النفوذ الجديد للصين وروسيا وتغلغلهما في الفضاء الإفريقي، فاتخذت من الصراع الداخلي في مالي ذريعة للتدخل بتأييد أوربي ضمني، ودون تفويض من مجلس الأمن، من أجل النهب والسيطرة.
لقد تدخلت فرنسا بنشر بعض قواتها في مالي ضمن عملية سيرفال أو القط المتوحش” في 11 يناير 2013م، وشنت الطائرات الفرنسية ميراج ورافال المقاتلة ضربات جوية طالت حزاماً واسعاً من معاقل المسلحين والمدنيين على امتداد مساحة واسعة من شرق مالي إلى حدود الجزائر إلى الحدود مع موريتانيا, وبعد نحو شهر تمكنت القوات الفرنسية من السيطرة على مناطق إقليم أزواد الثلاث كيدال , وغاو , وتمبكتو, ولا يزال التدخل العسكري الفرنسي مستمراً، وكانت حادثة مقتل الجنود الثلاثة عشر مناسبة لإعلان النوايا الاستعمارية لفرنسا والغرب، فقد زعم ماكرون أن هدف الجنود كان حماية الفرنسيين، بينما أكد رئيس المفوضية الأوروبية المنتهية ولايته جان كلود يونكر أن الجيش الفرنسي يدافع عن شرف أوروبا وأمنها!!
ومع أن هناك اتفاق سلام تم توقيعه في 2015م، فإن فرنسا لم تتوقف عن القتال ومطاردة من تدعي أنهم إرهابيون، مما يعني أن فرنسا مصرة على البقاء في مالي والساحل الإفريقي إلى ما شاء الله، وقد أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في كلمة له أمام جنوده في مالي، أن خروج الجيش الفرنسي من شمال مالي لن يكون قريبًا، وقال: “أقول ذلك لرجالنا الذين يقاتلون من أجل الحرية، سنفوز بهذه المعركة، وسنضع ما يتطلب من وسائل وإصرار وأعلم أن الأمر سيستغرق وقتًا ولكننا سنتمكن من ذلك”.
يعلم ماكرون أن القتال الذي يدعيه من أجل الحرية خرافة، وأنه جاء لاستعباد شعب مسلم، بل منطقة تضم خمسة شعوب إسلامية، وأنه بلا ريب سيفوز بنهب ثرواتها، وحرمانها من الحرية والاستقلال بسبب ضعف أهلها وتفرقهم وولاء بعضهم لباريس.
إنه منهج الغزاة الطامعين! وهو منهج قديم أسس له الصليبيون الأوائل.. ومن المفارقات أن تكون فرنسا البيئة الأولى الحاضنة لأول حملة صليبية همجية (1095م) تخرج من سانت مونت كلير صوب القدس والمسجد الأقصى ويقودها بطرس الحافي، ويحرض عليها البابا أوربانوس، ويردد الهمج في حملتهم الوحشية: إنها إرادة الله، وكأن الله يأمرهم بذبح الأبرياء ونهب الممتلكات وتدمير البنيان ونهب الثروات. تعالى الله عما يصفون!
لاشك أن أمة المسلمين في أسوأ أحوالها، مع أنها تملك إمكانات عظيمة إذا أحسن استخدامها ووظفت بذكاء وعلم وتنظيم وحصافة تستطيع أن تواجه مخططات الغرب الاستعماري عامة، والفرنسي خاصة، وأول هذه الإمكانية التفاهم الداخلي، وبث السلام والطمأنينة بين الشعوب الإسلامية، والتكامل فيما بينها على المستويات المختلفة، تعليمياً وعلمياً واقتصادياً وتجارياً وصناعياً وزراعياً وثقافياً…ودبلوماسياً وعسكرياً، وحينها يمكن إقناع ماكرون وغيره أن المسلمين ليسوا كلأ مستباحاً، وأن تبادل المصالح بين الدول خير وأبقى دون قتل أو مذابح أو أكاذيب!
(المصدر: مجلة المجتمع)