بقلم شريف محمد جابر
شاهدت مؤخرا فيديو لشاب ملحد يدعى شريف جابر سمّاه “ما لا تعرفه عن القرآن“، فوجدته في غاية التهافت. وفي هذه التدوينة سأقوم بتشريح الفيديو وبيان تهافته بالأدلة، وسأبيّن بأنّ من يتأثرون بهذه المقاطع هم أولئك الذين لا يقرأون، ولا يصبرون على التحقيق العلمي واستقصاء المعلومة.
في الدقائق الثلاث الأولى، يعرض الملحد جابر موجزا لتاريخ آريوس وأتباعه الذين كانوا ينكرون الثالوث ويقولون بالتوحيد وبأنّ المسيح رسول بشر من الله وليس إلها، ليخلص إلى نتيجة مفادها بأنّه ليس صحيحا أنّ القرآن هو أول من قال بذلك! وبغض النظر عن صحة ما قاله بخصوص عقيدة آريوس، فهو يبني طعنه على افتراض وهمي؛ فلم يقل أحد إنّ القرآن هو أول من دعا للتوحيد ونفي الألوهية عن أي بشر، بل القرآن نفسه يحكي قصص الأنبياء الموحّدين، ويحكي قصة الحواريّين أتباع عيسى الموحّدين الذين قالوا له “نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ”، والتشابه بين توحيد المسلمين اليوم وبين ما دعا إليه النصارى الموحّدون هو لأنّ الوحي واحد وحقائق التوحيد واحدة، وليس لأنّ المسلمين تأثروا بهم. فانظر كيف أنفق جابر مئات الكلمات في نقض افتراض لا يوجد إلا في وهمه!
ثم يتساءل جابر بسذاجة: إذا كانت فكرة التوحيد هذه موجودة فما الحاجة لوجود رسالة جديدة؟ والسخيف في السؤال أن جابرا نفسه يقرّ باضطهاد الآريوسيين من قبل الإمبراطورية الرومانية لهم وسيادة عقيدة الثالوث، ومن ثم كانت الحاجة لرسالة جديدة، إلى جانب انتشار الوثنية في العالم. بل القرآن نفسه يقرّ بأن رسالة التوحيد قديمة منذ آدم ونوح وإبراهيم وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام، ولكن حين تنحرف البشرية عن التوحيد تأتي رسالة جديدة، وكانت رسالة الإسلام هي الرسالة الخاتمة لدعوة الناس إلى التوحيد، فضلا عن الشريعة الناسخة.
يستند جابر بعد ذلك إلى افتراض وهمي آخر، وهو أنّه إذا أثبتَ وجود كلمات ذات أصل سرياني في القرآن، فهذا يؤكّد بأنّ القرآن غير عربي، وبأنّ مصدره النصارى الذين كتبوا بالسريانية!
وهو افتراض لا يوجد إلا في وهمه، فلا يستلزم وجود كلمات من أصول غير عربية في القرآن أن يكون القرآن بشريّ المصدر، بل لا يستلزم الاشتراكُ بين العربية والسريانية في بعض الكلمات ذلك؛ فاللغات التي تسمى سامية تشترك في الكثير من المفردات، لأنها كانت في منطقة واحدة وتشترك في بعض الأصول. وفضلا عن ذلك، فحتى لو استخدم العرب بعض الكلمات السريانية فقد دخلت تلك الكلمات في لسانهم وصارت على تصريفهم، أي صارت من ضمن اللسان العربي. ولو راجع القارئ كتب التفسير القديمة سيجد بعض كبار المفسّرين يذكرون بأنّ كلمةً ما أصلها سرياني، هكذا بكل بساطة، دون أن يكون في ذلك طعن بالقرآن. وذهب بعض المفسرين إلى وجود كلمات مشتركة بين لغات متقاربة كالعربية والعبرية والسريانية، وفي جميع أقوال المفسّرين حول ذلك لم يكن هناك مدخل إلى الزعم بأنّ القرآن ليس عربيّا فضلا عن الطعن بمصدرية القرآن، فهذا تهويل ساذج من جابر، وافتراض لوازم وهمية.
وفي أمثلته ما يدلّ على ضحالة معرفته بالعربية، فقد زعم أنّ كلمة “سريّا” في قوله تعالى “فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا” سريانّية ومعناها “الابن الشرعي”، وأنّ ما قاله معظم المفسّرين بأنّها “النهر الصغير” خطأ ولا يتسق مع سياق الآيات، بينما يتّسق المعنى السرياني بزعمه مع السياق، أي إن عيسى يقول لمريم على حدّ قوله: “متخافيش إنتِ ولدتيني من دون ما حدّ ينام معاكِ!”. ولكنه غفلَ عن كون مريم عليها السلام ذكرتْ قبل أربع آيات فقط بأنّها تعلم أنّه ليس ابن حرام، قالت: “وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا”، فهي لا تحتاج إلى ما يطمئنها بأنه ابن شرعي وبأنّها لم تزنِ مع أحد! وفضلا عن ذلك، فسياق الآيات بعد ذلك يؤكّد بأنّ معنى النهر هو الصواب، قال تعالى: “وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا”، أي أنّ الحديث عن طعام، ثم قال: “فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا”، والفاء هنا رابطة لجواب، أي أنّ الكلام نتيجة لما سبقه ومبنيّ عليه، وهذا يدلّ على أنّ “سريّ” تعني “النهر الصغير”، ثم يأتي الحديث عن الرُطَب، ليكون المعنى المتّسق كما يقول الزجّاج: “فكُلي من الرُّطَب، واشربي من السريّ، وقرّي عينًا بعيسى”. أما على تفسير جابر الملحد فلن تكون هناك دلالة لكلمة “واشربي”!
وكلمة السريّ عربية، وتحمل معنى “السريان” أي الماء الذي يسري. وقد وردت في أشعار العرب، قال لبيد في معلّقته واصفا حمارا وحشيّا وأتانه يرِدان على النهر: “فتوسَّطا عرضَ السَّريّ وصـدَّعـا”. وجمهور المفسرين على أنها “النهر”، وقد ذكر بعضهم بأنّ أصلها سرياني، كما رُوي عن مجاهد بأنها “نهر بالسريانية”، وعن الضحاك: “جدول صغير بالسريانية”، وليس في ذلك أيّ طعن بالقرآن على ضوء ما ذكرنا.
ومن الأمثلة على ركاكة منطقه كلامه عن كلمة “الطَّوْد” في قوله تعالى: “فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ”. فهو يزعم أنّها محرّفة عن كلمة “الطّور”؛ لأنّ كلمة الطور وردت في القرآن عدة مرات بينما لم ترد كلمة الطود سوى مرّة! وهو تعليل سخيف لا قيمة له؛ فلا توجد قاعدة تقول إنّ على كل كلمة أن تتكرر عدة مرات في القرآن! وفضلا عن ذلك فقد كانت قراءته للآية كارثية، إذ وقع في أربعة أخطاء فاحشة وهي آية قصيرة واضحة مشكّلة، وكلمة الطَّوْد نفسها قرأها بضمّ الطاء! ثم يأتي ليحدّثنا عن تفسيرها ويقول إنّ المفسرين قالوا: “معاناها يمكن الجبل“. وهذا كذب؛ فقد قال جميع المفسّرين إنّ معناها “الجبل” دون تردّد! وهي عربية معروفة، قال امرؤ القيس: “فَبَيْنا المَرْءُ في الأحْياءِ طَوْدٌ رَماهُ النّاسُ عَنْ كَثَبٍ فَمالا”. وقال أوس بن حجر: “ومبضوعةً منْ رأسِ فرعٍ شظيّة بطودٍ تراهُ بالسَّحابِ مجلَّلا”.
وهكذا نرى ركاكة مزاعمه، وأنّه بنى 16 دقيقة من مقطعه على افتراض وهمي يظنّ فيه أنّه إذا أثبت وجود كلمات سريانية في القرآن فهذا يطعن بمصدره! ثم حين جاء بالأمثلة جاء بالطوام، وأظهر لنا ضحالة معرفته بالعربية. وتخيّلوا مثلا أنّ شابا ضعيف المعرفة بالإنجليزية، أراد انتقاد مسرحيات شكسبير من الناحية اللغوية، وهو غير قادر على قراءة جملة واحدة منها بشكل صحيح؛ ألا يصبح موضع تندّر الناس؟ فكيف بمن يتقحّم آياتِ القرآن دون امتلاك أدنى حدّ من المعرفة اللغوية؟ ومن هنا نفهم لماذا لم يفهم جابر بعض الآيات التي يزعم أنه لا حاجة إليها، فما ذلك إلا لضعف منطقه وضحالة معرفته بالعربية.
ومن أسخف شبهات جابر الملحد طرحه لسؤال: “لماذا ذكر القرآن اسم المسيح وعيسى 36 مرّة وذكر اسم محمّد 4 مرات فقط”؟
وهذا السؤال وما بناه عليه يؤكّد مجدّدا على الضحالة اللغوية والمنطقية التي يتمتّع بها، فالمسيح عليه السلام في حكم “الغائب”، وحين يأتي الحديث عنه سيكون من الطبيعي ذكر اسمه؛ لأنّ المعتاد هو أن القرآن في معظمه يخاطب محمّدا صلى الله عليه وسلم أو يعلّق على ما يحدث معه أو يأمره بأن يقول لأمته كذا وكذا، فهذا هو العام الشائع في القرآن، وهو يعني أنّ القرآن ذكر محمّدا صلى الله عليه وسلّم أكثر بكثير جدّا مما ذكر المسيح. أما عدم ذكر القرآن لاسم “محمد” صلى الله عليه وسلم في مرات كثيرة فهو لسببين رئيسيين:
– أنّه هو المخاطَب بهذا القرآن وهو صاحب الرسالة، فالخطاب القرآني يتوجّه إليه بضمير “أنت”، وأنت حين تخاطِب أحدهم هل تحتاج إلى ذكر اسمه وتكراره في كل مرّة؟!
– أنّه حين يخاطب الناسَ ويذكر الرسولَ صلى الله عليه وسلّم بضمير الغائب فهذا لأنّه هو “النبي” وهو “الرسول” معرّفا، ولأنه صاحب رسالة القرآن، أما حين يتحدث بضمير الغائب عن المسيح فيذكره باسمه لأنّ ذكره أقل بكثير من ذكر الرسول صلى الله عليه وسلّم.
ولهذا فمن الخطأ الظنّ بأن المسيح عليه السلام ذُكر في القرآن أكثر من محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يقول هذا إلا ساذج لم يقرأ القرآن، والآيات التي تذكر محمّدا صلى الله عليه وسلم باسم “النبي” أو “الرسول” أو بضمائر متّصلة مثل “عنك” أو “إليك” أو الهاء في مثل “وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ” وغيرها؛ جميع هذه الآيات يدلّ سياقها وموضوعها وأحداثها على أنّ محمّدا صلى الله عليه وسلم هو المذكور والمقصود، فهذا ذكر له، وهو في مساحات كبيرة جدا من أول القرآن إلى آخره، والسطحيون فقط هم من يتجاهلون هذه الحقيقة ويلجأون إلى المماحكات اللفظية!
أمّا العملة المسيحية التي عليها اسم “محمّد”، فدارسو التاريخ والآثار يعلمون أنّ العرب المسلمين قبل سكّ عُملة خاصة بهم في عهد الأمويّين كانوا يستخدمون العملات المنتشرة في المنطقة، بما عليها من صور لهرقل أو للأكاسرة، ثم بدأوا بكتابة بعض الشعارات الإسلامية عليها. وما يفعله جابر هو تكرار مغالطة “Tom Holland” في فيلمه “Islam: The Untold Story”، حيث جاء بدرهم ساساني منقوشٌ عليه صورة أحد أكاسرة الفرس، بالإضافة إلى الشهادتين وفيهما “محمد رسول الله”، فزعم هولاند أنّ صورة كسرى هي صورة محمّد صلى الله عليه وسلم! وأصغر دارس لتاريخ المنطقة يعلم أن هذا الكلام هراء، وأنّها عملة ساسانية استخدمها العرب ونقشوا عليها رموز دينهم، ثم ضربوا العملات الإسلامية الخالصة في العهد الأموي بعد ذلك. وهذا هو حال العملات التي يذكرها جابر ويستند إليها لزعم مسيحية القرآن!
أما أمثلته عن تشابه قصص القرآن مع قصص الأديان السابقة فهي ثرثرة لا قيمة علمية لها؛ ذلك أن الله أرسل لليهود أنبياء وأنزل لهم كتابا، وأين العجب في أن تكون تلك الكتب التي هي في الأصل من عند الله متضمّنة لقصص كثيرة ذكرها القرآن بعد ذلك؟ إنه يكرر نفس المغالطة، وهي أنّ التشابه يعني تأثُّر الإسلام بتلك الأمم، ولكن الحقيقة أنّ التشابه يعني وحدة المصدرية، وهي الوحي، وأنهم “أهل كتاب” حقّا، والاختلاف في بعض التفاصيل نتج عن تحريف بعض قصصهم عبر التاريخ.
ما ذكره عن عدم وجود التسلسل الموضوعي بين بعض الآيات ناتج عن عدم وعيه بأنّ القرآن كتاب فيه تشريعات وقد نزل منجّما على الأحداث، وبعض الآيات نزلت في أوقات مختلفة وتم وضعها في موضعها بعد ذلك. فلم يَكتب القرآن كاتب مرة واحدة بتسلسل كما يكتب الروائيّون رواياتهم، وهو ليس رواية حتى يُطلب هذا التسلسل في جميعه. وللتقريب نقول: لو قرأتَ كتاب قوانين أو دستورا، هل على كل بند أن يكون مرتبطا موضوعيا بالذي قبله؟ هل ستجد فيه تسلسل أحداث؟ كلا، وكذلك -ولله المثل الأعلى- القرآن؛ فيه من الآيات التشريعية وفيه من القصص، وأنت حين تقرأ قصة من القرآن ستجدها كوحدة موضوعية كاملة مسلسلة بأجمل ما يكون التسلسل الأدبي.
أما كلامه عن السجع في فواصل القرآن، وزعمه بأنّه يأتي فقط لإضافة النغمة لا أكثر؛ فهو دليل على انعدام حسّه الأدبي، فالمستوى الصوتي الذي يضيفه السجع القرآني ينسجم انسجاما تامّا مع المستوى الدلالي الذي يحمله النصّ في السور المكّية تحديدا، وهو مجال أقوم ببحثه ضمن دراستي الأكاديمية، وهو ليس سجعا متكلّفا جاء للنغم فحسب كما يظنّ الجهلاء، بل لن تجد صياغة محتملة أكثر بلاغة وأداء للمعنى بكامل مستوياته مما عليه النصّ بشكله الذي في القرآن.
وكذلك كلامه عن التكرار في القرآن، فهو ناتج عن جهله بأهمية التكرار ودوره في العربية، وبأنّ النصّ العربي يخاطب الإنسان بكينونته الكاملة، ولذلك تُعرَض القصة في أكثر من موضع بحسب السياق للتذكير، وتأتي مرة موجزة ومرة مطوّلة. يقول الإمام الخطّابي: “على أنّ للإشباع موضعًا، ولتكرار القول من القلوب في بعض الأمور موقعًا. قال الله عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}”. والقرآن كتاب حياة وليس كتاب تعريفات أو فلسفة حتى يكون مختَزَلا حاصرا للمعاني! ولمن أراد التوسّع في هذه النقطة يرجى الاطلاع على تدوينتي “القرآن ليس لغة برمجة.. والإنسان ليس حاسوبًا”.
أما كلامه عن حذف بعض الآيات من القرآن، فهو يدلّ على كذبه واستخفافه بعقول متابعيه، فهو يزعم أن أحاديث الداجن الذي أكل صحيفة آية الرجم موجود في البخاري ومسلم والموطأ، وهو كذب صريح؛ فالحديث ليس موجودا لا في البخاري ولا في مسلم ولا في الموطأ! بل أخرجه آخرون بسند ضعيف، فلماذا يزعم جابر أنّه موجود في صحيح البخاري ومسلم والموطأ؟ ليوهم القارئ بأنه حديث معتَمد عند أهل السنة، ولكن الواقع أنه حديث ضعيف انفرد بروايته ابن إسحاق، والحديث الذي صحّ عند مسلم ومالك وغيرهما ليس فيه كلام عن الداجن، وهي ملاحظة مهمة تبيّن تزويره.
أما ما يسمّيه “حذفا” لآيات فيسميه العلماء “نَسْخ التلاوة”، فهي آيات نُسخت من المصحف تلاوة أو تلاوة وحُكما في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم بوحي من الله، وليس كما يحاول أن يوهم بأنّها “ضاعت” في عهد الصحابة! وليس هناك قانون يُلزم بأن يُنزل اللهُ القرآنَ ولا ينسخ منه شيئا، فقد أنزل سبحانه كتبا سابقة ونسخها جميعا، ومن ثم فموضوع نسخ الآيات تلاوة لا يشكّل أي مطعن في القرآن، لأنّه لا يوجد في الإسلام قاعدة تقول إنّ كل آية نزلت فيجب أن تبقى في القرآن! هذا افتراض وهمي موجود في عقله فقط، بل تحدث العلماء منذ القدم بوضوح عن نَسْخ التلاوة، وروى أئمة الحديث في ذلك أحاديث صحيحة، وهو أمر أراده الله عز وجلّ، كما أنّه أراد تحريم قرب الصلاة في حالة السكر، ثم شاء أن يحرّم شرب الخمر مطلقا، وكما شاء ألا يفصّل أركان الصلاة في القرآن، وكما شاء أن يحوّل القبلة، يفعل سبحانه ما يشاء، ويبتلينا بحكمته عزّ وجلّ.
والحديث عن منظومة “الابتلاء” في الإسلام حديث يطول، ولكنْ ينبغي أن يعلم القارئ بأنّ الطريق إلى الجنّة في مفهوم الإسلام ليس نزهة بين الورود، بل يحتاج الإنسانُ إلى الكدح وضبط النفس والتجريب، ويقع ضمن هذه المنظومة المتشابهُ في الدين، وشهواتُ النفس، والشيطان، فهذه كلها قد تفتح المجال لمن يترك اللجوء إلى الله والاعتصام بالمحكمات ويستسلم لها بأن يسقط في الاختبار. ولكنها من جهة أخرى ضرورية كعناصر للاختبار الدنيوي، ولولا وجودها لما كان هناك معنى للاختبار في الدنيا والجزاء في الآخرة، وفي هذا الإطار نفهم قضية نسخ بعض الآيات (راجع الآية 143 من سورة البقرة، وهي تتحدث عن المقصد من نسخ القبلة).
أما ما ذكره بخصوص جمع القرآن فليس فيه حجّة، ولكن ما ينبغي التأكيد عليه كحقيقة صارخة تهدم كل ثرثرته أنّه لا توجد اليوم عدة نسخ للقرآن، فلو صح أنّ العنصر البشري بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلّم قد تدخّل في صياغة القرآن لوجدنا عدّة نسخ للقرآن، خصوصا مع وجود فرق متصارعة منذ القرن الهجري الأول كالخوارج والروافض وأمثالهم. ولكن الحقيقة المذهلة أن جميع هذه الفِرق على اختلافها وصراعاتها تعتمد مصحفا واحدا، هو نفس المصحف في إندونيسيا وفي إيران وفي عُمان وفي المغرب وفي أي مكان في العالم. بل قد عثر علماء غربيّون في ألمانيا على نسخة من المصحف تَبيّن أنها تعود إلى العهد الراشدي (لم يذكرها جابر لأنها تفضح مسعاه!)، ومع ذلك فهي مطابقة للمصحف الذي بين أيدينا، وهي متاحة على الشبكة.
أما اختلاف القراءات المتواترة في التنقيط والحركات فلم يحدث في الواقع إلا في نسبة لا تتجاوز %2 من كلمات القرآن، وهي من أوجه القراءة المشروعة للقرآن، والاختلاف في التنقيط من بينها قليل جدّا؛ لأنّ المعتمد في حفظ القرآن لم يكن الكتابة فحسب كما يتوهّم، بل في الأساس النقل مشافهة والحفظ في الصدور، وهذا يجعل الاختلاف حول تنقيط كلمة أمرا غير وارد لأنّ طريقة لفظها محفوظة سمعا ونطقا، إلا في ما احتملته القراءات. وهذه النسبة القليلة لا تشكّل اختلافا في فهم الآية في معظمها؛ كالفرق بين “خوفَ” و”خوفٌ”، أو بين “فتبيّنوا” و”فتثبّتوا”، أو بين “نُنْشِزُها” و”نُنْشِرُها”. وللتوسّع حول جمع القرآن والشبهات عن الحذف فليقرأ من كتاب “المقدمات الأساسية في علوم القرآن” للأستاذ عبد الله الجديع “المقدمة الثانية: حفظ القرآن”، و”المقدمة الثالثة: نقل القرآن”. ففيها ما يفند الشبهات حول ذلك، ويضع المسلم على أرضية علمية صلبة في هذه المسائل.
أمّا زعمه بأنّ الأدلة التاريخية تقول إنّ القرآن جُمع في عهد عبد الملك بن مروان، ويستدل بنصّ منسوب لعبد الملك يقول فيه إنّه جمعَ القرآن في رمضان؛ فهذا من الأمور الفاضحة التي تدلّ على عدم فهمه لِما يقرأ! والعجيب أنّ جابرا يعرض على الشاشة رواية أخرى من كتاب “تاريخ الخلفاء” يقول فيها عبد الملك: “وخَتَمتُ القرآن في رمضان”، ولكنّه يقرأ علينا “وفيه جمعتُ القرآن”! فكيف لم يخطر على باله أنّ الجمع هنا بمعناه المتعارف عليه أي الحفظ في الصدر؟! والرواية التي يعتمدها جابر جاءت في “الكامل في التاريخ” ونصّها: “أخافُ الموت في شهر رمضان، فيه ولدتُ، وفيه فُطمتُ، وفيه جَمعتُ القرآن”. ورغم أنها روايات غير مسندة ولا تعتبر “أدلة تاريخية” نقدّمها على ما تواتر لدينا من أخبار جمع القرآن، فإنّها واضحة في أنّه يقصد حفظَه لكتاب الله غيبا وليس جمعه للمصحف! فتأملوا هذا الجهل الفظيع في فهم نصّ يسير، كيف يتأتى منه فهم هذه المسائل؟!
أما اعتماده على عدد آيات سورة الأنفال والتوبة في مخطوط لمصحف في المكتبة البريطانية يعود للعهد الأموي؛ فهو محاولة بائسة لإثبات التحريف واستغلال جهل متابعيه، فقد أظهر للقارئ ما كُتب فوق السورة من عدّ الناسخ للآيات، إذ جعل آيات الأنفال 77 آية بدلا من 75، وجعل آيات التوبة 130 آية بدلا من 129، وغيرها.. فهذا كلّه من عدّ الآيات وليس من زيادة الآيات أو نقصانها! وأنا أتحدى جابر الملحد أن يستخرج لنا تلك الآيات المضافة أو المحذوفة، فهو يحاول إيهام القراء بوجود آيات زائدة، ولكن لماذا لم يذكرها مع توفّر المخطوطة؟ السبب بسيط؛ إنّ العلماء اختلفوا قديما في عدّ آيات القرآن، بل كتبوا في ذلك كتبا، فبعضهم قد يعتبر آيتين متجاورتين آية واحدة، وبعضهم يعتبرهما آيتين. يقول الإمام أبو عمرو الداني في كتابه “البيان في عدّ آي القرآن” عن سورة التوبة: “وَهِي مئة وتسع وَعِشْرُونَ آيَة فِي الْكُوفِي، وَثَلَاثُونَ فِي عدد البَاقِينَ”. وبهذا نفهم سبب الاختلاف في ترقيم الآيات في بعض السور في المخطوطة.
أما استناده إلى ما كُتب على المخطوطات من أسماء السور كسورة الشعراء التي اسمها على المخطوطة “طسم الشعراء”، وسورة النمل التي اسمها على المخطوطة “طس النمل”، فهو من أكثر ما يثير الضحك لمن لديه أدنى اطلاع! فمن المعروف أنّ أسماء السور لم يرد فيها نصّ من الوحي، وأن العلماء اختلفوا في أسمائها، وأنت حين تقرأ كتب التراث المطبوعة ستجد العلماء يسمون السور بخلاف ما تم اعتماده في معظم المصاحف المعاصرة، فما في المصاحف المعاصرة هو اعتماد لصيغة معينة تيسيرا على الناس ولا يعني أنّ هذه هي التسمية الوحيدة! أما من يجهل ذلك فهو يدل على ضحالته الثقافية، وهذا يدلّك على أن اطلاع جابر سطحيّ جدّا على الثقافة الإسلامية التي يوجّه النقد لأهم أركانها وهو القرآن الكريم. ولقد سُميتْ سورة الفاتحة “أم الكتاب”، وسميتْ التوبة “براءة”، وسميتْ الإسراء سورة “بني إسرائيل”، وهكذا الكثير من السور.
****
وأخيرا كلمة للقراء: إنّ مقاطع الفيديو الشعبوية التي تحاول تقديم المواد العلمية والفكرية بقالب مؤدلج سريع كالوجبات الخفيفة لن تساهم أبدا في ارتقاء مستواكم العلمي والفكري، بل على العكس؛ فهي تساهم في تسطيح العقلية العربية، وفي صرفها عن التعمّق المطلوب لبناء الفكر ولبناء المنهجية العلمية في التفكير، خصوصا إذا تم استخدامها من قبل مؤدلجين كجابر الملحد.
إنّ المنهجية العلمية تحتاج إلى اكتساب الصبر على البحث، والتمرّس على مسح المواد العلمية ذات الصلة للخروج بتصوّر أكثر تكاملا عن أي فكرة أو معلومة. أما هذه المقاطع فهي تربّي العقل الكسول، الذي يجلس صاحبه كالطفل ويريد أن يُلقَّمَ المعلومة سائلة سائغة بزجاجة الرضاعة دون حاجة إلى القيام بأي جهد!
لا تظنّ بأنّك صرتَ على شيء من الفكر والعلم إذا استمعت لبعض المقاطع المؤدلجة وقمتَ بترديد محتواها كالببغاء، فإنّك إنْ واجهتَ باحثا متخصصا وناقشكَ فيما تقول علمتَ ضحالة ما أنت عليه، وأنّك سكِرتَ بمتعة زائفة حين كنتَ تمارس الكسلَ الفكري بمتابعة تلك المقاطع مع اجتنابك للبحث والقراءة!
(المصدر: مدونات الجزيرة)