مؤسسات الرحمة في الحضارة الإسلامية
بقلم إبراهيم البيومي غانم
إذا أخذنا في الاعتبار الطبيعةَ الخاصةَ للزكاة باعتبارها ركنًا من أركان الإسلام، وحللنا أداء الأوقاف وبقية مكونات ما أسميه «نسق الرحمة ومكارم الأخلاق»، باعتباره أحد أنساق النظام الاقتصادي الإسلامي، سيتبينُ لنا بأيسر نظر أن الوقفَ كان مكملًا للزكاة في أحوال كثيرة؛ إذ بقي نظام الوقف في مركز هذا النسق من حيث ديمومته واستقراره واستناده إلى أبنية مؤسسية تراحمية متنوعة، كما يتضحُ من منظور تاريخي، أن التأثيرَ الكبير للوقف مقارنة بالزكاة في النظام الاجتماعي العام يرجعُ إلى سبب أو أكثرَ من الأسباب الآتية:
أ. أن الأعيانَ الموقوفة من العقارات المبنية والأراضي الزراعيةِ زادت زيادة تراكمية بمرور الزمن. وكان من أهم أسباب ذلك: الأخذ بمبدأ تأبيد الوقف؛ بما يعني ديمومة العطف العملي على الفقراء والمساكين وذوي الخصاصة، وهو ما ذهب إليه جمهورُ الفقهاء، وبخاصة فقهاء المذهب الحنفي، الذي أصبح مذهباً رسميًا للدولةِ العثمانية وولاياتها. وفي بلدان المغرب العربي حيثُ يسود المذهب المالكي؛ كان بعضُ الواقفين يرغبون في أن تكون وقفياتهم حسب المذهب الحنفي؛ حرصًا منهم على الابتعاد عن بعض القيود التي يضعها فقهاء المالكية في الوقف، وأهمها شرطان هما: حيازةُ العين الموقوفة بيد الواقف، وقبولُ الموقوف عليهم لأن يكونوا من مستحقيه؛ وهما شرطان قد يؤديان إلى تأقيت أثر الإحسان والشفقة التي يقصدها أصحاب المبادرات الخيرية.
ولكن وقائعَ التطور التاريخي لنسق الرحمة ومكارم الأخلاق تشير إلى أن نموَّه الاقتصادي التراكمي قد شهد موجات من المد في الفترات التي مرت فيها المجتمعات الإسلامية بالاستقرار، وموجات أخرى من الجزر في أوقات الفتن والاضطراب، الأمر الذي تكرر حدوثه في عهد المماليك بشكلٍ لافت للنظر، وفي عهود أخرى بمعدل أقل؛ إذ دأبَ بعض الحكام من السلاطين والأمراء على مصادرة الأوقاف مثلًا لتحقيق أطماعهم الشخصية، أو لتمويل أعمالهم الحربية أحيانًا؛ ومن ثم كانت المكونات الاقتصادية لهذا النسق تنخفض في مثل تلك الحالات، ويصيبها الكساد، ومن ثم كان إسهامها يتراجع في البناء الحضاري والنهضة الاقتصادية وإشاعة التراحم والسكينة العامة.
ثم ما تلبثُ الأحوال أن تستقرَّ، فيأتي حكامٌ آخرون يسعون لإصلاح ما أفسده سابقوهم، ورد ما اغتصبوه منها. وكان الحكام الجدد في أغلب الأحوال يقصدون تعزيزَ شرعيتهم السياسية بانتهاج سياسةٍ إصلاحية تجاه المكونات الكبرى التي يتشكل منها النسق العام للرحمة، وبخاصة الأوقاف وبقية التصرفات الخيرية؛ وعليه كانت مؤسسات هذا النسق تعود إلى النمو والازدهار، وتسترد فعاليتها.
إن بحثَ التكوين التاريخي لمكونات نسق الرحمة ومكارم الأخلاق ودوره في نشر السكينة العامة يؤكد أن هذا النسقَ قد احتلَّ منذ نشأته الأولى موقعًا تأسيسيًا في صلب البناء الحضاري الإسلامي ونظمه الأساسية.
ب. إن تنوعَ أساليبِ الانتفاع الاقتصادي من ممتلكات نسق الرحمة ومكارم الأخلاق، قد أسهمَ في تعزيز الشعور العام بالسكينة والطمأنينة العامة، وشيء من الرواج الاقتصادي؛ حيث جرى التعامل في أعيان الوقف بصفة خاصة عن طريق الإيجار، والحكر، والخلو، والمزارعة، والمساقاة، والمغارسة، وغير ذلك من أساليب الانتفاع، التي وإن اختلفت أسماؤها من بلد لآخر، إلا إن مضامينها ظلت متقاربة في جملتها، وبعضها مثل الإجارة لا يختلفُ كثيرًا عن الإجارة في الأملاك غير الموقوفة.
وفي بعضِ الفترات ظهرت سلبياتٌ كثيرة جراء استخدام بعض تلك الأساليب، وبخاصة الحِكر، وهو أسلوب انتفاع يعني إعطاء شخص أو جهة استغلال أرض الوقف أو أبنيته مقابل إصلاحها وتعميرها، ويستمر هذا الاستغلال لفترة طويلة تصل إلى تسع وتسعين سنة. وقد عانت الأوقافُ من إساءة استخدام الحكر في معظم البلدان الإسلامية، وأدت سلبياته إلى تشويه النسق العام لمكارم الأخلاق الفردية والجماعية.
ج. إن نموَّ التكوين الاقتصادي لنسق الرحمة ومكارم الأخلاق وقطاعه الخدمي، إلى جانب زيادةَ نسبةِ الذين يؤدون الزكاةَ لبيتِ المال؛ كان يعني في معظم المراحل التاريخية نموًا مطردًا لقطاع الاقتصاد الاجتماعي، ضمن أنساق الاقتصاد العام، من ناحية، وكان هذا النمو يَحدُّ من إمكانيات توسع اقتصاد السوق الرأسمالي في المجتمعات الإسلامية من ناحية أخرى، ومن ثم كان يؤدي إلى توفير شبكة واسعة من أعمال التضامن الاجتماعي والرعاية الاجتماعية. ذلك لأن دخولَ بعضِ الموارد الاقتصادية في دائرة نسق الرحمة ومكارم الأخلاق، كان يعني عدم خضوعها لآليات السوق، وخروجها من نسق المنافسة الاقتصادية التي لا تعرف سوى لغة المكسب والخسارة.
وتجلى هذا بوضوحٍ في قطاع إنتاج السلع والخدمات العامة وتوزيعها؛ حيث كان الهدف الرئيسي لنسق الرحمة ومكارم الأخلاق هو توفير تلك السلع والخدمات مجانًا، أو بأسعار رمزية من خلال إنشاء وتمويل مؤسسات ومرافق عامة تقدم أنواعًا مختلفة من الخدمات، لم يكن يُقبل عليها أصحاب المشروعات الربحية الخاصة في السوق الحر، ومن أهمها: المياه، وهي مرفق بالغ الحيوية لكل عمليات التمدن والتطور الحضاري، وكذلك الخدمات التعليمية والصحية والترفيهية وبعض الخدمات الأمنية، إلى جانب تقديم مساعدات نقدية وعينية لبعض الفئات ذات الاحتياجات الخاصة. ويحفل السجلُّ التاريخي بنماذج كثيرةٍ تدلُّ على ذلك في مختلف البلدان الإسلامية.
ورغم تشديد جمهور الفقهاء على عدم جواز بيع الشيء الموقوف سواء كان عقارًا أو منقولًا أو أراضي زراعية، إلا أن ثمة عديدًا من الفتاوى التي تدل على أن الرحمة هي المقصد الأسمى من الوقف، وليس حبس الأراضي أو الممتلكات عن التصرف مقصدًا في حد ذاته، وأن الرحمة بالمنكوبين أولى من الالتزام بقاعدة عدم جواز بيع الأحباس. ومن ذلك ما ورد في نوازل الونشريسي، قال:
قرر الفقهاء أنه في سنة المجاعة ووقوع المخمصة؛ لا يحل بأي شكل استبقاءَ الأرض المرصودة للوقف دون استفادة منها، وإنما يجب بيع الأرض المحبوسة على الفقراء مراعاة لأولويات الضرورة، ولأن استبقاء أنفسهم وعدم الإفراط في هلاكهم أفضل عند الله وأقرب للطريق المثلى من بقاء الأرض بعد هلاكهم أو موتهم[1].
إن بحثَ التكوين التاريخي لمكونات نسق الرحمة ومكارم الأخلاق ودوره في نشر السكينة العامة يؤكد أن هذا النسقَ قد احتلَّ منذ نشأته الأولى موقعًا تأسيسيًا في صلب البناء الحضاري الإسلامي ونظمه الأساسية، وأنه لم ينشأ لاحقًا على وجود هذا البناء. وهذه ملاحظة فارقة يتعينُ أخذُها في الاعتبار عند إجراء أي مقارنات بين هذا النسق في خبرة المجتمعات الإسلامية، وغيرها من المجتمعات، وبخاصة الغربية التي عرفت نموًا لقطاع الشفقة أو ما يعرف بالقطاع الخيري، أو غير الهادف للربح، او القطاع الثالث، أو ما يسمى في التقاليد الفرنسية باسم: الاقتصاد الاجتماعي.
وأدى اطرادُ الممارسة الاجتماعية الاقتصادية لمنظومة الرحمة والأخلاق ومكارمها ومكوناتِها الرئيسية، بما فيها الزكاة والوقف وبقية الصدقات غير المفروضة؛ إلى تحويلها لنسقٍ مدني فرعي كثيف العلاقات مع بقية أجزاء النظام الاجتماعي العام. وفي إطار هذه الوضعية كانت فاعليةُ هذا النسق هي الوجهَ الآخر لاقترابه من المقاصد العامة للشريعة، وكانت الوظيفة التاريخية الكبرى له في حال فاعليته هي الإسهام في بناء مجال مشترك بين الأمة والسلطة، أو بين المجتمع والدولة، ولمصلحتهما معًا.
ولم يضعف أداء هذا النسق إلا في اللحظات التي كان يقعُ فيها ضحيةَ الفساد الإداري والأخلاقي، أو ضحيةَ أطماع السلطات المستبدة، أو ضحية مركَّبٍ من الفساد والطمع والاستبداد وعدم الاستقرار. وما أشد حاجة أمتنا لإحياء مكارم الأخلاق بقيمها المعنوية العالية وبمكوناتها المادية الخيرية.
من أهم ملامح الأداءِ التاريخي العام لنظام الوقف في عموم البلدان الإسلامية؛ أنه قد اكتسب موقعًا وظيفيًّا تأسيسيًّا في بنية التنظيم الاجتماعي والسياسي للمجتمعات الإسلامية.
ولكن الممارسات الاجتماعية الإيجابية للوقف، التي دعمتها الاجتهادات الفقهية عبر المراحل التاريخية المتعاقبة، قد أَسهمت في بلورة شخصية متميزة لنظام الوقف؛ باعتباره مركزًا للمنظومة الخيرية التي تترجم معنى الرحمة ومكارم الأخلاق ترجمة عملية داخل النسق الاجتماعي الإسلامي العام.
وكانت أوضح سمات هذا النسق الخيري التراحمي أنه نسقٌ مفتوحٌ من كل جوانبه على كل جوانب الحياة، إذ هو ابن شرعي لنسق مفتوح أصوليًا ومعرفيًا وهو النسقُ الفقهيُّ. كما أن نسق نظام الوقف تحديدًا شديد الارتباط بالنسق الاجتماعي العام، وهو متعدد الأدوار داخله.
وفي نظري أن فقه الوقف هو في جملته عبارةٌ عـن ترجمة تفصيلية لجانب أساسي من جـوانب مفهـوم السياسة المدنيـة ذات المرجعية الإسلامية، تلك التي تنظر إلى السياسة على أنها تدبير لأمور المعاش بما يصلحها في الدنيا، وبما يحقق السكينة وينشر مشاعر الرحمة والشفقة بين الأغنياء تجاه الفقراء،، وبما يؤدي إلى الفلاح في الآخرة، لا على أنها صراع حول القوة بالقوة.
ومن أهم ملامح الأداءِ التاريخي العام لنظام الوقف في عموم البلدان الإسلامية؛ أنه قد اكتسب موقعًا وظيفيًّا تأسيسيًّا في بنية التنظيم الاجتماعي والسياسي للمجتمعات الإسلامية. وتجلى الدور الرئيسي للوقف من خلال موقعه هذا في بناء مجال مشترك بين المجتمع والدولة. وأسهم في تحقيق التوازن بينهما؛ حيث صبت أغلبيةُ المبادراتِ الوقفية ومؤسساتها في تقويتهما معًا ضمن الإطار التراحمي التضامني الحاكم للعلاقة بينهما، وباستثناء الفترة الزمنية الحديثة والمعاصرة، لم يكن نظام الوقف مستوعبًا بكامله في مصلحة السلطة على حساب المجتمع، كما لم يؤد إلى تقوية أحدهما وإضعاف الآخر.
هذا هو الاستنتاج الأساسي الذي استخلصناه من مجمل الموروث الحضاري لمؤسسات الرحمة ومكارم الأخلاق العملية، وفي القلب منها أنظمة الزكاة والوقف والهبة وعموم الصدقات. وأحوال مجتمعات الأمة اليوم بحاجة ماسة لإحياء هذه الأنظمة وتحديثها وتفعيلها.
ومن الضروري في هذا السياق، أن يسعى العلماء لبيان الأصولِ الشرعية لمكونات المنظومة الخيرية التراحمية وفي القلب منها: الزكاة والأوقاف وعموم الصدقات. ومن الضروري أن تسهم وسائل الإعلام والتربية والتعليم في التوعية بهذه المنظومة ودورها في التكافل الاجتماعي؛ كي تنزاح الصورةَ النمطيةَ السلبية السائدة في الوعي المعاصر عن بعض مكونات هذه المنظومة وبخاصة نظام الوقف. وهي صورة غالبًا ما تختزله في أشكال مؤسسة تقليدية مثل: المضيفة، والتكية، والمقبرة، والزاوية. وغالبًا ما يظهر الوقف في هذه الصورة المختزلة باعتباره علامة على السكون (التوقف)، ودليلًا على الإهمال والهامشية.
هذا في حين أن التجاربَ الدولية الحديثة والمقارنة؛ كلها تؤكدُ نجاح هذا النظام وقابليته للتطورِ واستيعاب أفضل النظم الحديثة في مجالات الإدارة والاستثمارِ والحوكمةِ ومعايير التميز في الأداء وتحقيق الأهداف المجتمعية والمصالح العامة.
(المصدر: موقع “إضاءات”)