مقالاتمقالات مختارة

لمحات من الفكر التجديدي للشيخ المراغي

بقلم السنوسي محمد السنوسي

الشيخ محمد مصطفى المراغي (1881هـ- 1945م) واحد من أبرز علماء الأزهر الشريف الذين تولوا مشيخته، وتركوا بصمات عميقة الأثر في مناهجه وطريقة التدريس فيه.

وقد سار الشيخ المراغي على نهج الأستاذ الإمام محمد عبده في الفكر والممارسة، وفي الدعوة للإصلاح، خاصة فيما يتصل بالأزهر الشريف وتطويره وتجديده.

وبالرغم من المؤلفات القليلة التي تركها الشيخ المراغي، فإنها تدل على عمق فكره وموسوعيته، وعلى إدراكه المتميز لمقاصد الإسلام وتوجيهاته؛ بما يجعله من أعلام مدرسة التجديد.

وكان الجهد الأكبر للشيخ مُنصبًّا بحق على الإصلاح العملي، وعلى الاشتباك مع القضايا المطروحة على الساحة المصرية؛ فهو لم يكن من رجال العلم والفكر فحسب.. ولعل تعليقه على اشتراك مصر في الحرب العالمية الثانية، إذ يقول: “نسأل الله أن يجنبنا ويلات حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل”.. لعل هذا التعليق يدلنا على وعي الشيخ، وإلمامه بقضايا مجتمعه ووطنه، وأنه لم يكن منعزلاً في محراب العلم والأزهر.

كما يدلنا موقف الشيخ الرافض لطلب الملك فاروق إصدار فتوى تحرِّم زواج الأميرة فريدة- طليقته- من أي شخص آخر بعد طلاقها.. يدلنا على ما تحلَّى به الشيخ من جرأة في كلمة الحق، والصدع بها من غير  تهيّب لما للملك من نفوذ وسلطان.

ومن أهم كتب الشيخ المراغي رحمه الله كتابه (حديث رمضان)؛ الذى ضمّنه ما كان يلقيه من دروس في التفسير بمجلس علمي في شهر رمضان الكريم.. وكان الملك فاروق يحضر بعض هذه الدروس الرمضانية.

في كتابه تناول الشيخ تفسير خمس سور، هي (الفرقان، لقمان، الحجرات، الحديد، العصر).. وسار على طريقة الإمام محمد عبده في مَزْج التفسير بوقفات ولمحات تربوية وفكرية وتجديدية في العقيدة والأخلاق والأحكام وغير ذلك؛ بما يجعل القرآن الكريم كتابًا يرسم معالم الحياة، ويضيء واقع المجتمع.

وفي هذا المقال نشير إلى بعض أهم هذه اللمحات التجديدية في فكر الشيخ المراغي، التي ضمّنها كتابه (حديث رمضان)، الذي وزعته مجلة “الأزهر” هدية مع عددها الصادر في رمضان 1439هـ- مايو 2018م.

الإسلام سبب النهوض لا التخلف

يؤكد الشيخ المراغي أن الإسلام سبب نهضة المسلمين وقوتهم واتحادهم، وأن التمسك به هو السبيل لإعادة أمجاده التي ولّت… وينفي أن يكون الإسلام سبب التخلف كما يزعم البعض، فيقول:

“لا نجاة للمسلمين إلا بالرجوع إلى الله، وتفهم كتاب الله, والعمل بما سنه رسول الله. ومن الخطأ كل الخطأ أن يظن ظان أن تأخر المسلمين نشأ عن دينهم. كلا؛ فإن في دينهم من الأخلاق الكاملة الفاضلة, ومن الحث على العلم، ومن الأمر بتسخير ما خلقه الله للإنسان، ومن النظم الدقيقة للمجتمع، ومن الأوامر التي تحث على البذل والصدقة، والتضحية في سبيل الحق- ما لا يوجد عند غيرهم. ومن الحق أنهم تركوا دينهم فذلوا، وتركوا هدي الرسول فضلوا”.

تأكيد مكانة القرآن الكريم

يوضح الشيخ أن القرآن الكريم كان له أبلغ الأثر في نفوس المسلمين وعقولهم، وفي صياغة نُظمهم وتحقيق سعادتهم.. مبينًا أن العمل به لا يكون بمجرد الحفظ والتلاوة والتجويد؛ وإنما بفهمه وإدراك مقاصده.. فيقول:

“لا شك في أن للقرآن تأثيرًا في النفوس لم يبلغه من قبل شعر ولا نثر، ولا يدري الإنسان من أين جاء، ويقف أمامه موقف العاجز المذعن، منتهيًا إلى أنه من عند الذى يعلم السر في السماوات والأرض؛ هذا إلى ما فيه من نُظم للجماعة الإنسانية رُوعيت فيها مصالحها مراعاةً لا يقدر عليها إلا من يعلم السر في السماوات والأرض. وفيه إشارات إلى معارف دقيقة في الكون وأسراره كشف العلماء عن بعضها، ولم يكن من الميسور لأحدٍ زمن نزول القرآن إدراكُها. وقد دلت هذه المعارف على صدق قوله سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53).

وقد دلت التجارب على أن المسلمين سعدوا أيام أن عملوا بالقرآن واهتدوا بهديه، وشقوا أيام أن أعرضوا عنه وتركوه. وليس حفظه وتلاوته وتجويده هو العمل به، وإنما العمل به هو فَهْمه، وإدراك الأغراض العامة منه، وملاحظة أن تكون الأعمال جميعها في هذه الدائرة: دائرة الحق والعدل، والعلم والرشد”.

اتباع الدليل وذم التقليد

لا يستقيم التجديد في الفكر والسلوك، إلا إذا أعملنا العقل المنضبط بالوحي، وطرحنا عن أنفسنا رداء التقليد والاتباع دون دليل.

وقد بين الشيخ المراغي أن القرآن يذم التقليد في غير آية منه.. موضحًا أن (الأدلة) التي ينبغي أن نتبعها ليست أدلة المنطق والفلسفة- مما يصعب على كثيرين- بل اتباع الأدلة الواضحة المبثوثة في جنبات الكون، والتي تؤكد بوضوح ويُسر وجود الخالق سبحانه واستحقاقه العبودية وحده لا شريك له.

يقول الشيخ: ذم الله سبحانه المجادلين من غير علم، وذم التقليد وعدم الاهتداء بالعلم الناشئ عن الدليل أو بالهدى عن المعصوم أو بكتاب منير. وقد جاءت في القرآن آيات كثيرة في هذا المعنى تذم التقليد وتعيب المقلدين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170).

فالذي تقضى به آيات الكتاب الكريم أنه لا يجوز الاستناد إلى التقليد في أصول العقائد، وأن إيمان المقلِّد إيمان لا يعبأ الله به، وهو إيمان لا عمل لصاحبه فيه، وكيف ينجو مؤمن من غير عمل؟

وإذا جاز للمقلد النجاة بالتقليد لمجرد المصادفة وأنه اتبع والدًا أو شيخًا كان مؤمنًا، فلم يعذب الله من كان كفره بالتقليد ومجرد المصادفة، لأن أباه كان كافرًا؛ وكلاهما لا عمل له يعتد به؟ إن الكافر المقلد لم يُذم إلا لأنه لم يتبع طرق العلم الصحيحة، والمؤمن المقلد لم يتبع طرق العلم الصحيحة؛ لأنه وإن اتبع الرسول فهو لم يتبعه بعد أن قام الدليل عنده على صدقه، بل اتبعه تقليدًا. ولو أنه اتبع الرسول بعد أن قام الدليل عنده على صدقه، لكان ناجيًا لاشك؛ لأنه بعد قيام الدليل يكون قول المعصوم هديًا يصح الاستناد عليه، ويكون كتابه هديًا يصح الاستناد إليه.

وقد نصب الله الأدلة، وأوضح الحجة في الآفاق والأنفس. وليس الغرضُ من الأدلةِ الأدلةَ الجارية على قواعد المنطق في الأقيسة، ومقدماتها وأشكالها وضروبها؛ بل يكفى ما قاله الأعرابي: (البعرة تدل على البعير، وأثر الأقدام يدل على المسير؛ أرض ذات فجاج، وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على اللطيف الخبير؟!).

جناية صَرْف الناس عن الكون وعلومه

إذا كان (القرآن الكريم) هو كتاب الله المسطور المقروء، فإن (الكون) هو كتابه المنظور.. كلاهما سواء في الدلالة على عظمة الخالق سبحانه ووحدانيته، وبديع صُنعه وخَلْقه.. كما أننا مَدعوون إلى تدبر كليهما، والانتفاع من الأسرار المبثوثة فيهما.

وينعى الشيخ المراغي على المسلمين غفلتهم عن الانتفاع بالكون وعلومه، مبينًا أن هذه الغفلة مخالفة لما أمر به القرآن الكريم على وجه متكرر.

يقول الشيخ رحمه الله: “هذا الوجود هو كتاب الله الذي لا تنتهي كلماته؛ ولو كانت البحار مدادًا لكلماته لنفدت قبل أن تنفد كلماته”.

ويضيف: “لقد جنى بعض العلماء على المسلمين في الماضي جناية بعيدة الأثر في حياتهم، جناية صَرْفِ الناس عن الكون وأسراره؛ فهذا لا يتفق وأغراض القرآن. فضلاً عن أن هذه الدراسات رَفَعَ التعمقُ فيها أممًا من أمم العالم، ومكّن لها في الأرض؛ فاستولت على أمم تفوقها عددًا وثروة، واستوت على عروش العز والسلطان. وإهمال هذه الدراسات سلب العزة من أمم كانت خليقة بالعز، بتاريخها ودينها وثروتها. وإني أنصح قومي وأهل ملتي بتوجيه الجهود إلى الدراسات العلمية، واستثمار ما أودعه الخالق جل شأنه في معادن الأرض ونباتها وحيوانها، وما أودعه في الهواء والضوء وغير ذلك من الموجودات؛ فذلك خير مما نحن فيه دِينًا ودُنيا”.

تصحيح الموقف من الدنيا

الدنيا مزرعة الآخرة، وهي المجال الزمني والمكاني الذي يتحرك فيه الإنسان قبل أن يستقر به المقام في دار الخلود، ولذا، لا يمكن- ولا ينبغي- مخاصمتها وهجرها؛ بل لابد من الانتفاع بها وتسخيرها للعبادة، تلك العبادة التي خُلق الإنسان من أجلها.

وقد خسر المسلمون كثيرًا حين شاعت بينهم الأفكار التي تذم الدنيا بإطلاق، وتدعو لهجرها واعتزالها..!

وفي نظرة تصحيحية للموقف الواجب من “الدنيا”، يبين الشيخ المراغي، أن الدنيا ليست مذمومة في جميع أحوالها؛ بل هي مذمومة حين تكون دار لعب ولهو، لا دار جدّ وعمل وعمران واستعداد للآخرة.. فيقول في تفسير قوله تعالي: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الحديد: 20، 21):

“وصف الله سبحانه الدنيا في الآية السابقة بأنها لعب ولهو، وأنها زينة وتفاخر وتكاثر، وأنها متاع الغرور، وطلب في هذه الآية المسابقة إلى الأعمال الصالحة الموصلة إلى الجنة والمغفرة. وهذه المسابقة في الدنيا لا شك؛ وإذا كان ذلك كذلك فللدنيا صورتان:

صورة جدّ تكون فيها مطية الجنة ومزرعة الآخرة، وتكون ثمراتها نعيم الله ورضوانه ومغفرته؛ إذا أخلص العبد في العمل، واستمتع بزينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، ولازم حدود الله لم يتعدها، وأدى حقوق المال كاملة.

وصورة لعب ولهو تكون فيها الدنيا مطية النار، وتكون ثمرتها غضب الله وسخطه؛ إذا كاثر بالأموال والأولاد، وافتخر واختال، وبخل وحمل الناس على البخل، واسترسل في الشهوات، وأضاع حقوق الله وتعدى حدوده، وظلم عباد الله فجمع المال من غير وجهه ثم اكتنزه.

فالدنيا متاع الغرور، والدنيا متاع العقل والشرع. غير أن أكثر الخلق لما كانوا مشغولين بالدنيا على الصورة التي صورها بها القرآن في هذه الآية؛ أطلق الله فيها القول إطلاقًا، وجاء بهذه الصورة علي سبيل النص. ولما كان القليلون منهم هم المشغولين بالدنيا على وجهها الآخر؛ حبَّب الله إليهم التسابق في طلب المغفرة، ووعدهم الجنة؛ وكأن هذا إشارة إلى الصورة الثانية من صور الدنيا”.

تلك بعض لمحات من الفكر التجديدي للشيخ الإمام محمد مصطفى المراغي، رحمه الله رحمة واسعة، وتقبله في العلماء العاملين المجدِّدين..

(المصدر: إسلام أونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى