مقالاتمقالات مختارة

لوازم دعويّة حول طبيعة الداعية وهُويّته وعُدّته (1/ 4)

بقلم خباب الحمد

من أراد اقتحام العقبة الدعوية؛ فإنّ سلوك طريقها؛ مؤذن بمعرفةِ الساحة التي سيقدم إليها الداعية ويُبيّن فيها دين الله بالبلاغ المبين، ويقدّم فيها النصح الأمين؛ فحين بعث رسول الله معاذ بن جبل لليمن قال له: “إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب”[1] وفي ذلك تهيئة للنفسيّة الدعوية لمعرفة المكان الذي سيذهب له؛ ومعرفة طبيعة المجتمع، والقِيم الفكرية التي يؤمن بها من آراء ومعتقدات، مع معرفة أوائل الطروحات الدعوية التي ينبغي أن تطرق أسماعهم.

ولقد حثّه رسول الله مع الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري قبل خروجهما الدعوي لإصلاح مجتمع اليمن على التيسير لا التعسير، والتبشير لا التنفير، والتطاوع وعدم الاختلاف، فهي قضايا دعوية يتحلّى بها كل داعية إلى الله.

في هذا المبحث أضع رُزمة من اللوازم؛ وحُزمة من العُدد التي تكشف طبيعة الدعوة وحقيقتها مِما يساهم في صناعة مستقبلها؛ لأهميّة هذه اللوازم تحديداً في صناعة الهُوية الدعوية، على نحوٍ من الإيجاز:

•    اللازمة الأولى: (ربّانية الدعوة).

إنّ من أهمّ الطبائع التي لا يتجافى عنها الداعية مطلقاً أن يعمل لوجه الله؛ وابتغاء مرضاته والسعي إلى سبيله؛ كما قيل: [اعمل لوجه واحدٍ يكفيك كلّ الأوجه].

والعامل الرئيس الذي يُنجح الدعوة ويجعلها تفلح في شق التربة الخِصبة وبذر بذور الإثمار لرؤية الثمار الدعوية في الحاضر والمستقبل؛ صلة الداعية بالله، وقرب مناجاته، ودوام طاعته، والإخلاص في كلمته، وصدق رسالته، وخبيئة قلبه المليء بكل خير، وسؤال ربّه أن يقبل منه، والانطراح بين يديه لتكون كلمته مسموعة عند الناس فتنال القبول.

إنّ صدق الدعوة إلى الله؛ يُوفق الله صاحبها ويزيده شرفاً أن يدعو لدينه، ويعرض على الناس آيات ربّه؛ كما في الآية الأخرى: {ولقد وصَّلنا لهم القول لعلّهم يتذكرون(51)} سورة القصص.

فالناس بحاجة لأن ترتبط بسماع آيات الله وكلامه؛ مع حثّهم على مشاهدتها في الكون والحياة؛ ولا يكونوا من المعرضين عنها كما قال تعالى: {الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري(101)} سورة الكهف.

فمن أهم مهمّات الدعاة توصيل الناس بعبادتي التذكر والتفكر معاً؛ ليُحسنوا الصلة بالله تعالى؛ ويكون عملهم في الدنيا موصولاً بما يربطهم بالله.

إنّ الداعية الصادق لا ينفك مطلقاً عن ذكر ربه، فبه يثبت قِوام دعوته؛ وبه يتغذى قوّة أثناء مقام الدعوة، كما قال تعالى: {اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري(42)} سورة طه.

بقدر ذكر الداعية لربه قبل وأثناء دعوته، واستصحاب دعاء الله سراً وعلانية؛ فإنّه ينال توفيق الله في طريقه، فالدعوة قيام بحق الله فيما طلب القيام به من حقوق البشر؛ وهذا يحتاج لقوّة تُستمد من الله تعالى؛ لهذا قال الله حكاية عن نبيه هود أنه قال لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ(52)} سورة هود.

قال مجاهد في قوله تعالى:{وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ}: أي شدة إلى شدتكم([2]).
يقول ابن القيم – رحمه الله -: (الذكر يعطي الذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه) ([3])

وكما أنّ الداعية يستصحب ذكر الله والاستغفار في مبدأ دعوته؛ فعليه أن يواصل ذكر ربه واستغفاره حتى مع إقبال الناس على الدعوة؛ كما قال تعالى:{ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا(2) فسبح بحمد ربك واستغفره(3)} سورة النصر.

ثمّة قضيّة مُلحّة في طبيعة الدعوة الإسلاميّة وقيامات الدعاة بها؛ أن يُدركوا أنّها دعوة نقيّة خالصة من الشوائب، فهي دعوة إلى الله يُقدّم فيها الداعية مرادات الإله على هواه، ولقد أبدع الأديب أحمد حسن الزيات حين قال: (ليس من البر بالدين يا ورثة الأنبياء أن تخذلوا دعوة الله لتنصروا دعوة الإنسان)([4]).

إنّها دعوة لا ينبغي أن يُراد بها نُصرة شخص، أو تضخيم اسم حزب، أو إعطاء صبغة دعوية لدولة محددة؛ لتكون مهيمنة على الفكر الدعوي؛ فكل هذا خارج عن السياق الذي اطّردت الدعوة لأجله، وسارت عليه منذ البعثة الإسلامية المحمدية؛ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

إنّ آيات الدعوة في القرآن الكريم جليّة صريحة في بيان حقيقة من ندعو إليه الدعوة؛ ونحن أولى الناس بمعرفتها لكونها من أخطر المسالك التي إن تاه فيها الشخص في بداية طريقه؛ ولم يتدارك أمره؛ وإلاّ سيصل إلى نقيض ما يُريد تماماً وإن لم يشعر!

يقول تبارك وتعالى: (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين)؛ فهي دعوة ربّانية خالصة، ذات رسالة إصلاحية عمليّة صالحة؛ لا ترتبط بأسماء وأوصاف إلاّ بالإسلام فحسب، وإذا اختار أحدهم الولوج إلى تجمعات دعوية؛ فيكون هدفه نصرة الحق؛ فيكون مرادهم الحق والحق فقط؛ لا نُصرة الحزب أو الجماعة، لأنّ هذا من عزاء الجاهلية (وكل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية)([5]).

ويقول عزّ وجل: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) فالسبيل واحد لا اعوجاج عنه ولا التواء أو انثناء؛ القصد فيه وجه الله والدعوة لأجله وإليه وبه؛ ولا تتسق دعوة صحيحة لأجله إلاّ بكونه صاحب بصيرة ودراية وخبرة وهذا يُفيدنا كثيراً في مجال الاستبصار الدعوي في الحاضر والمستقبل بكل ما يمتّ إلى ما يدعو إليه من خير؛ ولا يقابل الدعوة أن تكون دعوة للنفس أو سوء قصد ونيّة في الدعوة؛ لهذا ينفي عن نفسه طبيعة الإشراك مطلقاً، كما جاء في الآية القرآنية الأخرى: {قل إنّما أدعو ربّي ولا أشرك به أحداً(20)} سورة الجن.

ويقول سبحانه: {ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104) ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم(105)} سورة آل عمران.

لقد نالت أمّة الإسلام الخيريّة من ربّها تعالى فقال: {كنتم خير أمّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله(110)} سورة آل عمران.

مُحكمات الخيريّة في الأمّة دعوتها إلى الخير، وخيريتها تُنال بأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، لتكون أمّة الفلاح لاستحقاق دخول الجنة.

غير أنّ من أخطر ما يُفرّق جمعها ويضعف وحدتها ما نبّهت عليه الآية بعدما ذكرت الدعوة إلى الخير؛ حيث نهت عن الفرقة- وهو الحاصل في الواقع – بكثرة التفرق بين دعاتها، واختلاف القلوب؛ مع أنّهم جميعاً يقرؤون القرآن ويؤمنون بالسنة، ويوحدون الله، ويصلون لقبلة واحدة؛ لكنّ قلوب بعضهم على بعض فيها من الإحن والضغائن، ما يشهد به كل من له بصيرة بواقع الدعوة المُعاصر؛ وهو مما يستجلب قوة الأعداء على الأمة حين تتحكّم الحظوظ النفسية، والنزاعات القلبية بين قادتها؛ فيكون ذلك سبباً لمدخل العدو في التسلط عليها وسلب مُقدّراتها؛ وقد جلّى هذه النقطة الإمام ابن تيمية؛ فقال: (التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشائخها، وأمرائها وكبرائها، هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها)([6])

•    اللازمة الثانية: (سنيّة الطريقة).

أيّما دعوة يقوم بها شخص أو مؤسسة؛ فلها أهداف ومسارات تنضمُّ جميعاً لتكون هي (المنهج المّتّبع)؛ والدعوة الإسلامية التي نصدح بها في آذان الناس علامتها الخلو والخلاص والنقاء من الشوائب والانحرافات؛ وخير من يمُثّلها من منظور شاملٍ تقوم عليه: (منهج أهل السنة والجماعة).

(أهل السنة) بلزومها غرز السنّة؛ وفهم الأثر؛ واتباع منهج السلف الصالح في مسائل الدين والمعتقد؛ ومجانبة البدع التي ليس عليها أمر النبي وشرعه، مع ما تختاره لذرّيتها منذ صِغَرِهم من يُحسن توجيههم؛ فمن نعم الله أن يتدارك عباده بعلماء صالحين اعتقاداً وسلوكاً؛ كما يقول أيوب السختياني: “إن من سعادة الحَدَث والأعجميّ أن يوفقهما الله لعالمٍ مِنْ أهل السنة”([7]).

وهذا تمسّ الحاجة له بالأخص إذا كان المحيط العائلي ملبَّداً بالغيوم البدعية؛ فيكون يستظل بِظلّها عُرضة للتأثر الظلامي؛ حتى إذا تيسرت له نجاته وخروجه عن هذه الدائرة المظلمة؛ اعتبرها نعمة تستوجب الشكر؛ ويكون ذلك في الأغلب بعالم سُنّيٍ يؤسسه على المنهج السليم؛ وقد حصل هذا ليوسف بن أسباط – أحد الصالحين – فقال: “كان أبي قدريا وأخوالي روافض فأنقذني الله بسفيان”([8]).

وبِكُلٍ فإنّ أهل السنّة يقومون بواجب ما يدعو إليه القرآن والسنة؛ من لزوم غرز الأثر؛ والاهتداء بطريقة خير البشر، واتباعه فيما أمر، والانتهاء عمّا نهى عنه وزجر؛ وألاّ نعبد الله إلاّ بما شرع؛ فهي دعوة:
(1) سُنّيَّةٌ: تنأى بنفسها عن طُرق البدعة المحدثة في الشرع مما ليس على أمر رسول الله ولا هديه؛ فتستوخم كلّ طريقة فيها هوى، أو شبهة، أو تشبه بغيرها في أصول منهجها واعتقادها وشرعتها، وقلبها لا يستطعم شيئاً ليس عليه العلامة النورانية الفارقة فهي دعوة:

(2) سَنِيَّةٌ: تنطبع بنور الرسالة وقبسها، وإشراقة الطريق الربّانية التي يسير فيها السالك إلى طريق ربّه؛ فيستضيء بنور القرآن وهدي السنة ويستعطي في دعوته من نور الله الذي يُبَصّره الطريق ويُجنيّه من كل مهلكة، ويسترشد المستعطي بها من ربّه أن يهديه الطريق السوي؛ الذي يهدي به كل من عرف سُننه في الكون والحياة؛ فهي دعوة:

(3)سَنَنِيّة: تستمدّ تجاربها وخبرتها وكشفها للطريق من السنن الكونية في الكون والحياة، وتهتدي بهدايات ربها، وتعرف قوانين التغيير، وتفهم أسرار الحياة، وطبائع البشر؛ كي لا تستعظم ما تظنه صغيراً؛ وليحسن عملها ودأبها في تغيير المجتمعات، طبقاً لسنن الله في الكون والحياة، ومعرفة سنن الأقوام مع الأنبياء والرسل في ميدان الرسالة الإصلاحية.

(والجماعة) = يلزمون جماعة المسلمين؛ ولا يُفارقونهم لجماعات الكافرين، والمارقين من الدين؛ أو يذهبون للفرق الاعتقادية التي خالفت عقيدتهم؛ ويتعاونون مع جماعة المسلمين بالنصرة والولاء، والمحبة والإخاء، لأنّهم يقولون كلمة التوحيد وبها يكون توحيد كلمتهم؛ فيحفظون بيضة الإسلام، وحوزة الشريعة، وحياض الدين؛ ويثبتون عليها؛ ويذبُّون عن كل من يروم دينهم بسوء؛ ولا يُفرّقوا دينهم شِيَعاً وأحزاباً وطوائف، ولا يبغي بعضهم على بعض؛ ويكونوا أمّة واحدة كالجسد الواحد، والبنيان المرصوص؛ فإنّ نُصرتهم على عدوهم تجب بنصرتهم فيما بينهم؛ وظهور دينهم يتحصّل بتظاهرهم على الحق.

•    اللازمة الثالثة: قدوة قياديّة:

بقدرِ ما تعظم الدعوة؛ بقدر عظمة من يقودها ويقوم بها.
فالإسلام بطبيعته لن يزيده الداعية حقاً ولا قوة؛ فهو دين ربّ العالمين؛ وإنما يستزيد المسلمون بقوّة إسلامهم وصدق تدينهم في واقعهم إذ يُقبل الناس على دين الله فيدخلونه أفواجاً لا أن يخرجوا منه فيكون الأدلاء على رسالة الإسلام بسوء تصرفاتهم ممن يحجبون غيرهم عن الدخول في الإسلام أفواجاً إذ يرون نماذج دعوية قياديّة ليست ذات قدوة ولا تحسن القيادة الدعوية؛ فيكون أولئك الدعاة فتنة لغيرهم بسوء تصرفهم.

الداعية قدوة فالناس تراه، وتسمع كلامه، وتطابق بين أقواله وأفعاله؛ قبل أن تقوم بالمبادرة؛ فإن كان ما يدعو إليه يقوم به؛ كان مغناطيساً للقلوب، وكُوّارة الناس؛ فكلما رأوه أدركوا أنّ لهذا الدين رجالاً يقومون بالحق قبل أن يقولوه؛ ويفعلون الصواب قبل أن يأمروا الناس به؛ فتكون قدوته هي المعلم الأساس في قياديّته وتأثر الناس به.

أتذكّر أنّ لقاء جمع عدداً من فضلاء الدعوة وبثّته قنوات فضائيّة عديدة؛ وكان من بينهم الشيخ الداعية د. محمد راتب النابلسي؛ فحين نبّه على أهميّة القدوة الدعوية، قال: أكبر شيء يضعف الدعوة: المسافة بين أقوال الداعية وفعله، ثمّ نقل عن الشيخ المُفسّر محمد متولي الشعراوي – رحمه الله – قوله: “ليحذر الداعية أن يراه المدعو على خلاف ما يدعو”.

إنّ الناس تتعلم بعيونهم أكثر من آذانهم؛ وقلوبهم تحكي صدق الداعية بغض النظر عن مدى قناعتهم بما يقوله أو لا، وبعض عتاة المجرمين من أشدّ الناس إساءة لفئة من الدعاة غير أنّهم في قرارة أنفسهم يحترمونهم ويُقدّرونهم لمعرفتهم بصدقهم في دعوتهم وأعمالهم؛ لهذا لا يستطيعون تشويههم من خلال أفعالهم؛ بل من خلال الافتراء عليهم؛ وهذه قضيّة سأعود للحديث عنها لاحقاً.

إذن؛ الشخصية الدعوية تحسن عرض دعوتها بمقام قدواتها؛ فتُستفاد منهم المواقف، والتطبيقات، والسلوكيات، التي يراها الناس بما يبلغ أثره في قلوبهم مبلغاً كبيراً، ومن جماليات مقولات أهل الحكمة في ذلك قولهم لمن أراد التأثير على الآخرين: “كونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، وكونوا دعاة الناس بأعمالكم، وكونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم”.

فالداعية قبل دعوة غيره للإسلام أن يدعو نفسه إلى الإسلام؛ وليعرض ما عمله على ما تعلّمه وعلّمه؛ كي لا يُصيبنا ما أصاب الأمم السابقة التي ضلّت سواء السبيل ممن كانوا قبلنا فقال تعالى عنهم: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب(44)} سورة البقرة.

يُظهر كثير من الناس الاحترام في وجوه فئة من الدعاة؛ لكنّها لا تتأثّر عملياً من الكلام الذي يقوله الداعية بمستوى قوَّة علمه؛ أو فَرَط فهمه فحسب؛ بل إضافة لذلك؛ ظهور حقيقة علمه بتطبيقه عملياً، وحسن تعامله، ونزاهة مواقفه، وطيب أخلاقه، وسمو أدبه؛ وعلى الجِهة الأخرى نرى تشبُّث أولئك الناس بكثير من الشخصيات الدعوية الإصلاحية؛ لما يرونه من صدق مطابقة أقوالهم بأفعالهم.

وتختلط المواقف عند كثير من الناس بسبب تصرفات خالفت التصورات؛ فترى عدداً من أهل العلم الذين ساروا على طريقة سليمة اعتقادية؛ وكان المجتمع يراهم نبراساً يُضيء لهم الطريق؛ غير أنّهم لم يثبتوا في مواقفهم وبدّلوا وغيّروا في ولاءاتهم مع حملهم للمنهج نفسه؛ فينفضُّ المجتمع من حولهم؛ وقلّما يُفرّق كثير منهم بين ما يدعو إليه المنهج بصوابيته؛ وما يرونه من أصحاب المنهج حين تخاذلوا عن نصرته؛ فيظنُّون أنّ المنهج ذاته هو طريقة ممارسة الدعاة؛ فيكون في ذلك أبلغ الفتن؛ وينقلبون على ما كانوا يؤمنون به ويقتنعون؛ ظانين أن المشكلة في المنهج نفسه؛ أو ردّة فعل عنيفة لئلا يُوصم من كان راغباً بأولئك الدعاة أنّه لا زال على طريقتهم وقد رأى الناس منهم ما رأوا؛ فيختارون طريقاً آخر!

يقترن ما ذكرته بما نبّه إليه الإمام الشاطبي في مقاربة شبيهة بقوله: “العالم إذا أخبر عن إيجاب العبادة الفلانية أو الفعل الفلاني، ثم فعله هو ولم يخل به في مقتضى ما قال فيه؛ قوي اعتقاد إيجابه، وانتهض العمل به عند كل من سمعه يخبر عنه ورآه يفعله، وإذا أخبر عن تحريمه مثلا، ثم تركه فلم ير فاعلا له ولا دائرا حواليه؛ قوي عند متبعه ما أخبر به عنه، بخلاف ما إذا أخبر عن إيجابه ثم قعد عن فعله، أو أخبر عن تحريمه ثم فعله؛ فإن نفوس الأتباع لا تطمئن إلى ذلك القول منه طمأنينتها إذا ائتمر وانتهى، بل يعود من الفعل إلى القول ما يقدح فيه على الجملة؛ إما من تطريق احتمال إلى القول، وإما من تطريق تكذيب إلى القائل، أو استرابة في بعض مآخذ القول، مع أن التأسي في الأفعال والتروك بالنسبة إلى من يعظم في دين أو دنيا كالمغروز في الجبلة، كما هو معلوم بالعيان؛ فيصير القول بالنسبة إلى القائل كالتبع للفعل؛ فعلى حسب ما يكون القائل في موافقة فعله لقوله يكون اتباعه والتأسي به، أو عدم ذلك)([9]).

من هنا نرى أهميّة القدوة الحسنة من الأقليّات المسلمة في دولٍ غير إسلامية؛ فكم سمعنا مِمّن دخل الإسلام؛ وقال: الحمد لله الذي عرفت الإسلام قبل أن أعرف المسلمين، أو قال: إن أردتم أن أدخل الإسلام بسبب أفعال المسلمين؛ فلن أدخله؛ وإنّما دخلته بسبب تعرفي على أصول الإسلام!

وللحديث بقية في الحلقة القادمة،،،

_____________________________

1.    أخرجه البخاري: (6937).
2.    تفسير الطبري: (15 / 359).
3.    الوابل الصيب، ابن القيم ص97.
4.    مجلة الرسالة/العدد 352/ مقالة بعنوان: فقهاء بيزنطة، منشورة بتاريخ: 01 – 04 – 1940).
5.    فتاوى ابن تيمية: (28/ 328).
6.    مجموع الفتاوى: (3 / 421).
7.    شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، اللالكائي: (1 / 61).
8.    شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، اللالكائي: (1/67).
9.    الموافقات للشاطبي: (4 / 85).
10.    حلية الأولياء، الأصبهاني: (6 / 366).
11.    ديوان أبو العتاهية، ص174
12.    أخرجه البخاري في صحيحه: (3231) ومسلم في صحيحه: (1795).
13.    أخرجه مسلم في صحيحه: (2599).
14.    مجموع الفتاوى لابن تيمية: (2 / 326-327).

(المصدر: موقع المسلم)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى