مقالاتمقالات مختارة

لماذا فشلت حملات مكافحة التمرد الأمريكية

لماذا فشلت حملات مكافحة التمرد الأمريكية

بقلم م. أحمد مولانا

“إن أي قائد يفكر في إرسال قوات أمريكية للمشاركة في حملة واسعة النطاق لمكافحة التمرد، يجب أن تُفحص قدراته العقلية“. بهذه الكلمات لخص وزير الدفاع الأميركي السابق روبرت جيتس الدروس الأمريكية المستفادة من خوض أميركا لحربيها بالعراق وأفغانستان.
فبعد ذيوع نهج مكافحة التمرد “COIN” في عهد الرئيس الأميركي بوش، إثر إصدار الجيش الأميركي لدليل ميداني مطول أصدره عام 2006 تحت إشراف قائد مركز الأسلحة المشتركة بالجيش الأميركي آنذاك الجنرال ديفيد بترايوس، ثم تطبيق بيترايوس لاحقاً لإرشادات هذا الدليل أثناء قيادته بنفسه للقوات الأمريكية في العراق ثم أفغانستان، تبين أن حملات مكافحة التمرد الأمريكية كللت بخسارة فادحة، سواء:
– ميدانياً عبر استفحال خطر تنظيم الدولة بالعراق مجدداً منذ عام 2011، واستيلائه على مدينة الموصل عام 2014، أو عبر تمكن حركة طالبان من استعادة زمام المبادرة بأفغانستان، وسيطرتها مجدداً على مناطق شاسعة ومتزايدة.
– اقتصادياً عبر استنزاف الاقتصاد الأميركي بنفقات هائلة لتغطية التكاليف العسكرية والأمنية، وأنشطة إعادة الإعمار المصاحبة للمغامرات الأمريكية بالخارج.
وفي هذا المقال سأستعرض بعض أسباب فشل حملات مكافحة التمرد الأمريكية من واقع الدليل الميداني للجيش الأميركي لمكافحة التمرد “FM24-3”، الصادر عام 2006. فهذا الدليل من أفضل ما يشرح أسباب إخفاق الحملات الأمريكية، والتي أخفقت لعدم قدرتها على تطبيق الإرشادات الواردة في الدليل المذكور. لا لرداءة التوجيهات الواردة فيه.
ما المقصود بحملات مكافحة التمرد؟
ينص الدليل على أن “حملة مكافحة التمرد، هي خليط من العمليات الهجومية والدفاعية، وعمليات الاستقرار التي تجري عبر خطوط متعددة من العمليات. وتتطلب إعداد جنود الجيش ومشاة البحرية الأمريكية للمساعدة في إعادة بناء المؤسسات وقوات الأمن المحلية والبنية التحتية، وتوفير الخدمات الأساسية، والالتزام بالقدرة على تيسير إنشاء الحكم المحلي وتطبيق القانون؛ ويتطلب تنفيذ تلك المهام التنسيق والتعاون المكثف مع كثير من الوكالات المختلفة، والحكومات، والدولة المضيفة، والوكالات الدولية“ .
ما هي أسباب الفشل؟
1- الإخفاق في كسب السكان للصف الأميركي
ينص دليل الميدان على أن “نجاح مكافحة التمرد يعتمد في المدى الطويل على السكان ومن يظنونه الأصلح لتولي مسؤولية شؤونهم العامة، ومن يقبلون بسلطته الحكومية” .
وقد أخفقت أميركا في كسب قلوب وعقول السكان في العراق وأفغانستان، إذ نظروا إليها على أنها دولة احتلال تسعى لنهب مواردهم “بالأخص في العراق” أو للتدخل في خصوصياتهم القبلية ”بالأخص في أفغانستان”. كما عمل البعد العقدي الديني على تحفيز قطاعات من السكان على قتال الجيش الأميركي. وقد نبه الدليل الميداني إلى خطورة مشاركة أي قطاعات من السكان في التمردات مهما كان صغر حجم المشاركين، قائلا “إن الحفاظ على الأمن في بيئة غير مستقرة تعتريها الفوضى يتطلب حشد موارد هائلة، سواء من الدولة المضيفة أو الولايات المتحدة الأمريكية، أو من أي دول أخرى متعددة الجنسيات. وعلى النقيض فإن حفنة صغيرة من المتمردين ممن تتوفر لديهم دوافع عالية، وبعض الأسلحة البسيطة، وأمن عملياتي جيد، وقابلية محدودة للحركة، يمكنها أن تقوض الأمن في مناطق شاسعة. ولذا فغالباً ما تتطلب عمليات مكافحة التمرد الناجحة نسبة عالية من قوات الأمن لتوفير الحماية للسكان، ولهذا السبب، فإنه يصعب تعزيز عمليات مكافحة التمرد طويلة المدى. إذ إن هذا الجهد يتطلب إرادة سياسية قوية، وصبراً طويلاً من جانب الحكومة والشعب والدول التي تقدم الدعم”.
2- دعم حكومات لا تحظى بشرعية
أكد الدليل الميداني على أهمية حيازة حكومة الدولة المضيفة للشرعية قائلاً “إن الشرعية تيسر على الدولة تنفيذ وظائفها الضرورية. والتي تشمل سلطة تنظيم العلاقات الاجتماعية، واستخراج الموارد، واتخاذ الإجراءات اللازمة باسم الشعب” . ثم قدم ستة مؤشرات للشرعية قائلا: ”توجد ست مؤشرات محتملة للشرعية، ويمكن استخدامها في تحليل التهديدات الموجهة للاستقرار، وتشمل التالي:
• القدرة على توفير الأمن للسكان “بما في ذلك الحماية من التهديدات الداخلية والخارجية”.
• اختيار القادة دورياً بطريقة يعتبرها معظم السكان عادلة ونزيهة.
• مستوى عالٍ من المشاركة الشعبية في الممارسات السياسية وفي دعمها.
• حَدٌ مقبول من السكان للفساد الذي تتحكم فيه التقاليد الاجتماعية.
• مستوى ومعدل مقبول للتنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
• مستوى عالٍ لقبول النظام الحاكم من قِبل المؤسسات الاجتماعية الرئيسية” .
والمتأمل لواقع الحكومات التي أنشأتها أميركا بالعراق وأفغانستان يجد أنها حكومات مفتقدة للشرعية، سواء لتأسيسها على أسس طائفية، أو لتبعيتها الكاملة للإدارة الأمريكية.
3- الاستخدام المفرط للقوة
أدى الاستخدام الأميركي المفرط للقوة ضد الشعوب إلى حدوث نقيض غرضها، وتأجيج العداء لها، رغم تشديد الدليل الميداني على خطورة ذلك بالقول: ”ينبغي على مكافحي التمرد أن يحسبوا بعناية نوع وكمية القوة التي يلزم استخدامها، ومن سوف يستخدمها ببراعة في أي عملية. فالعملية التي يُقتل فيها خمسة متمردين، ستأتي بنتائج عكسية تماماً في حالة ما إذا أدت الأضرار الشاملة التي نتجت عنها إلى استقطاب خمسين متمرداً أو أكثر” .
4- افتقاد الأسس الأخلاقية
رغم تأكيد الدليل الميداني على وجوب ”عدم تعريض أي شخص محتجز أو تحت سيطرة وزارة الدفاع، بصرف النظر عن جنسيته أو موقع تواجده، للتعذيب أو العقاب أو المعاملة الوحشية أو غير الإنسانية المهينة” ، وعدم جواز “احتجاز أفراد أي أسرة أو رفقاء حميمين، لإجبار المتمردين المشتبه فيهم على الاستسلام أو الإدلاء بمعلومات.. والتشديد على اعتبار أن التعذيب والمعاملة الوحشية أو غير الآدمية أو المهينة أمر غير مقبول من الناحية الأخلاقية على الإطلاق، حتى ولو كان الحصول على هذه المعلومات يتوقف على أرواح آخرين” . فإن الحكومات الأمريكية المتعاقبة اعتمدت على التعذيب والممارسات غير الأخلاقية في تعاملها مع خصومها مثلما حدث في سجن أبي غريب ومعتقل جوانتامو وفي السجون السرية.
والعجيب أن الدليل الميداني شدد على أن “جميع الجهود المبذولة لبناء حكومة شرعية باستخدام أفعال غير شرعية يُعد أمراً مدمراً للذات” ، ثم أورد فقرة كاملة تحت عنوان: ”فقدان الشرعية الأخلاقية تعني خسارة الحرب”، تناول فيها أسباب فشل فرنسا في حملتها الدموية بالجزائر قائلا: ”خلال حرب الاستقلال الجزائرية في الفترة ما بين 1954 و 1962 ، قرّرَ القادة الفرنسيون السماح بتعذيب المشتبه بهم من المتمردين. وعلى الرغم من أنهم كانوا على وعي تام بأن ذلك يخالف القانون العسكري وأخلاقيات الحرب، إلا أنهم استندوا على الحجج التالية:
– أن هذا شكل جديد من أشكال الحرب، وأن القواعد والأعراف المتداولة للحرب لا تسري عليها.
– أن الخطر الذي يمثله العدو والشيوعية كان شراً كبيراً يبرر استخدام وسائل وطرق استثنائية.
– أن تطبيق التعذيب وتنفيذه ضد المتمردين يتم قياسه ولا يجري دون مبرر.
وهذا التغاضي الرسمي عن التعذيب من ناحية قيادة الجيش الفرنسي كان له العديد من التبعات السلبية. إذ قوّض الشرعية الأخلاقية الفرنسية وأحدث انكساراً داخلياً معنوياً بين الضباط الذين كانوا في الخدمة، أدى إلى القيام بانقلاب عسكري فاشل في عام 1962. وفي النهاية، فقد أسهم الفشل في التقيد بالقيود القانونية والأخلاقية ضد التعذيب في تقويض الجهود الفرنسية بصورة خطيرة، كما أسهم في خسارة الحرب على الرغم من العديد من الانتصارات العسكرية الهامة التي تحققت”.
النهج البديل “التدخلات المحدودة”
بدلاً من استراتيجية مكافحة التمرد، اعتمدت إدارة أوباما على خيارات أقل كلفة أسمتها “مقاربة التدخلات المحدودة”. وهذه المقاربة تؤكد على استخدام القوة الجوية وتقديم التزام محدود من قبل القوات البرية الأمريكية “عادة من قوات العمليات الخاصة” لتحقيق أهداف محددة بدقة، كإضعاف تنظيمات معينة عبر تصفية أو أسر قادتها. وهذه المقاربة لمكافحة التهديدات غير النظامية ظهرت للعيان في التدخلات العسكرية الأمريكية المحدودة في بلاد مثل الصومال واليمن وليبيا والعراق “مجدداً عقب تنامي خطر تنظيم الدولة الإسلامية”.
وقد حازت “مقاربة التدخلات المحدودة” على قدر كبير من القبول داخل مجتمع الدفاع الأمريكي. ومع ذلك، ففي الآونة الأخيرة، تعرضت لانتقادات من جانبين، الأول من يعتقدون بأن الولايات المتحدة لا ينبغي أن تتدخل على الإطلاق، والثاني من يعتقدون أن الولايات المتحدة يجب أن تستخدم القوة بشكل أقوى عندما تتخذ قراراً بالتدخل . ورغم ذلك ما زال ترامب حتى الآن ملتزماً بهذه المقاربة.

[لتحميل العدد الجديد من مجلة كلمة حق bit.ly/2KnCNmM]

(المصدر: مجلة كلمة حق)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى