مقالاتمقالات مختارة

مؤامرة الباطنيين الكبرى على صلاح الدين

مؤامرة الباطنيين الكبرى على صلاح الدين

بقلم أحمد الظرافي

في مطلع سنة 567هـ، وتحديداً في أول جمعة من محرم، اعتلى خطيب صلاح الدين الأيوبي (532-589هـ) منبر الجامع الأزهر بالقاهرة، فألقى خطبة الجمعة، وختمها بالدعاء للخليفة العباسي المستضيء بأمر الله (566-575هـ)، وكتب صلاح الدين بذلك إلى سائر الخطباء في بلاد مصر، ففعلوا. وكانت هذه الخطوة إيذاناً بنهاية الدولة العبيدية الرافضية (297-567هـ)، ومن ثم عودة الوحدة الروحية للعالم الإسلامي من جديد، «وأضحى الدين واحداً، بعد أن كان أدياناً، والبدعة خاشعة، والجمعة جامعة، والمذلة في شيع الضلالة شائعة»، كما قال ابن خلكان. وكان ذلك بعد أن حكم العبيديون مصر قرابة قرنين من الزمان، بذلوا خلالهما جهوداً خبيثة؛ لمحو السنة، ونشر التشيع. وعلى إثر ذلك تعرض صلاح الدين لمؤامرات كثيرة من قبل الباطنية؛ لتصفيته جسدياً، ولتقويض أركان دولته، ولم ينسوا له هذا العمل حتى اليوم، وكانت أخطر تلك المؤامرات ضده، هي المؤامرة التي سنتحدث عنها في هذا المقال؛ لأنها ارتبطت بمشروع جدي خطير، لإحياء الدولة العبيدية المبادة، من جهة، ولأنها شاركت فيها أطراف خارجية صليبية، شديدة العداء للإسلام وأهله، من جهة أخرى.

أطراف المؤامرة:

وفي الوقت الذي استبشر فيه المسلمون خيراً بزوال الحكم العبيدي الرافضي لمصر، واعتبروا ذلك أعظم فتوحات صلاح الدين الأيوبي، وأكبر الخدمات التي قدمها للإسلام وأهله، بما فيها قهر جيوش الفرنجة في حطين، وتحرير القدس والمسجد الأقصى المبارك من سيطرتهم ورجسهم وشركهم، أدت هذه الخطوة – بالمقابل – إلى تفجير براكين الغضب والحقد، في قلوب ونفوس الباطنية على اختلاف مسمياتهم من: إسماعيليين، وحشاشين، ودروز، ونصيرية، على صلاح الدين؛ فبدأوا يعملون ضده في السر، وعندما حانت الفرصة – بعد فترة قصيرة من الزمن – اجتمع هؤلاء المتأسفون على زوال الدولة الفاطمية، والناقمون على صلاح الدين، من رؤوس الشيعة الباطنية، وخصوصاً: أولئك الذين كانوا من أهل الحل والعقد في الدولة العبيدية، والذين لم يذعنوا للأمر الواقع، ولم يقروا بخروج هذه الدولة الباطنية من التاريخ، ومن ثم القضاء على طموحاتهم السياسية، وقرروا حشد أتباعهم، والتشمير عن ساعد الجد؛ لإعادة بعثها من جديد بعد قتل صلاح الدين والإطاحة بدولته، وكان على رأس هؤلاء جميعاً جوهر، مؤتمن الخلافة والمتحكم في قصر حاكم العبيديين، وكان خصياً سودانياً، متزعماً على الجند السود الموالين للخلفاء العبيديين، وكان كثير من هؤلاء الجنود قد فروا إلى النوبة بعد استيلاء صلاح الدين على قصر العاضد؛ وذلك تعبيراً عن احتجاجهم على ما حدث، وحفاظاً على حياتهم، وذلك إلى جانب كل من: الفضل بن الكامل، الملقب بفخر الأمناء، قاضي قضاة الديار المصرية زمن العبيديين، وعبد الصمد الكاتب، وهو أحد أمراء المصريين، والقاضي العويرس، ناظر الديوان، وابن عبد القوي، داعي دعاة الشيعة، وشبريا كاتب السر، وبعض حاشية القصر، وقد انضم إليهم في هذه المؤامرة الخطيرة، عمارة اليمني، الشاعر والمؤرخ، الذي كان مقيماً في مصر حينئذ، والذي نكص على عقبيه، فترك المذهب الشافعي، الذي كان من رموزه، ووالى العبيديين، وترفض مثلهم، وكان من أشد المرجفين في القاهرة على صلاح الدين، والناقمين عليه، والمحرضين على قتله، وعلى تنفيذ هذا المخطط الشرير لبعث دولة العبيديين أولياء نعمته، الذين انتفخت كرشه من عطاياهم، ومن أكل الدسم معهم، وكذلك شارك في هذه المؤامرة بعض النصارى المصريين. والمدهش أن هؤلاء المتآمرين استطاعوا – عن طريق المال، وكيل الوعود – إغراءَ بعض ضعفاء النفوس من أمراء جيش صلاح الدين الأيوبي للاشتراك معهم في هذه المؤامرة. ولم تقف المؤامرة عند هذا الحد؛ فقد أجمع المتآمرون، بعد أن اتفقت كلمتهم على الاستعانة بالفرنج الصليبيين، في كل من الشام وصقلية، نظير مبالغ من المال يدفعونها لهم، مع توفر الدافع لدى الفرنجة أساساً، للتخلص من صلاح الدين. وفعلاً أرسل هؤلاء المتآمرون الرسل إلى وليم الثاني، ملك النورمانيين بصقلية (1155-1189م/550-585هـ)؛ ليهاجم مصر عن طريق البحر، وكذلك أرسلوا الرسل إلى كبار أمراء الفرنجة، في سواحل الشام لمهاجمتها عن طريق البر، وعلى رأسهم عموري، ملك مملكة بيت المقدس (558-570هـ).

خطة المتآمرين:

لثقة المتآمرين بأنفسهم، وقناعتهم بنجاح خطتهم هذه، والتي دبروها بإحكام، ووفروا لها كل عناصر النجاح، فقد عينوا خليفة من الفاطميين، من أبناء العاضد، كما عينوا وزيراً له، وأمراء، لاسيما أن هناك منجماً نصرانياً بشرهم بأن هذا الأمر سيتم بعلم النجوم، وهو العلم الذي كانوا يعتقدون به أشد اعتقاد. وقد قضت خطة المتآمرين أولئك بأنه عندما تجيء جيوش الفرنجة لمهاجمة مصر من الشام من جهة البر، ومن صقلية من جهة البحر، في وقت واحد، ويخرج صلاح الدين الأيوبي على رأس جيشه لملاقاتها؛ يقومون هم بتفجير الوضع في القاهرة، خلف ظهره، وإشعال الثورة ضده في أحيائها، ومن ثم فرض سيطرتهم الكاملة عليها، ثم تتويج ذلك بالإعلان عن ولادة الدولة الفاطمية من جديد؛ وذلك لأن البلد سيكون خالياً من الجنود، فلا يتصدى لثورتهم أحد، فإذا عاد الجنود الذين خرجوا مع صلاح الدين لقتال جيوش الفرنجة لمجابهة هذه الثورة؛ يجدون أبواب القاهرة قد أغلقت دونهم بإحكام، مما يحول بينهم وبين دخولها، وهنا يأتي دور الأمراء الذين اشتروهم بالمال من جيش صلاح الدين، وهو أن يعلنوا الانضمام إلى صفوف أولئك المتآمرين، على أساس الاعتراف بالأمر الواقع، وهو ما سيفت في عضد أتباع صلاح الدين، ويجعلهم ينفضون من حوله، وعندئذ لا يبقى لصلاح الدين مقام في مصر مع الفرنجة، هذا إذا خرج صلاح الدين بنفسه لملاقاة جيوش الفرنجة، خارج أسوار القاهرة. أما إذا بقي صلاح الدين في القاهرة، وأرسل عساكره لملاقاة جيوش الفرنجة الغازية؛ ثاروا عليه، وقبضوا عليه، وقتلوه؛ لعدم وجود فئة ذات بأس، تنصره، وتدافع عنه. وقد قال لهم عمارة اليمني: «وأنا قد أبعدت أخاه توران شاه إلى اليمن خوفاً من أن يسد مسده، وتجتمع الكلمة عليه». وكان عمارة اليمني هذا ممن بكوا على الدولة الفاطمية، ورثَوها بأشعارهم، وكان قد لعب دوراً كبيراً في إقناع صلاح الدين بفتح اليمن، هذه الأخيرة، التي لم يلبث توران شاه، أخو صلاح الدين، أن سار إليها على رأس جيش كبير، نظراً لوجود الأسباب التي كانت تستلزم هذا الفتح، بطبيعة الحال، ومنها: القضاء على ثورة ابن مهدي الرعيني، الخارجي، الذي عاث فساداً في تهامة، من جهة، ولتصفية الوجود الفاطمي في اليمن، من جهة أخرى، ولتكون عمقاً إستراتيجياً لصلاح الدين في مقارعة الصليبيين في الشام، من جهة ثالثة. وفي غضون ذلك، وصل رسول من أحد أمراء الفرنجة بالساحل الشامي، إلى صلاح الدين، في القاهرة، يحمل رسالة وهدية، ولم يكن غرضه سوى الاجتماع برؤوس المؤامرة من الباطنيين، أما الرسالة والهدية فقد كانتا للتمويه على حقيقة مقصده، وكان بعض الخونة من نصارى مصر، هم حلقة الوصل بينه، وبين أولئك المتآمرين. ولا غرابة في ذلك، فأهل الشرك ملة واحدة، في كل زمان ومكان.

إحباط المؤامرة:

قد شاء الله سبحانه وتعالى، الذي قيّد بعض المسلمين الغيورين على دينهم، أن تفشل هذه المؤامرة الخبيثة، وأن يحبط كيد الكائدين، ومكر الماكرين، قبل أن يشرعوا في عملية التنفيذ. ففي منتصف شعبان من سنة 569هـ، فوجئ أولئك المتآمرون بالقبض عليهم من قبل رجال صلاح الدين، وجاءوا بهم إليه، واحداً واحداً، بمن فيهم المبعوث الفرنجي، واتضح أن صلاح الدين، كان على علم تام بما كانوا يدبرونه ويخططون له، وأنه كان يرصد تحركاتهم بدقة، قبل أن يأمر بالقبض عليهم في ساعة الصفر، وعندما سألهم أقروا بالحقيقة، بل إنهم – في الحقيقة – كابروا، ولم يروا في ما كانوا سيفعلونه إثماً، يستحقون عليه العقاب، فأمر صلاح الدين حينئذ بصلبهم جميعاً بين القصرين، في القاهرة، بناء على فتوى الفقهاء، وذلك في الثاني من رمضان سنة 569هـ، وكان من ضمن المشنوقين، عمارة اليمني، والذي قال فيه الشاعر:

عمـــــارة في الإســـــــــــلام أبـــدى خــيـــانــة

وبــــايــــع  فيهــــا بيعــــــــــــة وصليـــــباً

وأمسى شريك الشرك في بغض أحمد

وأصبح في حب الصليب صليباً

وكان خبيث الملتقى إن عجمتـــــــــــــه

تجد منه عوداً في النفـــــــــــــاق صليباً

سيلقى غـداً ما كان يسعى لنفسه

ويسقى صــــــــــــديداً في لظــى وصليباً

وكانت هذه الحادثة، أو المحاولة الانقلابية الباطنية – إن جاز التعبير – قبل استقلال صلاح الدين بحكم مصر، ولذلك فقد كتب صلاح الدين على إثرها إلى أستاذه الملك نور الدين (511-569هـ) يعلمه بما وقع من أولئك المصلوبين، وما حل بهم من الخزي والنكال. وبعد ذلك تتبع صلاح الدين المتربصين به من الشيعة الباطنية، فقتل بعضهم وحبس آخرين، وأخذ في نصرة السنة، وإهانة أهل البدعة، وتطهير مصر من رجس الرفض والروافض.

وصلت هذه الأخبار إلى أمراء الفرنج في الساحل الشامي، فأسقط في أيديهم، ولذلك لم يتحركوا، وآثروا السلامة. أما فرنجة صقلية فلم يعلموا بما حدث؛ ولذا تحركت سفنهم، وعلى متنها ثلاثون ألف مقاتل، بقيادة ملكهم وليم الثاني، وهاجمت الإسكندرية للاستيلاء عليها، طبقاً للخطة المتفق عليها، وذلك في آخر ذي الحجة سنة 569هـ/1174م، ولكنهم جوبهوا بمقاومة عنيفة من جيش صلاح الدين، وأهل المدينة، وانتهى هجومهم بالفشل الذريع، بعد أن يتكبدوا خسائر فادحة، فقد قتل منهم الكثير، وأغرق عدد كبير من سفنهم، بما تحمله من جنود وأسلحة ومؤن، وعندما وصلت أخبار هذه الهزيمة الشنيعة، إلى عموري – ملك مملكة بيت المقدس – أصيب بصدمة نفسية عنيفة شديدة، أدت إلى وفاته. وبعد أن أمَّن صلاحُ الدين مركزَ حكمه في مصر توجه على رأس جيشه إلى الشام التي تفجرت فيها النزاعات بعد وفاة أستاذه نور الدين زنكي، مخلفاً وراءه ولده الصغير: الصالح إسماعيل في حلب، وذلك في نفس هذا العام، فدخل صلاح الدين دمشق، ثم ضمَّ حمص، ثم حلب، وبذلك أصبح صلاح الدين سلطاناً على: مصر، والشام، واليمن، والحجاز، وبرقة.

من الذي كشف المؤامرة؟

على هذا النحو، فشلت هذه المؤامرة المدبرة بإحكام من وجهة نظر أصحابها، أما كيف عرف صلاح الدين الأيوبي بهذه المؤامرة، فيرجع الفضل في ذلك للفقيه الواعظ زين الدين علي بن نجا الدمشقي الحنبلي، والمعروف بابن نجية (508-599هـ)، والذي نزل القاهرة أواخر أيام الدولة العبيدية، زمن وزارة صلاح الدين للخلفية العاضد الفاطمي. إذ إنه لما كان ابن نجية هذا عالماً مشهوراً من أهل السنة، وله تأثير قوي على العامة، لبلاغته، وجودة وعظه؛ فإن عمارة اليمني، المتحمس للقضاء على صلاح الدين ودولته، سولت له نفسه الأمارة بالسوء استقطابَ هذا العالم الواعظ إليه، ومن ثم إشراكه في مخططه الشرير، على أمل أن يكون من المحظوظين والسعداء في الدولة الجديدة، فتظاهر ابن نجية، بأنه على رأيه وموافق له. وهكذا وقف ابن نجية على رأي المتآمرين، وخبث ما تنطوي عليه مؤامرتهم، بعد أن سعوا هم إليه، ولم يسع إليهم. ولأن القضية كانت قضية دين، ولم تكن مجرد إطاحة بنظام سياسي، وقيام نظام سياسي آخر بديل؛ فقد بادر ابن نجية بالذهاب إلى صلاح الدين، وكشف له مؤامرتهم، وسعيهم لقلب الدولة، فطلب صلاح الدين منه مجاراتهم والاستمرار في العمل معهم، ومن ثم إخباره بما يعزمون عليه أولاً بأول، ففعل ابن نجية ما أمره به صلاح الدين، ونتيجة لذلك؛ فقد شك صلاح الدين أيضاً، في أمر رسول أمير الفرنج، والغرضِ من وفادته إليه، في هذا التوقيت؛ لذلك فقد دس عليه رجلاً نصرانياً من أقباط مصر كان يثق به، فجاءه هذه القبطي بكل أخبار رسول ملك الفرنج. وبعد أن أحبط صلاح الدين هذه المؤامرة، وصلب المتآمرين، رفع من منزلة ومكانة ابن نجية، وقربه إليه، وكان يكاتبه، ويحضر مجلسه، وحضر ابن نجية مع صلاح الدين فتح القدس، وقام خطيباً في أول جمعة، أقيمت فيه على كرسي الوعظ، وكان يوماً مشهوداً في تاريخ الإسلام. وبعد وفاة صلاح الدين، صار ابن نجية مقرباً من ولده الملك العزيز عثمان (589-595هـ)، سلطان مصر، وهو ثاني أبناء صلاح الدين، وكان ابن نجية – قبل هذا وذاك – مقرباً من الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، وكان يبغض الباطنية، ويزدريهم، وينعتهم بأشنع النعوت، كما كان الباطنية، بدورهم، يبغضونه، ويحقدون عليه لهذا السبب، وليقظته لهم.

وتجدر الإشارة إلى أنه كان هناك مؤامرة ثانية خطيرة؛ لإعادة بعث دولة الباطنية في مصر، وذلك في مطلع حكم الظاهر بيبرس، سلطان المماليك (658/676هـ)، ولكنها فشلت هي الأخرى فشلاً ذريعاً، وعلى يد بيبرس انتهى الوجود الباطني السياسي في مصر نهائياً، أما طقوسهم وبعض بدعهم فلا تزال قائمة فيها حتى اليوم، وعسى أن نسلط الأضواء على هذه المحاولة، في مقال قادم، إن شاء الله.

(المصدر: مجلة البيان)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى