مقالاتمقالات مختارة

ما لا يُقال في الخروج على الحكام

ما لا يُقال في الخروج على الحكام

 

بقلم د. محمد سرور

 

مسألة الخروج على الحاكم مسألة من المسائل الكبيرة، والتي جرى الخلاف حولها عند السلف والخلف وأصبحت محل كلام كثير وأخذ ورد، لاسيما بعد ثورات الربيع العربي فصارت يتقاذفها غالٍ متفلت، ومتساهل حد الموت، وكأنها ليس لها أهل يوضحون معالمها ويبينون وجه الصواب فيها.
ولعله لم يدر قط بخلد من تناولها من السلف الكرام أنه سيأتي اليوم الذي تُنحى فيه شريعة رب الأرض والسماء وأن يصل الفجر بل الكفر ببعض الحكام إلى هذه الدرجة.

ومسألة السمع والطاعة في الأساس منوطة بتطبيق شرع الله -سبحانه- وألا يأمر الحاكم بمعصية، فإن كان منحياً للشريعة، فاجراً سفاكاً للدماء، هاتكاً للأعراض، سالباً للأموال، مشيعاً للفواحش والمنكرات، فهل يُتصور حينذاك أن نجد من علماء السلف والأئمة من يدعو لطاعته؟! بل ويزيد الأمر إلى أن تحدث تلك التأصيلات التي ليس لها حجة، ولا لقائلها برهان!

ومعظم التأصيلات تتكلم عن الخروج على الحاكم بالسيف لإزالته وتولية غيره، وذلك لأنه حين بايعته الأمة، فقد بايعته على أن عليه واجبات وله حقوقاً، فإذا لم يقم بواجباته والتي آكدُها تحكيم شرع الله تبارك وتعالى، ثم رعاية مصالح الأمة، فإن العقد الذي بينه وبين رعيته يكون لاغياً، وعلى الأمة أن تسعى في إزالته، ينوب عنها أهل الحل والعقد وتولية من هو أولى منه وحقيقٌ بتلك الواجبات.

والحكام في هذه القضية لا يخرجون عن ثلاثة أقسام:

القسم الأول: الحاكم الكافر: والإجماع قائم على جواز الخروج على مثل هذا الحاكم، لما رواه البخاري من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان مما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان).

فالحديث ينص على جواز الخروج على الحاكم إن كان كافراً، ولا يختلف عاقل بأن ذلك يكون في حال التمكن، وغلبة الظن أن ذلك يمكن، وإلا فإنه يكون إلقاء باليد إلى التهلكة، وتسلط الظالمين، فعند ذاك فيجب الصبر والإنكار بالقلب واللسان، وحتى توجد القوة التي بها يزال هذا الحاكم.

فلو خرجت مجموعات من الناس ليس لهم شوكة على ذلك الإمام، لا شك أن الدماء ستراق وتقيد الحريات، وفي النهاية فإن القوة الخشنة تنتصر وتقمع الجماهير العريضة تحت وطأة الآلة العسكرية المدمرة.

والصبر في هذه الحالة قد يستشهد له بأمور كثيرة منها: قوله تعالى: (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين).

ويستشهد لذلك أيضاً بموقف أحمد من الواثق وإن لم يكفره، وكذلك بالنظر إلى مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواردة في الحديث.

وقد نقل أكثر من واحد من أهل العلم الإجماع على أن الكافر لا ولاية له على مسلم وأنه ينعزل بالكفر إجماعاً. قال ابن المنذر رحمه الله: “إنه ينعزل بالكفر إجماعاً، فيجب على كل مسلم ذلك، فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة عن تلك الأرض”.

فيشترط الإمام رحمه الله هنا القدرة، وهم يقصدون بالقدرة: الشوكة التي يترجح معها غلبة ذلك الكافر، وألا تكون المفسدة المترتبة على إزالته أكبر من المصلحة.

ويؤكد ذلك الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار فيقول رحمه الله: “ومن المسائل المجمع عليها قولاً واعتقاداً، أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، (إنما الطاعة في المعروف)، وأن الخروج على الحاكم المسلم إذا ارتد عن الإسلام واجب، وأن إباحة المجمع على تحريمه كالزنا والسكر واستباحة إبطال الحدود، وشرع ما لم يأذن به الله كفر وردة… إلى أن قال: وما ورد في الصبر على أئمة الجور –إلا إذا كفروا- يتعارض بنصوص أخرى، والمراد به انتفاء الفتنة وتفريق الكلمة المجتمعة، وأقواها حديث: (وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً)، قال النووي: المراد بالكفر هنا المعصية، ومثله كثير، وظاهر الحديث: أن منازعة الإمام الحق في إمامته لنزعها منه لا يجب إلا إذا كفر كفراً ظاهراً، وكذا عماله وولاته، وأما الظلم والمعاصي فيجب إرجاعه عنها، مع بقاء إمامته وطاعته في المعروف دون المنكر، وإلا خُلِعَ ونُصِّب غيره، ومن هذا الباب خروج الإمام الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم على إمام الجور والبغي الذي ولي أمر المسلمين بالقوة والمكر … إلخ”(1).

وابن حجر رحمه الله يكرر نفس المعنى في موضع آخر، فيقول رحمه الله: “إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها كما في الحديث”(2).

القسم الثاني: الإمام العادل: فهو يحكم بالشريعة ويقوم برعاية مصالح الأمة، وهذا الخروج عليه محرم بالإجماع، إذ لا فائدة من ذلك، اللهم إلا إثارة الفتن وإحداث مفسدة الشقاق وعدم الاستقرار، لأنه اختير بالشورى والرضا دون وقوع ما يوجب عزله، كخروج من خرجوا على عثمان رضى الله عنه، وكذلك الخروج على كل إمام شرعي اختارته الأمة، ووقع منه بعض الجور والقصور في خاصة نفسه، غير أنه لم يختل ميزان العدل في الرعية، ولا نشب عدوان في البرية، فيحرم الخروج عليه مراعاة للمقاصد الكلية كوحدة الأمة، وحفظ البيضة، وأمن السبل … إلخ.
وما سبق هو مؤدى حديث عبادة بن الصامت السابق.

القسم الثالث: الخروج على أئمة الجور: وهذه هي المسألة التي كثر فيها الخلاف قديماً وحديثاً بين الإفراط والتفريط.

والذي يترجح لديّ من مجموع الأدلة وكلام الفقهاء كما سأذكر أن ذلك مستحب (أعني الخروج عليهم)، وقد يصل إلى الوجوب لدفع عدوان ذاك الجائر إذا تواصل غشمه وبطشه وكان للأمة قدرة على خلعه وعزله، وإقامة إمام عادل مكانه، وهو المقصود بحديث أمراء السوء كما في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل).

وهذا لا يخالف فيه أحد من الأئمة، اللهم إلا ما كان من أحمد، وفي مذهبه رواية مرجوحة بجواز الخروج على الإمام الجائر بناء على ما رُوِيَ عنه من عدم انعقاد الإمامة بالاستيلاء كما تقدم، فقد جوز ابن عقيل وابن الجوزي الخروج على إمام غير عادل، وذكرا خروج الحسين على يزيد لإقامة الحق، وهو ظاهر كلام ابن رزين على ما تقدم(3).

وكما أسلفت فهي مسألة خلافية، وقد أثار العلماء سؤالاً: هل يحرم عقد الإمامة بالفسق، وقد اختلف العلماء في ذلك:

قال القرطبي رحمه الله: الإمام إذا نُصِّب ثم فسق بعد انبرام العقد، فقال الجمهور إنه تنفسخ إمامته ويخلق بالفسق الظاهر المعلوم؛ لأنه قد ثبت أن الإمام إنما يُقام لإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وحفظ أموال الأيتام والمجانين والنظر في أمورهم إلى غير ذلك مما تقدم ذكره، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الأمور والنهوض بها، فلو جوزنا أن يكون فاسقاً أدى إلى إبطال ما أقيم لأجله، ألا ترى في الابتداء إنما لم يجز أن يعقد للفاسق لأجل ألا يؤدي إلى إبطال ما أقيم له، وكذلك هذا مثله، وقال آخرون: لا ينخلع إلا بالكفر أو ترك إقامة الصلاة أو الترك إلى دعائها، أو شيء من الشريعة لحديث جنادة بن أبي أمية، قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، فقلنا: حدثنا أصلحك الله بحديث ينفع الله به سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعانا رسول الله غ فبايعناه … وذكر حديث عبادة المعروف.

قال الماوردي رحمه الله: “وأما الجرح في عدالته وهو الفسق، فهو على ضربين: أحدهما: ما تابع فيه الشهوة، الثاني: ما تعلق فيه بشبهة، فأما الأول منهما فمتعلق بأفعال الجوارح، وهو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات تحكيماً للشهوة وانقياداً للهوى، فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها، فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها، فلو عاد إلى العدالة لم يعد إلى الإمامة إلا بعقد جديد”(4).

وما سبق هو مقتضى ما ذهب إليه أهل المذاهب الأربعة.
فعند الأحناف: قال في الدر المختار (المعروف بحاشية ابن عابدين): “البغاة هم الخارجون على الإمام الحق بغير حق، فلو بحق فليسوا بغاة”(5).
ومعنى كلامه أن الخروج إن كان بحق فليسوا ببغاة، بمعنى أنه يجوز.

وعند المالكية: قال أبو عبد الله المغربي صاحب مواهب الجليل مختصر خليل: “وعلم أنه لو خرجت لا لمنع حق، بل لمنع ظلم، كأمره بمعصية ليست بباغية”(6).

وعند الشافعية: قال النووي في المنهاج: “هم مخالفو الإمام بخروج عليه وترك الانقياد، أو منع حق توجه عليهم، بشرط شوكة لهم وتأويل، ومطاع فيهم، قيل: وإمام منصور”(7).
قال رحمه الله: “ولا يُقاتل البغاة حتى يبعث إليهم أميناً فطناً ناصحاً، يسألهم: ما ينقمون، فإن ذكروا مظلمة أو شبهة أزالها”(8).
فإذا كان هذا الشأن مع البغاة الذين خروجهم يكون بغير وجه حق، فمن خرجوا بوجه حق كان لهم الحق، ولم يُنقَم عليهم ذلك والله أعلم.

فالحاصل مما سبق أن مسألة الخروج على أئمة الجور من المسائل المختلف فيها بين السلف، وليس ثمة إجماع متحقق في منع الخروج عليهم، وليست هي من المسائل القطعية كما يزعم بعض من لم يتحقق من الأمر.

يقول ابن الوزير رحمه الله: “إن الكلام على أئمة الجور عندهم من المسائل الظنية، التي لا يأثم المخالف فيها، وللشافعية في جواز ذلك وجهان معروفان ذكرهما في الروضة للنووي، وفي مجموع المذهب في قواعد المذهب للشيخ العلائي، وذكر ذلك غير واحد، ومن المعلوم أن ذلك ولو كان حراماً كشرب الخمر لم يكن لهم فيه قولان.

ولا شك أن الإجماع المزعوم ينخرم بخروج الحسين رضي الله عنه، وهو من أهل الاجتهاد المطلق ومن أئمة المسلمين في الدين، وكذلك ينخرم بخروج القراء السبعين ومنهم سعيد بن جبير في فتنة ابن الأشعث.
فلم يحصل إجماع في حقيقة الأمر لا في عصر الصحابة ولا من بعدهم.

فقد كان مالك رحمه الله إذا سُئل عن القتال مع الخلفاء المسلمين من أئمة الجور في عصره ضد من خرج عليهم يقول: إن كان الخليفة كعمر بن عبد العزيز فقاتل معه، وإن كان مثل هؤلاء الظلمة فلا تقاتل معهم”.

وقال سعد بن عبد الحميد بن جعفر: “أخبرني غير واحد أن مالكاً استُفتي في الخروج مع محمد، وقيل له: في أعناقنا بيعة للمنصور، فقال: إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إلى محمد ولزم مالكٌ بيته”(9).

يقول الشيخ المعلمي اليماني رحمه الله: “كان أبو حنيفة يستحب أو يوجب الخروج على خلفاء بني العباس؛ لِما ظهر منهم من الظلم، ويرى قتالهم خيراً من قتال الكفار، وأبو إسحاق ينكر ذلك، وكان أهل العلم مختلفين في ذلك، فمن كان يرى الخروج يراه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بالحق، ومن كان يكرهه يرى أنه شقٌ لعصا المسلمين، وتفريق لكلمتهم، وتشتيت لجماعتهم، وتمزيق لوحدتهم، وشغل لهم بقتل بعضهم بعضاً، فتهن قوتهم وتقوى شوكة عدوهم، وتتعطل ثغورهم فيستولي عليها الكفار ويقتلون من فيها من المسلمين ويذلونهم، وقد يستحكم التنازع بين المسلمين فتكون نتيجته الفشل المخزي لهم جميعاً.

هذا والنصوص التي يحتج بها المانعون من الخروج والمجيزون له معروفة، والمحققون يجمعون بين ذلك بأنه إذا غلب على الظن أن ما ينشأ عن الخروج من المفاسد أخف جداً مما يغلب على الظن أنه يندفع به جاز الخروج وإلا فلا، وهذا النظر قد يختلف فيه المجتهدان”(10).

وما سبق من خلاف بين السلف هو –أصلاً- فيمن انعقدت لهم الولاية ثم طرأ عليهم الجور، فهل حكام زماننا هذا يتحقق فيهم ذلك الخلاف؟ أم أنهم خارجون أصلاً عن الشروط التي اعتبرها أهل العلم في الحاكم الذي ينبغي أن يُسمع له ويُطاع ولا يُسوغ الخروج عليه باجتهاد بعضهم؟

فالحاكم في الأصل منوط به تحكيم الشريعة ورعاية مصالح الأمة.

ولا يشك عاقل بأن الشروط التي ذكرت في كتب الفقه لا يتوفر منها شيء في حكام العصر، الذين هم في أغلبهم عملاء للغرب، فلا الدين نصروا، ولا أعداء الأمة كسروا، ويأتون على الأخضر واليابس لأجل تثبيت عروشهم، بل هو مشكوك في إسلامه أصلاً، ويوالي أعداء الملة والأمة موالاة ظاهرة مخرجة في أغلب صورها من الملة والعياذ بالله.

فمن الشروط التي ذكرت في كتب الفقه لولي الأمر:
1- العدالة على شروطها الجامعة، بأن يكون صاحب استقامة في السيرة، وأن يكون متجنباً الأحوال والأفعال الموجبة للفسق والفجور، فالأصل أنه يدفع الظلم عن الناس لا يتفنن في جلب البلاء وتسليط الظلم عليهم.

2- العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام، ولا يخفى حال حكام هذا العصر، والذي لا يجيدون أبسط مبادئ العلوم الشرعية، ناهيك عن العلم والاجتهاد.

3- سلامة الحواس والأعضاء من السمع والبصر واللسان، ليصح معها مباشرة ما يُدرك بها، ولا يخفى حال حكام اليوم الذين يظلون في الحكم حتى يصابون بكافة الأمراض والاختلال العقلي ويكون لعبة في أيدي أصحاب المصالح والمتآمرين.

4- الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح، فلابد أن يكون حكيماً محنكاً فاهماً للواقع.

5- الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو، فلا يصح أن يكون جباناً متخاذلاً عن الدفاع عن الأمة ومصالحها ومقارعة أعدائها.

6- ذكروا مسألة النسب وهو أن يكون قرشياً.

وليس الهدف من ذكر تلك الشروط مناقشتها هنا، لكنني فقط أريد المقارنة بين الشروط التي ذكروها وما صار إليه حال حكام هذا العصر البئيس، وإن كانوا قد منعوا من الخروج على من تلك صفاتهم، مع أنهم يرون مثل هؤلاء إن جاروا أو حادوا عن الطريق فيجوز الخروج عليهم حينذاك، فما بالك بحكام هذا العصر الذين نحّوا الشريعة وعادوها وعادوا أهلها، وساموا رعيتهم سوء العذاب، وأذلوهم وأثقلوا ظهورهم؟!

وأما عن الحاكم المتغلب: وهو الذي أخذ الحكم بالقوة، فله أحكام كذلك عند أهل العلم:
فلو تغلب فهو ظالم بتغلبه ولا شك، ولكن ينظر الفقهاء ويوازنون تلك المفسدة بمفسدة الخروج عليه، فرجحوا بقاءه ما أقام الدين، ولا شك أنه لو أمكن خلعه وتولية من هو أصلح منه فيجب حينذاك ولا إشكال.

ومن خلال النظر للتاريخ فإن مقاومة المتغلبين في الغالب ما لم تكن شوكة تردعه تؤدي بالأمة إلى ما هو أسوأ؛ فكان هذا هو موقف الفقهاء من المتغلب خوفاً من انتقال المجتمع إلى ما هو أسوأ.

والمستقرئ كذلك للتاريخ سيجد أن المجتمعات كانت في الغالب ترضى بتوليته بعد ذلك وتخضع له، فعاد أمر بقائه من عدمه راجع إلى إقامته للدين ورعايته لمصالح الأمة.

أما ما يصدره أدعياء السلفية من مثل استدلالهم بحديث: (اسمع وأطع وإن أخذ مالك وجلد ظهرك). ومع أن الحق مع من ضَعَّفَ تلك الزيادة، ولكن لنفترض صحتها، فهل وجدنا أحداً من الصحابة اعترض على الحسين حال خروجه قائلاً: اسمع له وأطع وإن أخذ مالك وجلد ظهرك، فإذا لم يحدث ذلك، فهل كان الصحابة كلهم لم يبلغهم ذلك الحديث؟ وإن كان بلغهم فَلِمَ لم يحتجوا على الحسين رضي الله عنه بهذا الحديث؟
فمع فرض صحة الحديث، وعلم الصحابة به، فلم لم يحتجوا على الحسين به؟ فهذا دليل قاطع أن الصحابة وعلماء ذلك القرن الفاضل لم يكونوا يرون أن مثل هذا النص يوضع في ذلك الموضع.

ولا شك أن فهمهم أسد وأسلم، وهم أعلم ممن جاء بعدهم، فإذا لم يستدل به الصحابة مع وجود المقتضي وانتفاء المانع، فدل ذلك على أنه لا يستعمل في مثل ذلك الموضع الذي يستعمله فيه المتأخرون.

فالخلاصة: أن الحاكم المعتبر شرعاً هو الذي يحكم الشريعة ويأتي باختيار الناس، وهذا غير موجود في هذه العصور التي نحيت فيها الشريعة وحصل الاتفاق فيها على حرب الدين وأهله.

موجبات الخروج متوفرة في في هذا العصر في الغالب، والتي حصرها الفقهاء في:

1- الكفر.
2- عدم تحكيم الشريعة.
3- ترك الصلاة.
4- عدم إقامة الصلاة في الناس.
5- لو امتنع عن شعيرة واحدة ظاهرة متواترة من الإسلام.

فمما سبق مما اتفقوا في الخروج عليه بسببها، واختلفوا لو ابتدع أو ظلم أو فسق.

مسألة الإجماع على عدم الخروج على أئمة الجور غير صحيحة فالخلاف قائم، ومن يدعي انعقاد الإجماع بعد الخلاف، رُدَّ عليه بأن هذه المسألة من المسائل المختلف عليها أصولياً في الأساس.

ولو نظرنا لحال الحكام المعاصرين لوجدناهم خارج تلك النقاشات والخلافات التي دارت بين العلماء لما يأتي:

1- عدم تحكيمهم للشريعة.
2- فسقهم وظلمهم بل وكفر بعضهم في أحيان كثيرة.
3- رَمْيُ البلاد في حضن التبعية الغربية والأمريكية.
4- عدم حماية الثغور، بل منهم من يسلمها لأعداء الأمة والملة.
5- نهب خيرات البلاد.
6- نشر الفقر والجهل والمرض والظلم بقوة السلاح والقانون والدستور.
7- كبح الحريات، وسحق الكرامة، والصد عن سبيل الله.
8- أنه لا يمكن للأمة أبداً أن تنال حريتها وكرامتها، وتنفك من الذل والتبعية وتستفيد من خبراتها ومقدراتها إلا بإزاحة أمثال هؤلاء المجرمين.

لاشك أن الخروج والإزاحة لا بد له من شوكة، فإن لم تتوفر ولم تستطع فلابد من الإعداد، مع عدم إهمال خريطة الإسلام العامة من عبادات ومعاملات، والتي منها تلك المسألة الخطيرة والتي كثر فيها النزاع قديماً وحديثاً.

والله وحده الموفق والهادي إلى سواء الصراط، والحمد لله رب العالمين.

ـــــــــــــــــــــــ
(1)تفسير المنار، [6/303].
(2)فتح الباري: [13/7] (3)الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للماوردي: [10/311].
(4)الأحكام السلطانية، ص42.
(5)الدر المختار: [16/373].
(6)مواهب الجليل: [11/490].
(7)المنهاج [1/424].
(8)المنهاج [1/425].
(9)سير أعلام النبلاء [8/80]،الكامل:[5/111]، تاريخ الإسلام: ت. بشار عواد [3/783].
(10)التنكيل [1/288].

 

(المصدر: مجلة “كلمة حق”)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى